جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الخامس والأربعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8141 - 2024 / 10 / 25 - 02:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

بطرح السؤال "ما هو الإنسان؟" نتساءل عن الطريقة التي ينتمي بها السؤال عن الإنسان والسؤال عن الوجود إلى بعضهما البعض. في سؤال الوجود نتساءل عن وجود الموجود. في سؤال وجود الموجود يكمن السؤال الأكثر أصالة عن الوجود من حيث هو كذلك: يتضح أن الوجود يقال بطرق مختلفة، مثلا، باطن، وجود، وجود-حق. لا يمكن التعرف على وحدة هذه الأنماط للتعبير عن الوجود إلا إذا تم طرح سؤال الوجود من حيث هو كذلك (وهو ما قام به بيليدور في الفصل الثالث). لكن هذا السؤال يعود إلى سؤال أكثر بدائية: “على أي أساس يجب إذن أن نفهم شيئا مثل الوجود، مع كل الغنى الذي يحتويه من مفاصل وعلاقات؟ إن الوصول إلى هذا "الأين"، الذي يجب أن يُفهم انطلاقا منه الوجود كما هو، يتم السعي إليه عن طريق تأويل الفهم الأنطولوجي للإنسان. هذا الفهم للوجود ليس خاصية يمتلكها الإنسان. ولا يكون حقا الإنسان إنسانا بالأولى إلا بفضل هذا الفهم الأنطولوجي. فهو إذن ال"هنا، الذي مع وجوده يحدث الاقتحام اللامتحجب في الموجود. بفضل هذا "الاقتحام" يستطيع الموجود الذي يكون هو الإنسان والموجود الذي لا بكونه أن يظهرا. ميتافيزيقا الوجود-هنا (Da-sein) لا تعني: ميتافيزيقا حول الوجود-هنا، بل الميتافيزيقا التي "تحدث بالضرورة كوجود-هنا"، السؤال حول وجود الموجود والوجود كما هو يقدم نفسه في الهنا من الوجود-هنا. يصبح الوجود-هنا أساس الميتافيزيقا. هكذا إذن، بما أن الوجود-هنا هو هذا الأساس وأن لاتحجب وضعه أنطولوجي، تسمى بالتالي ميتافيزيقا الوجود-هنا الأنطولوجيا الأساسية. لكن هذه الأنطولوجيا (باعتبارها تحليلا وجوديا) ليست سوى "الدرجة الأولى من ميتافيزيقا الوجود-هنا". إنها تزيل الحجاب عن العوز الأنطولوجي للوجود-هنا، الذي يكمن في نسيان وزمنية هذا العوز.
إنه يستهدف إذن من هنا المعنى "الأساسي-الأنطولوجي" على نحو صحيح للسؤال حول الزمان، مهمة التفكير انطلاقا من زمانية الوجود-هنا، في هذا الزمن الذي ضمن أفقه وضعت الميتافيزيقا الوجود ك"استمرار في الوجود". لكن، لأن سؤال الوجود يشكل دائرة (لأن الوجود لا بداية له ولا نهاية)، فهو يحيل إلى سؤال وجود الإنسان الذي يتميز على وجه التحديد عن الموجودات الأخرى، باعتبار أن طرح سؤال الوجود هو هو طرح سؤاله الخاص. التساؤل عما هو الوجود هو بمثابة إحالة إلى الدازاين من حيث أنه موجود، في وجوده "يوجد" الوجود، وعلى العكس، السؤال عن الدازاين، هو اكتشاف معناه الأكثر عمقا كذازاين، أي كمكان يظهر فيه الوجود.
إن انفتاح الوجود يحفزه انفتاح الدازاين، مثل انفتاح الدازاين هو في انفتاح الوجود. وهذان الجانبان من نفس "الظاهرة" يحفزان بعضهما البعض بشكل متبادل وبشكل لا ينفصم "الإحساس بالوجود". هذا هو السبب في ان على الأنطولوجيا أن ترتكز على التحليل الوجودي للدازاين باعتباره البعد الذي يجعل من الممكن أن نطرح سؤال الوجود. وقد قمنا في الفصل السابق بتعريف كلمة "الوجود"؛ وبينا العلاقة القائمة بين الوجود، الحقيقة والحرية. إنما على حقيقة الوجود ذاته يحيل الدازاين، بحيث أنه يتحرك في الحقيقة التي تؤسس الماهية الأصلية للحرية. لكن الدازاين هو الحرية؛ والحقيقة لا تكون في علاقة وثيقة بالدازاين إلا على أساس الوجود نفسه. وهذا ما سمح لهايدجر بكتابة هذه الجمل الثلاثة الصغيرة الغامضة في كتاب "الوجود والزمان": "لا وجود - لا واجد - إلا بقدر ما توجد الحقيقة. هذه الاخيرة ليست سوى الدازاين. الوجود والحقيقة هما أصلان مشتركان." يكمن الفكر الهايدجري في تأكيد هذه العلاقات العميقة بين الوجود والموجود، بين الوجود والدازاين، والوجود والحقيقة. لهذا السبب، نؤكد أن الحقيقة والحرية، من حيث جوهرهما، هما نفس الشيء الواحد وتكونان بشكل مطلق البنية الأنطولوجية للإنسان. ومع ذلك، نواصل نهجنا، لأنه ما يزال هناك شيء آخر علينا تبيانه. رأينا أن الدازاين هو في الأساس كاشف. يظهر الموجود بتركه يوجد كما هو، أي يكون مُمنوحا للموجود في كليته. ولأن الحرية خضوع لم يعد الموجود في كليته يظهر لنا إلا بوجهه المتعالي كفهم مسبق يفتح أفق كل الواقع على شكل تطلع "دنيوي"، ولكن أيضا باعتباره بُعدا حقيقيا للموجود الذي يظهر دائما ضمن منفتح. ببقائه ضمن حدود الميتافيزيقا، ما يزال الوجود يسمى بالموجود في كليته.
تتضمن البنية الانطولوجية المسبقة للدازاين حضور الكينونة في الوجود ذاته، هكذا يكتب هايدجر: "الإنسان هو راعي أو انفراجة الوجود؛ عندما يتوقف عن التصلب على حريته باعتبارها الأساس النهائي لكل شيء، فهو يختبر نفسه باعتبار أن الوجود يطالبه بأن يكون مكان إنارته". إن جوهر الدازاين هو "الوقوف في ضوء الوجود"، فهو يسمح للوجود بالانكشاف. وجود الدازاين الذي به يتعلق الأمر في السؤال عن وجوده ذاته، يجب أن يُفهم انطلاقا من الوجود كوجود منفتح Ek-sistenz، أي من الوجود "المتعالي" الذي يصبح نور الوجود أو حقيقة الوجود من خلال إظهار نفسه في انفتاح الدازاين. في حد الدازاين هذا، يظهر حضور الوجود في جوهر الإنسان. الإنسان هو "هنا" (da) الوجود، مكان انكشافه. قلنا سابقا إن الدازاين حرية، وقبل أن يغلق الكاتب هذا البعد الأول، اقترح تفسير الحرية كشرط لإمكان ظاهرية الوجود في النقطة التالية.
(يتبع)
نفس المرجع