جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السادس والتسعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 02:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

بعد أن انتهى إيمانويل رينو من تقديم محتوى القسم الأول من الفصل الخامس من كتاب "فينومينولوجيا الروح" جاء دور فرانك فيشباخ لكي يقدم لنا محتوى القسمين الثاني والثالث بطريقته. والواقع أن العنوان الذي اختاره فيشباخ لمحاولته هاته يدل بوضوح على الارتسمات التي خرج بها من قراءته لذينك القسمين المومئ إليهما: ("فعل الكل ولكل واحد": الاسم الآخر للروح).
وهكذا أشار منذ البداية إلى أن فانسان ديكومب عندما كتب أن ما أسماه هيجل "الروح الموضوعية" يعني "حضور الاجتماعي في روح كل شخص"، فقد عبر بأمانة عن موقف هيجل عندما افترض أن الاجتماعي حاضر للفرد أو في الفرد كفرد، بقدر ما يكون في المقابل الفرد حاضراً للمجتمع أو في المجتمع دون أن يتوقف عن كونه فرداً.
لا فائدة من التوقف عن قول "أنا" حتى نتمكن من قول "نحن"، بل على العكس: عندما يتعلق الأمر بالاجتماعي، فإن "أنا" تستطيع أن تقول "نحن" دون أن تتوقف عن قول "أنا"، وعلى العكس - الأمر الأكثر إثارة للدهشة - فإن "أنا" تستطيع أن تقول "أنا" مع الاستمرار في قول "نحن" في نفس الوقت. المشكلة تكمن في فهم كيف يكون ذلك ممكنا. يتعلق الأمر بفهم ما عبر عنه بنفنيست فيما بعد في شكل آخر بقوله إن "نحن" ليست "أنا" مضاعفة، بل "أنا" موسعة: ليست "نحن" نتاج إضافة "أنا"، بل مجموعة أو عدد كبير من "أنا" تتوسع إلى "نحن"، بحيث أن كل "أنا" تتعرف على نفسها أو على هويتها الخاصة في "نحن" التي تشكلها مع "أنا" أخريات. تبعا لذلك، إذا كان بوسعنا أن نقول عن "نحن" إنها "أنا" موسعة، فيمكن أن تكون "الأنا" (وكل "أنا")، على العكس، عبارة عن "نحن" مختزلة.
بعبارة أخرى: ليس فقط أن هوية كل "أنا" ليست مقصورة على هوية "نحن" ("الأنا" لا تحتاج، من أجل تعريف ذاتها، إلى تمييز نفسها عن "نحن"، ناهيك عن معارضة ذاتها لـ "نحن" التي تعرف نفسها كمكون أو عضو فيها)، ولكن هوية كل "أنا" يتم تحديدها من خلال "نحن" وبفضل "نحن". وعلى حد تعبير فانسان ديكومب: "إن مفهوم الهوية يسمح لهذا الفرد بأن يجد نفسه خارج ذاته؛ "إنها تسمح له بأن يقول "أنا" عن شيء آخر غير ذاته".
هذه هي المشكلة التي حاول هيجل توضيحها في "فينومينولوجيا الروح" ، وخاصة في القسم ب من الفصل الخامس منه: كيف يمكننا أن نفسر أن الوعي الفردي، "الأنا"، ليس فقط لا يحتاج (إلا مؤقتا) إلى معارضة ذاته بـ "نحن" التي ينتمي إليها من أجل إدراك نفسها وتحديدها في تفردها، ولكن لا يمكنها حقا إدراك هويتها الفردية وتحديدها إلا بشرط القيام بذلك بدء من هوية "نحن"؟
ما نحتاج إلى فهمه، إذن، هو أنه إذا كان "الفرد يحدد ذاته من خلال إعلان ما هو في نظره جزء من هويته"، فإن ما هو جزء من هويته ليس في نهاية المطاف سوى "ما هو جزء منه"، أي "نحن" أو "المادة الأخلاقية" التي يحافظ "الأنا" معها على علاقة هي في نهاية المطاف علاقة تعبير أكثر منها علاقة انتماء. من الأفضل أن نتحدث هنا عن بتعبير بين أو بتعبير متبادل إلى الحد الذي تفهم فيه "الأنا" ذاتها كتعبير عن "نحن" أو عن الجوهر الأخلاقي بقدر ما تتصور هذا الأخير كتعبير عن ذاتها. وهذا ما يجعله يدرك ذاته أيضا باعتباره "مؤلفا" أو بالأحرى باعتباره مؤلفا مشاركًا (مع الآخرين) للجوهر الأخلاقي: هذا هو المعنى، كما سنرى، لشكل الشيء نفسه في النقطة (أ) من القسم (ج) ("مملكة العقل الحيوانية والخداع، أو الشيء ذاته") من الفصل الخامس من "فينومينولوجيا الروح".
لكن إذا كان الوعي أو "الأنا" يتحدد بذاته، أي أنه يبني هويته من "نحن" التي هو جزء منها، فذلك ليس فقط لأن الـ"أنا" يتوصل إلى تصور نفسه كمؤلف مشارك في "نحن" أو الجوهر الأخلاقي، بل إنه اولا وقبل كل شيء ينجح في فهم نفسه كمشارك في هذا الجوهر: حقيقة التصور الأول، المقدم في بداية الفصل الرابع، للجوهر باعتباره "أنا التي هي نحن ونحن الذي هي أنا" (262، ترجمة معدلة/108) لا يتم الوصول إليها إلا في نهاية الفصل الخامس مع فهم الشيء ذاته على أنه يتألف من "فعل الكل ولكل واحد [ Das Tun Aller und Jeder ]" (498/227)، والذي يؤدي في حد ذاته إلى تصور الجوهر الأخلاقي باعتباره "الكوني الذي لا يكون كائنا إلا باعتباره هذا الفعل للكل ولكل واحد" (المرجع نفسه).
(يتبع)
المرجع: https://books.openedition.org/enseditions/42201