جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثاني والتسعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 02:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

المثالية ونقدها
انطلاقا من مقدمة الفصل الخامس، يحدد هيجل أنه سوف ينظر في هذا الفصل فقط إلى الشكل الأكثر مباشرة لوعي هوية المعرفة والواقع. إن هذا الشكل المباشر يتوافق مع ما يعرفه بالمثالية، التي تشير إلى مثالية كانط وحتى إلى مثالية فيخته، لأن كانط اعترف بثنائية الظاهرة والشيء في ذاته والتي يتم تجاوزها في هذه المرحلة. في حين أن الفصل الثالث عمل على تطوير نقد المفاهيم الليبنتزية والكانطية للثنائية بين العالم المحسوس والعالم المعقول، فإن الفصل الخامس يبدأ بانتقاد وجهة نظر المثالية المتعالية المستخرجة من الشيء في ذاته، وجهة نظر فيخته .
ليس من الصعب أن نفهم لماذا يرى هيجل في هذه النسخة من المثالية المتعالية التوضيح الأكثر مباشرة لـ "يقين الوعي بأن كل هذا هو الواقع". يزعم كانط وفيخته أن أشكال تمثيل الأشياء مكونة لتلك الأشياء، بحيث أن المكان والزمان، باعتبارهما شكلين من اشكال الحدس الخالص، والمقولات، باعتبارها أشكالاً خالصة للفهم، تزودنا أيضًا بمعرفة الخصائص الكونية للظاهراتية. إن رفض التمييز بين الظاهرة والشيء في ذاته يؤدي إلى فكرة مفادها أن أشكال تمثل الأشياء لا تشكل الظاهراتية فحسب، بل تشكل الواقع نفسه. إن وحدة وعي الموضوع (أو التجربة) والوعي الذاتي (أو الوحدة الأصلية للإدراك)، التي أكد عليها كانط في "الاستنباط المتعالي" من "نقد العقل الخالص"، تتحول بعد ذلك إلى يقين مفاده أن أشكال تمثل الواقع هي أيضا أشكال الواقع.
في المقدمة، يتخذ توصيف المثالية كخيط توجيهي له المبدأ الفيختوي (Ich=Ich)، والذي يمكن ترجمته أيضًا إلى (أنا=أنا)، والذي يتم تفسيره على أنه معادل لمبدإ كانط عن الوحدة الأصلية للإدراك، وارتباطه بـ "المقولة" المُتصورة كشكل من أشكال الفكر والتي هي أيضا شكل مكون للواقع. وكما أكد كانط أن الأنا ("الأنا أفكر") يجب أن تصاحب دائما تمثلاتها الخاصة للظواهر، فقد أكد فيخته أن الأنا تظل متطابقة مع ذاتها في وعيها بموضوع (بلا-أنا) لأن هذا الأخير ليس سوى تمثلها. وإلى هذه الحجاج أحال هيجل عندما كتب أن المثالية "تقول مباشرة: أنا هو أنا، بمعنى أن الأنا الذي هو متعارض معي [… هو] كل الواقع والحضور" (313/133) وأنها تظهر "في كل وجود ملك (بكسر الميم) الوعي" (319/136).
تتميز هذه المثالية بكونها تتجاوز ثنائية الوعي وموضوعه، أو ثنائية المعرفة والحقيقة، أي التأكيد على أن الحقيقة لا ينبغي أن تُدرك كشيء آخر غير المعرفة. ولكنها تعاني من عيبين رئيسيين: من ناحية، يكون مبدأ هوية المعرفة والواقع مفترضا بدلاً من التفكير فيه وتبريره حقا، ومن ناحية أخرى، تكون هوية المعرفة والواقع مُتصورة بطريقة شكلية بحتة.
يؤكد هيجل أولاً أن مبدأ المثالية المتعالية يجب أن يظل تأكيدا خالصا، ولا يمكن حتى صياغة معناه بشكل مناسب، طالما أنه يُقال بطريقة المبدأ الأول، أنا=أنا، كما هو الحال لدى فيخته. إن معناها الحقيقي يتوقف بالفعل على التجارب السابقة لأنها ليست معرفة بشكل عام ولكنها فقط نوع معين من المعرفة التي يمكن أن تدعي أنها تحتوي على حقيقتها الخاصة: معرفة متميزة عن تلك التي أثبتنا قبلا لاحقيقتها، أي معرفة اليقين الحسي، الإدراك، الفهم، وتلك المرتبطة بأفكار الرواقية، الشكوكية، والوعي الشقي. ويجب أيضا تحديد المعنى الحقيقي لفكرة موضوع المعرفة. لكي يدعي الوعي الذاتي أن معرفته هي نفسها الواقع، لم يعد من الممكن تصور موضوع معرفته إما كهذا، أو كأنه شيء، أو كأنه مقسم إلى عالم وظاهرة فوقحسية. وهنا نجد المبدأ المذكور في المقدمة والذي يقضي بأن معنى وتبرير شكل الوعي يتوقفان على التجارب السابقة للوعي. لكن هذا المبدأ يستحق الدحض لأن المثالية المتعالية تدعي أنها تبني مبدأها بشكل مباشر على تحليل شروط التجربة الممكنة (عند كانط)، أو في تحليل بنية التمثل (عند راينهولد ثم عند فيخته). وعلى نطاق أوسع، فإن ملاءمة المشروع الهادف إلى التفلسف انطلاقا من "مبدإ أول"، الذي سبق وأن نددنا به في المقدمة، هي ما تم رفضه هنا (97/21).
ومن ثم يتم انتقاد المثالية المتعالية لأنها تتصور هوية المعرفة والواقع بطريقة شكلية بحتة. في حين أن استنباط المقولات من المفترض أن يؤسس لهوية المعرفة والواقع، إلا أن المقولات تُتصور كأشكال خالصة. ومن ثم فإن محتوى المعرفة لا يتوقف فقط على الوحدة الأصلية للإدراك، بل يتوقف أيضاً على الطريقة التي تؤثر بها الأشياء على حساسيتنا. وبناء على ذلك، فإن المثالية، بسبب طابعها الشكلي، محكوم عليها إما بأن تظل "مثالية فارغة" (319/136)، من خلال تأكيدها على صحة الأشكال دون محتوى، أو أن "تكون في تناقض" (321/137) من خلال تأسيس موضوعية المعرفة ليس فقط على مبدإ الوحدة الأصلية للإدراك، ولكن أيضا على مصدر مستقل للمعرفة التجريبية، التي يُنظر إليها على أنها "استقبال" الحساسية عند كانط و"الصدمة الغريبة" (319-320/136) عند فيخته.
هناك علامة أخرى على التناقض، وهي عدم قدرة كانط على استنباط المقولات من مبدإ الوحدة المتعالية للإدراك. إنه ببساطة يحدد المقولات تجريبيا من خلال استنباط "جدول المقولات" من "جدول الأحكام"، أي من تعداد الأنواع المختلفة من الحكم الممكنة. في حين أن من المفترض أن تسمح المقولات بتأسيس كونية وضرورة مبادئ معرفة الطبيعة، إلا أنه لا يمكن تأسيس هذه الكونية وهذه الضرورة تجريبياً، ومع ذلك يتم استنتاج المقولات تجريبياً:
"الترحيب بتعدد المقولات، بأي شكل من الأشكال، [...] كموضوع موجود، من خلال الأحكام مثلا، والتكيف معه بهذه الطريقة، هذا ما يجب أن يُنظر إليه في الواقع على أنه انتهاك للعلم؛ اين يمكن للفهم أن يظهر ضرورة إذا لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك في ذاته، وهي الضرورة المحضة". (316-317/134-135)
باعتبارها مثالية فارغة، تكتفي المثالية المتعالية بذكر مبادئ شكلية، مثل مبدأ ثبات المادة، أو مبدأ تفسير التغيير من خلال فعل سبب، والتي، على الرغم من تطبيقها على جميع الظواهر، لا تسمح لنا بإنتاج أي معرفة محددة لعقلانيتها الكامنة. لذا يتعين علينا الاعتماد على الملاحظة التجريبية لإنتاج هذه المعرفة. إن الشكلية المثالية المتعالية تؤدي إلى نقيضها: التجريبية. يكتب هيجل بهذا المعنى أن "المثالية الفارغة"، التي ترى في كل الأشياء " ملكا خالصًا للوعي"، "يجب أن تكون في نفس الوقت تجريبية مطلقة، لأنه من أجل ملء الملك الفارغ، أي من أجل الاختلاف وأي تطور وتكوين لمثل هذا الملك، فإن سبب هذه المثالية يحتاج إلى صدمة غريبة حيث يتم وضع التعدد المتنوع للإحساس أو التمثل فقط في البداية" (319/136).
هذا التضامن بين المثالية الشكلية والتجريبية هو الذي أدى إلى قسم "العقل الملاحظ". لقد تم تعريف العقل في البداية بأنه "يقين الوعي بأنه الواقع كله"، ولكن بعد المقدمة، نفهم أن ما قصده هيجل بهذا هو يقين ما يزال يقينًا بسيطا، يقينا لم يرتفع بعد إلى مستوى الحقيقة. ونحن نفهم أيضًا أنه من خلال الملاحظة على وجه الخصوص، سيحاول العقل رفع يقينه إلى مستوى الحقيقة.
(يتبع)
نفس المرجع