جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السابع والثمانون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8246 - 2025 / 2 / 7 - 00:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الفلسفات الهلنستية
بالنسبة لهيجل، الدين هو في الأساس مسألة وعي: الوعي، بالمعنى الإبستيمولوجيي، يشير إلى تصور للحقيقة حيث تضع الذات الحقيقة في شيء خارجي عن عقلها. وفي حالة الدين، تنتقل الحقيقة بالفعل إلى تمثيل كائن خارجي ومتعالٍ تجاه الإنسانية، ألا وهو الله.
المقطع الأول الذي يتم فيه التأمل في الدين، من وجهة النظر العامة لتصور العلاقة مع الذات والواقع الذي يحتويها، هو القسم (ب) من الفصل الرابع من كتاب "الظاهرياتية، والذي جاء تحت عنوان: "حرية الوعي الذاتي، الرواقية، الشكوكية، والوعي الشقي" (278-309/116-131).
ينتمي هذا القسم الفرعي إلى القسم الأكبر المعنون ب "الوعي الذاتي"، والذي يفسر كيف يصل الوعي البشري إلى وضع الحقيقة في حد ذاته وليس في شيء خارجي عنه. ومع ذلك، فإن هذا الوعي الذاتي ليس واضحا ومناسبا بشكل مباشر، وهو يعود بشكل خاص إلى علاقات الوعي، العلاقات التي يتم التعامل معها بشكل خاص من خلال الدين.
في هذا القسم الفرعي، يوظف هيجل فلسفتين هلنستين، الرواقية والشكوكية، اللتين تشكلان سلسلة مع ما يسميه "الوعي الشقي" الذي يشير إلى المسيحية البدائية والقروسطية (الكاثوليكية الرومانية). تشكل هذه السلسلة من أشكال الوعي الذاتي حركة الشكل الأكثر شمولية لـ "الوعي الذاتي الحر" (279/116). وهكذا يقترح هيجل إعادة بناء تأملية للرواقية والشكوكية قبل الوصول إلى الوعي الشقي - إعادة بناء تأملية بمعنى أنه في هذه الصفحات لا يتعلق الأمر بقراءة مفصلة فلسفيا لهذه المجموعات (سيكون هذا هو الهدف اللاحق ل"محاضرات في تاريخ الفلسفة") بل يتعلق بتحديد التعريفات العامة للمعرفة والحقيقة التي تتضمنها هذه الفلسفات. تشكل الرواقية أول فلسفة مبأدها، المعاد بناؤه نظرياً، هو مبدإ الوعي الذاتي الحر: "هذه الحرية للوعي الذاتي، عندما دخلت، كظاهرة واعية بذاتها، في تاريخ الروح، كانت تسمى الرواقية" (280/117). باعتباره يعرف في فكره حقيقة المحتويات الموضوعية، يكون هذا الوعي الذاتي صالحا "كجوهر كوني بشكل عام" (280/117). فعلا، لا يعارض الرواقيون الفكر بعالم خارجي عنه، بل يرون في العالم حكما إلهيا للعقل (للوغوس) الذي هو نفس اللوغوس العاملىفي الفكر العقلاني للذات. ومع ذلك، إذا فكرنا في العالم فقط بهذه العمومية، فإن الوعي الذاتي الرواقي يظل مجردا: إنما على هذا النحو إذن يصف هيجل الرواقية باعتبارها وعيا ذاتيا مجردا وكونيًا. لهذا السبب، ليست الحرية التي يتمثلها الشكل الرواقي سوى حرية داخلية، أو حرية الفكر وحده، تقييد يشير إليه هيجل في الوضع التاريخي للإمبراطورية الرومانية، كفترة من العبودية والهيمنة: "حرية لا تستطيع، كشكل كوني لروح العالم، أن تدخل إلى المشهد إلا في زمن الخوف والعبودية الكونية، ولكن أيضا في ثقافة كونية رفعت تكوين ذاتها إلى حد الفكر" (281/118).
إن الفلسفة الرواقية، وهي تضع الحرية والحقيقة في العناية الإلهية المتماثلة مع العالم نفسه والتي يجب على الوعي الإنساني أن يتبعها، صاغت في كوسمولوجياها وأخلاقها الواقع السياسي الروماني للخضوع العام للأفراد إزاء للإمبراطورية والقانون المجرد. وفي الإطار التاريخي لمثل هذه الهيمنة، حيث يضطر الفرد إلى حصر نطاق قراراته في الدائرة الأخلاقية والخاصة، محروماً من سلطة اتخاذ القرار السياسي، تتبغ فلسفة الحرية هذا الانطواء الذاتي. إن الحرية التي يمكن أن نتصورها فلسفياً هي فقط الحرية الداخلية أو "الحرية المجردة" (283/118)، أي الحرية الخالية من أي سيطرة عملية على العالم الملموس، وهذا ما يحدده هيجل "سواء كان المرء على العرش أو في السلاسل" (281/117)، مشيراً هنا إلى الشخصية المزدوجة للفيلسوف الرواقي، كإمبراطور أو كعبد، أي ماركوس أوريليوس أو إبيكتيتوس.
الشكوكية، من جانبها، يصفها هيجل بأنها "تحقيق" (283/119) لهذا التجريد للفكر الكوني في الرواقية. بالفعل، يشير المضموز الكوني والمجرد للفكر الرواقي إلى طابعه السلبي تجاه أي محتوى محدد، يُنظر إليه على أنه تجسيد بسيط للقوانين الكونية للوغوس. في الشكوكية، يظهر الفكر بوضوح في صورة السلبية ذاتها، من خلال نفي اتساق كل محتوى، أو كل خصوصية واختلاف في علاقة بالفكر: كل حقيقة موضوعية مفترضة ليست سوى مظهر. وبالتالي فإن هذا الفكر يصبح سلبيا أو جدليا فقط من خلال إظهار التناقضات التي تؤثر على كافة المحتويات الموضوعية. وبذلك فإن الفكر لا ينفي حقيقة الموضوعية فحسب، بل ينفي حقيقته وكونيته أيضاً، ما دام أن الفكر لا يسمح بالوصول إلى أي حقيقة. يتمثل الموقف الشكوكي من ذهاب وإياب بين وعي ذاتي حر وكوني يرتفع فوق تناقض المحتويات الموضوعية، وبين فقدان هذا الوعي نفسه، المعروف بأنه ليس كونيا ولكنه "عرضي" و"فردي" فقط (287/120).
هنا يحمل هيجل على محمل الجد طابع البحث المتواصل عن الحقيقة الذي يميز الشكوكية القديمة، الطابع الذي سبق أن أكد عليه في مقالته المبكرة "علاقة الشكوكية بالفلسفة" (1802)، لكن لجعل هذا البحث متعثراً في الإطار الشكوكي: الفلسفة المتشككة لا تنجح أبداً في العثور على هذه الحقيقة المنشودة، لا في ذاتها، ولا في العالم الذي يحيط بها. وهكذا يتم تصور العصور الرومانية والعصور القديمة المتأخرة وشخصياتها الفكرية في "الظاهرياتية" باعتبارها تطورا للوعي الذاتي المجرد الذي يحاول اختبار كونيته المفترضة، ثم يبوء بالفشل. لذلك تبدو الفلسفات الهلنستية وكأنها فلسفات ذات حرية داخلية سلبية فقط، حيث يؤدي فشلها إلى "التمثل" (309/131)، أو التخارج المسيحي لكونية الوعي في صورة إله متعال. إن الفلسفات الهلنستية صالحة، بالتالي، باعتبارها لحظة مفاهيمية عامة (مفهوم للمعرفة الحقيقية الضرورية وغير الكافية في آن واحد)، وباعتبارها حقبة تاريخية فلسفية لتجسيد هذه اللحظة.
(يتبع)
نفس المرجع