جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثالث والتسعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8264 - 2025 / 2 / 25 - 00:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

العقل الملاحظ (القسم أ)
إذا كانت مقدمة الفصل الخامس قد عبأت مفهوم العقل في سياق مواجهة المثالية المتعالية، فإن سلسلة تجارب الوعي التي تم تحليلها في قسم "العقل الملاحظ" هي مناسبة لمواجهة البرامج العلمية المختلفة المتعلقة بعلوم الطبيعة، بعلم النفس وبالمنطق. هذه البرامج العلمية كلها عبارة عن أمثلة على ما يسميه هيجل أحيانا "التجريبية العلمية". تتميز الأخيرة عن تجريبية الحس المشترك في أنها لا تحدد ببساطة الحقيقة بما هو معطى في الإدراك، ولكنها تعتمد على البحث التجريبي ليس فقط لفهم تفرد الأشياء ولكن لصياغة المبادئ الكونية التي تشكل العقلانية المحايثة للتجربة ( الموسوعة، الجزء الأول، الفقرة 38).
تم تحديد هذا الاختلاف، في مقدمة القسم "العقل الملاحظ"، من خلال التعارض بين الإدراك البسيط، السلبي، الخالي من الفكر والموجه نحو الفردي، والملاحظة النشطة التي يقودها الفكر والموجهة نحو الكوني. في حديثه عن الوعي، كتب هيجل: "في السابق، لم يحدث له سوى إدراك جوانب عديدة من الشيء، واكتساب تجربته؛ هنا، يثبت الملاحظات والتجربة نفسها" (322/137). مقتنعا بأن الواقعية أمر عقلاني، "يغذي العقل الآن اهتماماً كونياً بالعالم" (المصدر نفسه). متيقنا من قدرته على معرفة عقلانيته المحايثة، يعتمد العقل على ملاحظة موجهة بالفكر لإنتاج هذه المعرفة: "إن الوعي يلاحظ، أي أن العقل يريد أن يجد ويمتلك نفسه كمتعارض- مع موجود، كنمط من الوجود الواقعي، الحاضر بشكل محسوس." (323/138).
يمكن صياغة الصعوبات في تأويل الانتقال من المقدمة إلى القسم (أ) من خلال السؤالين التاليين: ما معنى العلاقة القائمة بين التجريبية العلمية والفلسفة المتعالية؟ ما هي الرهانات المطروحة في هذه المواجهة مع العلوم التجريبية؟ الجواب على السؤال الأول هو أن الفلسفة المتعالية، بسبب شكليتها، مدانة من لدن "التجريبية المطلقة" كما رأينا أعلاه. كون الفلسفة المتعالية مزيجا متناقضا من المثالية والتجريبية يبطل، حسب هيجل، فكرة الأساس المتعالي للعلوم الطبيعية، كما تم تطبيقه مثلا في "المبادئ الميتافيزيقية الأولى للعلم الطبيعي" لكانط. ولكن في قسم "العقل الملاحظ"، سوف يوجه هذا الموضوع بشكل رئيسي ضد مزيج من الشكلانية والتجريبية الموجود لدى شيلينج وتلاميذ مدرسته الذين ادعوا أنهم تجاوزوا تجريد الفلسفة المتعالية في بناء قبلي لجميع ظواهر الطبيعة انطلاقا من قطبية أصلية تشرف على إنتاجها. سواء كانت المبادئ المفترض أنها توجه ملاحظة الطبيعة مستمدة من نظرية حول أشكال التمثل، كما هو الحال في الفلسفة المتعالية، أو من نظرية حول القطبية البنيوية للظواهر، كما هو الحال عند شيلينج، تتم إدانتنا في الواقع بتطبيق شكل خارجي على المواد التجريبية ونحن ممنوعون من معرفة عقلانيتها المحايثة.
من خلال تحليل تنوع المبادئ العقلانية التي تحكم ملاحظة الظواهر الطبيعية، يؤكد هيجل أيضا، ضد الفلسفة المتعالية كما ضد فلسفة الطبيعة الشلينجية، أنه لا توجد عقلانية واحدة ولكن عدة عقلانيات محايثة للظاهراتية: سنرى على وجه الخصوص أنه إذا كان البحث عن القوانين مشروعا في إطار الطبيعة الميكانيكية (سيحيل هيجل إلى قانون السقوط الحر) والطبيعة الفيزيائية (سيذكر هيجل الكهرباء والكيمياء)، فإنه ليس كذلك في ما يتعلق بالطبيعة العضوية والروح. ستوضح الموسوعة التوجه التعددي لنظريتها الهيجلية فطعن الطبيعة والنزعة المعادية للاختزال في نظرية المعرفة من خلال التأكيد على أن الطبيعة يجب أن تعتبر نظاما من المستويات (الموسوعة، الجزء الثاني، الفقرة 249) والتي تشكل موضوع المعارف العلمية التي لا يمكن اختزال إحداها في الأخرى.
إذا كان من السهل فهم العلاقة بين قسم "العقل الملاحظ" ونقد كانط وفيخته وشيلينج، فمن الصعب للغاية تحديد الرهانات الإبستيمولوجية الصارمة لمناقشة العلوم التي تتطور ضمنها.
من ناحية أخرى، يحاول هيجل بوضوح تحديد إحدى خصوصيات العلوم التجريبية في عصره الذي ساد فيه إجماع واسع النطاق إلى حد ما بشأن الحاجة إلى توجيه الملاحظة من خلال المبادئ العقلانية. ومن ناحية أخرى، قد تبدو العلاقة مع علوم ذلك العصر بالغة الأهمية، خاصة لأن القسم المعنون "العقل الملاحظ" يختتم بنقد هذه العلمين الزائفين اللذين هما علم الفراسة وعلم فراسة الدماغ.
مع ذلك، سيكون من الخطأ أن ننظر إلى ذلك باعتباره رفضا شاملاً للعلوم التجريبية، التي سيؤكد هيجل لاحقا أنها الافتراض والشرط لفلسفة الطبيعة (الموسوعة، الجزء الثاني، ىالفقرة 246). لقد سبق أن لاحظنا أنه إذا تم انتقاد البحث عن القوانين التجريبية للظواهر العضوية والنفسية، فلا يتم انتقاده على الإطلاق في تطبيقه على الظواهر الميكانيكية والكهربائية والكيميائية. وعلى نحو مماثل، إذا ظهرت التصنيفات كأشكال غير قادرة على استيعاب العقلانية المحايثة للطبيعة الكيميائية والعضوية في حد ذاتها، فهذا لا يعني أنه من غير الممكن أن تكون لها أي قيمة بمجرد تأسيسها على نظرية مناسبة للعمليات الكيميائية والجيولوجية والنباتية والحيوانية، كما سيظهر بشكل أكثر وضوحا في فلسفة الطبيعة طي الموسوعة.
لنلاحظ أيضا أن الانتقادات الموجهة إلى العلوم التجريبية والتي نتناولها هنا لا تتعلق كثيرا بقيمة معرفتها، مع بعض الاستثناءات (بما في ذلك علم الفراسة وعلم فراسة الدماغ)، بل تتعلق بالفهم الذاتي التجريبي لما يجعل معرفتها ذات قيمة. يعتقد العقل الملاخظ أن المبادئ العقلانية لمعرفة الواقعية تنحصر في مبادئ تنظيم الملاحظات، ويعتبر أن حقيقة هذه المبادئ تعتمد على قدرتها على تنظيم الملاحظات بطريقة متماسكة وشاملة. وهذا يعني أن حقيقة المبادئ العقلانية تكمن في الملاحظات، ولكن الصعوبات التي تواجهها تكشف لنا أن القيمة المعرفية للملاحظات تعتمد على طبيعة المبادئ العقلانية.
يكتب هيجل في هذا الاتجاه أن"الوعي الملاحظ، يقترب من الأشياء برأي أنه يأخذها في الحقيقة كأشياء محسوسة، معاكسة للأنا؛ ولكن فعله الواقعي يناقض هذا الرأي، لأنه يعرف الأشياء، ويغير مظهرها المحسوس إلى مفاهيم، أي إلى كائن هو في نفس الوقت الأنا، [...] ويؤكد في الواقع أن الأشياء لا تملك الحقيقة إلا باعتبارها مفهوم." (324/138)
خبرات العقل المراقب بالنسبة إلينا لها أهمية في جعله يدرك طبيعة عمل المعرفة الخاص به: "ستتلخص نتيجة حركته، بالنسبة لنفسه، في أن يصبح لذاته ما هو في ذاته" (325/138).
نفس المرجع