جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الرابع والتسعون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8272 - 2025 / 3 / 5 - 02:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ملاحظة الطبيعة (القسم أ-1)
ينقسم هذا القسم الطويل إلى ثلاث لحظات رئيسية تتوافق مع ثلاث طرق لتنظيم الملاحظات بشكل عقلاني: الوصف (325-327/139-140)، والتصنيف (327-331/140-142) والقانون (331-378/142-166). لا يتعلق الأمر هنا باستعادة جميع المصادر العلمية وتفاصيل المناقشة، بل يتعلق فقط بإعادة بناء الحركة العامة لتعاقب تجارب الوعي التي تبين خلاله من ناحية أن العقلانية المحايثة للواقعية لا يمكن معرفتها من خلال الملاحظة المنظمة بالفكر ولكن فقط من خلال تصور الفكر لما يُعطى للملاحظة، ومن ناحية أخرى أن الطبيعة غير قادرة على إرضاء التطلعات العقلانية للمعرفة النظرية، بسبب ما ستسميه الموسوعة احتمالها التكويني ( الموسوعة، الجزء ll، الفقرة 249).
الشكل الأول للعقل الملاحظ هو ملاحظة التفردات الجيولوجية والنباتية والحيوانية، بهدف استخراج العنصر الكوني منها. يتمثل النهج بشكل أكثر دقة في وصف الخصائص المختلفة للظواهر لتحديد ما إذا كانت تندرج ضمن الأنواع المدرجة قبلا أو تحدد أنواعا جديدة. هذا المسعى محكوم عليه بالفشل لأن احتمالية الطبيعة تتجلى بشكل خاص في التنوع اللانهائي للظواهر. لا يبدو الوصف مهمة لا نهاية لها فحسب، بل من المستحيل أيضا أن نستنتج من لاتطابق ظاهرة ما مع الأنواع المماثلة أنها تنتمي إلى نوع جديد. إن تجربة الوعي هنا هي أن الطبيعة عقلانية بقدر ما هي غير عقلانية، وأنه من المستحيل تحديد عقلانيتها المحايثة من خلال وصف بسيط: "بدلاً من ثراء غير قابل للقياس"، يكتشف العقل الواصف "فقط حدود الطبيعة [أي احتماليتها] وحدود نشاطها الخاص بها" (327/140).
المطلوب لتحديد ما إذا كانت ظاهرة ما تندرج تحت مجموعة من الأنواع المدرجة أو تحدد نوعا جديدا هو التمييز بين الخصائص الأساسية وغير الأساسية، والذي يبدو لنا من خلاله أن اهتمام العقل الملاحظ لا ينصب على مجموعة الخصائص القابلة للوصف ولكن فقط على تلك القادرة على الحصول على قيمة معرفية: "بالنسبة إليه، ما يهم هو على الأقل جوهريا ذاته والأشياء على حد سواء" (327/140). إذا لم يكن من الممكن أن تستند العلامات المميزة للأنواع إلى الملاحظة وحدها، فيجب أن تستند إلى العقل نفسه، في نشاطه في إعادة البناء المنهجي، انطلاقا من خصائص محددة مسبقا، للأوصاف المعدنية والنباتية والحيوانية. كان هذا هو نهج التصنيفات الاصطناعية، وخاصة تصنيف كارل فون ليني (1707-1778)، الذي يشير هيجل إليه هنا على نحو ضمني. ولكن إذا لاحظنا أن العقل مقتنع بقدرته على معرفة العقلانية المحايثة في الطبيعة، فإنه يطالب بأن تكون التصنيفات المنهجية أيضا تصنيفات "طبيعية"، أي أن التمييزات بين الرتب والفئات والأجناس والأنواع التي تشكل هيكلها تعبر عن تمييزات تتوافق مع نظام الطبيعة نفسها، وليس فقط متطلبات التوحيد المنهجي للأوصاف: "يجب أن يكون النظام الاصطناعي متوافقا مع نظام الطبيعة نفسها ويعبر فقط عن هذا الأخير" (328/140). إن تجربة الوعي التي تندرج تحت هذا الشكل من العقل الملاحظ هي أن هناك وفرة من الظواهر التي لا تدخل في التقسيمات الفرعية لتصنيفاتها:
"الملاحظة التي حافظت على [الخصائص المميزة] مرتبة في انفصال بعضها عن بعض واعتقدت أن فيها شيئا ثابتا، ترى أنه على مبدإ ما تأتي الخصائص الأخرى لتتعدى، تتشكل تحولات، ارتباكات، وأن كل هذا مرتبط أخذه في المقام الأول على أنه منفصل تماما، ومنفصل جمعه. (330/141)
إذا كان الوعي التصنيفي قد أُحبط على هذا النحو، فليس ذلك فقط لأن احتمالية الطبيعة غير قابلة للاختزال، بل أيضاً لأن الطبيعة لا تتألف إلى حد كبير من مجموعة من الخصائص المستقلة والثابتة، مثل تلك التي تحدد الأنواع المتميزة عن بعضها البعض والتي تتكاثر بشكل متطابق على مدى أجيال، كما تتألف من مجموعة من الظواهر العلائقية والديناميكية.
من خلال السعي إلى ملاحظة القوانين في الطبيعة يحاول العقل الملاحظ أن يستوعب هذه الخصائص العلائقية والدينامية. وفي الفصل الثالث ظهر القانون باعتباره الوحدة الثابتة ضمن تنوع الظواهر، وهو ما يتوافق مع مفهوم القانون باعتباره وصفاً لعلاقة ثابتة في التغيرات المختلفة التي يمكن ملاحظتها. يشير هيجل هنا إلى مفهوم آخر للقانون: إن القانون له قيمة لمعرفة الطبيعة ليس فقط لأنه ينتج وصفا كونيا ولكن أيضا وأكثر من ذلك لأنه يعبر عن علاقة مفاهيمية. يضرب لنا هيجل مثلاً بقانون السقوط الحر، الذي تعتمد حقيقته، بالنسبة إلى الوعي الملاحظ، على مفهوم الجاذبية (333/142). ويمكننا القول بأننا انتقلنا من تصور تجريبي للقانون إلى تصور عقلاني. إن النوع الجديد من الملاحظة الذي ينتج عن ذلك هو على وجه التحديد محاولة إظهار العلاقة المفاهيمية المكونة للقانون في الملاحظة، وذاك بواسطة التجريب. ويشير هيجل هكذا إلى أن ملاحظة العقل "تؤسس تجارب على القانون" من أجل "تتقية القانون ولحظاته من خلال جلبهما إلى المفهوم" (334/143). وهذا يهدف إلى إنتاج "الشروط الخالصة للقانون" تجريبياً ( نفس المصدر ) بحيث يمكن ملاحظة العلاقة المفاهيمية، على سبيل المثال، بين الكهرباء السلبية والكهرباء الإيجابية، أو بين الحمض والقلوي (l’alcalin). تظهر الطبيعة إذن كمجموعة من الخصائص التي لا وجود لها بشكل مستقل عن العلاقات الدينامية التي تحافظ عليها مع بعضها البعض: الكهرباء الموجبة والكهرباء السالبة، الحمض والقلوي لا وجود لها بشكل مستقل عن العملية الكهربائية والعملية الكيميائية. يعتمد العقل الملاحظ على التجربة لإثباته، على الرغم من أن العملية الكهربائية أو الكيميائية لا يتم ملاحظتهما على هذا النحو في التجربة ولكن يتم تصورهما فقط.
إن الانتقال إلى بقية مراحل التطور يرجع إلى حقيقة مفادها أن العقل مدفوع إلى إيجاد طريقة لفهم هذه العملية من خلال الملاحظة والتي لا توجد في الوقت الحالي إلا في الفكر التجريبي، وليس في التجربة كما هي. ثم يلتفت إلى ملاحظة الطبيعة العضوية: "مثل هذا المتعارض-مع الذي يحمل في داخله العملية في بساطة المفهوم هو الكائن العضوي" (337/145). ومن ثم يصبح المنطق معقدا بشكل خاص. يبدأ هيجل بالقول إن أي محاولة لالتقاط العملية الأساسية للكائن الحي من خلال القوانين محكوم عليها بالفشل: القوانين قادرة على تفسير العلاقات الدينامية بين الكيانات المستقلة نسبيا، مثل الأحماض والقلويات، ولكنها ليست قادرة على تفسير العلاقات بين اللحظات غير القابلة للفصل في العمليات العضوية. ويأتي بعد ذلك جدل موجه ضد فلسفة شيلينج حول الطبيعة واستخدامها للشكلية الكمية لـ "القوى". ومن هذه التطورات تبرز أطروحتان. أولاً، إن النهج القائم على الملاحظة الموجه بالعقل، سواء نهج العلوم التجريبية أو التجريبية الشكلية لفلسفة الطبيعة في المدرسة الشيلينجية، مآله الفشل لأن العملية الأساسية للطبيعة لا يمكن ملاحظتها على هذا النحو، بل يمكن فقط تصورها. ثانياً، بسبب احتماليتها غير القابلة للاختزال، تكون الطبيعة الملاحظة دائماً مختلفة عن الطبيعة المتصورة، بحيث لا يمكن للعقل الملاحظ أن يجد في ملاحظة الطبيعة متطلبات العقلانية التي تخصه، حتى في مستويات الطبيعة التي يتم بناؤها بشكل مكثف بواسطة العقلانية المحايثة، أي في الكائن الحي الحيواني. ومن هنا جاء الانتقال إلى ملاحظة الوعي الذاتي.
(يتبع)
نفس المرجع