جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الخامس والتسعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8273 - 2025 / 3 / 6 - 02:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

القوانين المنطقية، القوانين السيكولوجية (القسم أ 2)
من المناسب التذكير بأن الوقوف على مجمل تعاريف الحقيقة عند هيجل لن يكون ممكنا إلا انطلاقا من قراءة كتابه الموسوم ب"فينومينولوجيا الروح". وها قد قادتنا هذه القراءة إلى اكتشاف نظرة هيجل إلى ذينك النوعين من القوانين حيث يلاحظ أن العقل عندما يتجه إلى ملاحظة الوعي الذاتي، فإنه يتخذ في المقام الأول الوعي المفكر كموضوع له. مرة أخرى، يبدو القانون بمثابة الشكل المناسب للمعرفة العقلانية من خلال الملاحظة، وينخرط هيجل في هذا الصدد في نقد التصور التقليدي للمنطق باعتباره علم القوانين الشكلية للفكر الحقيقي. ينتقد هيجل هذا التصور للمنطق لأنه يتصور الفكر كمجموعة من الأشكال، في حين أن المفاهيم، الأحكام والقياسات ليست أشكالاً فكرية بدون محتوى، وأن حقيقتها تتوقف بالضبط على محتواها. ويؤكد أيضا أن ما يتصوره المنطق تقليديا كقوانين مستقلة (مبدأ عدم التناقض، مبدأ العلة الكافية، قواعد الاستدلال الصحيح، إلخ..) ليست مستقلة عن بعضها البعض: "في حقيقتها، بقدر ما هي، في وحدة الفكر، لحظات تختفي، يجب اعتبارها معرفة أو حركة مفكرة، لا قوانين المعرفة" (381/168). إذا بدت شكلية للغاية للوهلة الأولى، فيبدو الآن أنها "تفتقر إلى الشكل الذي هو جوهرها" ( نفس المصدر )، شكل الحركة الذاتية للمفهوم الذي يميز الحقيقة. وكما ثبت أن شكل القانون غير قادر على استيعاب العملية الجوهرية للطبيعة، فقد ثبت أيضا أنه غير قادر على استيعاب عملية الفكر الحقيقي.
سوف يواجه علم نفس الملاحظة مشكلة مماثلة عندما يتخذ "الوعي النشط" هدفاً له، فيسعى إلى إرساء قوانين تفسر شخصية وأعمال الفرد من خلال بيئته، أي من خلال "الظروف، الوضع، العادات، الأخلاق، الدين، إلخ.." (384/169-170). لكن تمكن خاصية من خصائص البيئة من التأثير على فردية واحدة دون أخرى يجد تفسيره من خلال طبيعة هذه الفرديات، التي، علاوة على ذلك، لديها القدرة على تعديل بيئتها من خلال العمل. إن العلاقة بين الفردية والبيئة هي عملية فعل متبادل لا يمكن لشكل القانون أن يلتقطها بشكل كاف، بدلاً من أن تكون علاقة ثابتة بين الأسباب والنتائج المستقلة، والتي يمكن وصفها في شكل قوانين السلوك.
قوانين الفسيولوجيا وقوانين علم فراسة الدماغ (القسم أ3)
يقوم القسم الفرعي الأخير بتحليل طرق أخرى لصياغة قوانين العقل. إن الأمر يتعلق مرة أخرى بدراسة ليس فقط الفكر ولكن الشخصية والفعل، وبدلاً من تفسير الأخير من خلال الخصائص الخارجية للبيئة، فإن النهج يتمثل في تحليل الشخصية من خلال تعبيرها الجسدي في ملامح الوجه (القوانين الفسيولوجية) وعظام الجمجمة (قوانين الفراسة). في هذه اللحظة التركيبية، وبما أن ملاحظة الوعي الذاتي (كما في أ2) تصبح أيضا ملاحظة للطبيعة (كما في أ1)، تصبح اللهجة أكثر انتقادا من ذي قبل. علم الفراسة وعلم فراسة الدماغ هما من العلوم الزائفة. أكيد أنهما ليسا غير عقلانيين مثل "علم التنجيم، قراءة الكف، وعلوم أخرى من نفس النوع" (392/174) طالما أن الروح الفردية لا يمكن فصلها أبدا عن طبيعتها الجسدية، ومن المشروع بالتالي التساؤل عن العلاقة بين أحدهما والآخر (كما سيفعل هيجل في قسم "علم الإنسان" طي الموسوعة).
مع ذلك، تطبق هذه النظريات أساليب غير مناسبة من خلال السعي إلى إخضاع العقل للقوانين (بينما بالفعل في ما يتعلق بجسم الحيوان، أثبتت المعرفة القانونية أنها غير مناسبة). أكثر من ذلك، بما أن العقل والطبيعة هما حقيقتان من نظامين مختلفين، وبما أن العقل يتميز بنوع من العقلانية المحايثة المتفوقة على العقلانية الطبيعية، فمن الوهمي تماما إقامة ارتباطات مباشرة بين الشخصية والتكوين الجسدي. ورغم أن هذا النقد جذري في محتواه، فإنه في بعض الأحيان ساخر إلى حد لاذع.
هكذا يشرح هيجل أن أفضل طريقة للرد على لافاتير، مؤسس علم الفراسة، هي "الصفع": "إن هذا الرد صحيح لأنه يدحض الافتراض الأول لمثل هذا العلم [...]، والذي بموجبه تكون فاعلية الإنسان هي وجهه" (401/178). ويعارض جال، مؤسس علم فراسة الدماغ، أيضا معتبرا أن "وجود العقل عظمة" (425/190)، يعادل الخلط بين "عضو الإنجاب والعضو المستخدم للتبول" وأن النظرية القائمة على هذا النوع من الارتباك "تتصرف كما يفعل المرء عندما يتبول" (429/192).
مع ذلك، فإن نقد لافاتير منح هيجل الفرصة لطرح أطروحة مهمة: لا ينبغي اعتبار شخصية الفرد مجموعة من الخصائص الدائمة والقابلة للتحديد بشكل مستقل عما يفعله الفرد، مثل الداخل المنفصل عن تعبيره الخارجي: "إن الفعل هو الذي يجب اعتباره الوجود الأصيل للإنسان" (402/178). كما يقول هيجل في "مبادئ فلسفة الحق": "ليست الذات سوى سلسلة أفعالها" (م ف ح، الفقرة 124، ص: 276). لكن لا يجوز أن يكون تأثير الفعل في مكان آخر غير حركات الجسم وتعبيراته ("إن أعضاء الأداء والتنفيذ تحتوي في ذاتها على الفعل بوصفه فعلاً أو على الداخل بوصفه كذلك"، 390/173)، وكذلك في الطريقة التي ينعكس بها على نحو لغوي في التفاعل مع الآخرين. مرة أخرى، يؤدي نقد العقل الملاحظ إلى التأكيد على عملية الفاعلية في تعقيد الأفعال المتبادلة التي تشكلها.
(يتبع)
نفس المرجع