جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الحادي والتسعون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8256 - 2025 / 2 / 17 - 08:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن حقيقة الأفكار تتوقف على مدى ملاءمتها لشيء في ذاته (عالم فوقحسي) موجود بشكل مستقل عن الفكر. ومن هنا جاء عنوان الفصل الرابع: "القوة والفهم. الظاهرة والعالم الفوقحسي". على العكس من ذلك، تعني فكرة العقل في الفصل الخامس أن اليقين بأن في معرفة الشيء يتمكن هذا الشيء من الولوج إلى حقيقته، بحيث يفقد التعارض بين المعرفة والشيء في ذاته معناه: لا ينبغي البحث عن حقيقة الظواهر في عالم فوقحسي ينبغي للفكر أن يلم به، ولكن في العقلانية المحايثة للظاهراتية، التي، باعتبارها كذلك، لا توجد في أي مكان آخر غير الفكر العقلاني للظاهراتية. بهذا المعنى يؤكد هيجل: "العقل هو يقين الوعي بأنه كل الحقيقة" (313/133) أو "اليقين بكونه كل الحقيقة" (315/134). وفي أشكال الوعي التي تمت دراستها في الفصل الخامس، نجد التعبير عن القناعة، حسب هيجل الحقيقي، بأن العقلانية الحقيقية هي العقلانية المحايثة للظاهراتية، وأنها قابلة لان تكون معروفة. سيتم صياغة هذه القناعة في "مبادئ فلسفة الحق" (ص: 129)، ثم في الموسوعة (الجزء III، الفقرة 6) في شكل التأكيد المزدوج الشهير الذي يحدد أحد التوجهات الأساسية في الفلسفة الهيجلية: "كل ما هو عقلاني هو واقعي، وكلما هو واقعي هو عقلاني". أحد التحديات التي يواجهها الفصل الخامس هو توضيح معنى ذلك التوجه على وجه التحديد. إن دراسة سلسلة جديدة من تجارب الوعي سوف تجعل من الممكن ان نطرح جانبا عددا معينا من المغالطات المتعلقة في نفس الوقت بكل طرائق المعرفة العقلانية يالواقعي وطبيعة الواقعية.
إن العيب الأول في هذه الأشكال من الوعي التي تم جمعها في الفصل الخامس يرجع إلى طبيعة المعرفة العقلانية المحايثة للواقعية. القناعة المشروعة بأن العالم عقلاني وقابل للمعرفة كما هو تتوافق في تلك الأشكال مع اعتقاد خاطئ بأن مبادئ الفكر الشكلي تسمح لنا بمعرفة هذه العقلانية المحايثة. تتميز هذه العقلانية الشكلية في المقدمة والقسم (أ) بالإحالة المزدوجة إلى المثالية المتعالية لكانط وفيخته وإلى ممارسة العلوم التجريبية. تقترح الفلسفة المتعالية مفهوما صوريا للعقلانية بقدر ما تجعل مبادئ معرفة الطبيعة تعتمد على تشكيل المحتوى المحسوس من خلال الأشكال الفكرية الخالصة لموضوع. تفترض علوم الملاحظة أيضًا تصورا شكليا للعقلانية بقدر ما تختزل المبادئ العقلانية إلى مبادئ تنظيم الملاحظات والتنظيم العقلاني للملاحظات إلى تصنيفات وقوانين.
ما ليس كافيا في أنماط المعرفة التي درسناها في الفصل الخامس يكمن في كونها عقلانية بالمعنى الفينومينولوجي للتمييز بين الفهم والعقل، دون أن تكون عقلانية بالمعنى المنطقي للعقلانية النظرية. إنها في الواقع تتعهد بمعرفة العقلانية المحايثة للواقعية من خلال الإحالة إلى تصور شكلي لعقلانية المعرفة، صادر عن عقلانية الفهم، في حين أن معرفة العقلانية المحايثة للواقعية تثدر عن نوع آخر من الفكر العقلاني، وهو الفكر التأملي أو "المعرفة المطلقة".
العيب الثاني لهذه الأنماط من المعرفة يكمن في تصورها للواقعية. دعونا أولاً نتذكر معنى مفهوم الواقعية (Wirklichkeit) المحدد لموضوع هذا الشكل من الوعي والحاضر في كل ثنايا هذا الفصل. حدد قبلا موضوع الفلسفة في المقدمة (119/34)، وسوف يقوم أيضا بأداء هذه الوظيفة في الموسوعة (الفقرة 6 وما يليها). ستعرف الموسوعة الواقعية بأنها تجاوز لثنائية الجوهر ومظهره، أو الداخل والخارج (الجزء الاول، الفقرة 142) . تعني الواقعية كذلك الواقع الظاهري بقدر ما تلبي المتطلبات النظرية والعملية للفكر العقلاني ( الموسوعة، الجزء الأول، الفقرتان 6 و38). لكن مطلب تجاوز ثنائيات الداخل والخارج من جهة، والعقلاني والظاهراتي من جهة أخرى، ظهر في الفصلين السابقين. في الفصل الثالث، لا يستطيع الفهم أن يلبي مطالبه النظرية إلا في فكر عالم فوقحسي، بينما في الفصل الرابع، لا يستطيع الوعي الذاتي أن يلبي مطالبه العملية إلا في فكر عالم آخر. وكما أن ضرورة تجاوز ثنائية الجوهر، أو الداخل، والظاهرة، أو الخارج، تم تحقيقها في نهاية الفصل الثالث، فإن انتقال الوعي الشقي إلى العقل يؤكد ضرورة تجاوز ثنائية العقلاني والواقغي. بهذا المعنى يكتب هيجل أن الوعي الذاتي "يكتشف العالم باعتباره عالمه الواقعي الجديد الذي له مصلحة في ثباته، تماماً كما لم يكن له في اللحظة السابقة مصلحة إلا في اختفائه" (312-313/132-133).
إذا كانت المعارف التي تمت دراستها في الفصل الخامس تتميز بتصور موضوعها باعتباره الواقعية، فإنها مع ذلك تعاني من تصورات غير مناسبة حول ما يشكل الواقعية. إن استخدام شكلانية التصنيفات والقانون مرتبط بتصور عن الطبيعة والعقل كما هو مكون من تحديدات ثابتة ومستقلة نسبيا، بحيث لا يمكن أن تكون علاقاتما إلا خارجية بالنسبة ألى بعضهما البعض. وسوف نرى على وجه الخصوص، التعارض بين الداخل والخارج يظهر على السطح (في معرفة الحياة العضوية وكذلك في معرفة الروح الفردية). لقد أكدت المقدمة بالفعل على البعد الإجرائي للواقعية من خلال تعريفها بأنها "الميلاد والاختفاء الذي لا يولد ولا يختفي ولكنه موجود في ذاته" (120/35). سيكون قسم "العقل الملاحظ" فرصة للتأكيد على البعد الإجرائي الأساسي، أي البعد العلائقي والدينامي، للطبيعة والعقل، والتأكيد على أن الفكر الإجرائي وحده، أي "الحركة الذاتية" (131/40) للمفهوم والتي هي أيضا "محايثة ذاتيا للمحتوى"، يمكنه أن يعرفه بشكل مناسب. سيؤكد هيجل في الموسوعة أن "الفكرة هي إجراء بالأساس" (§ 215)، وبالتالي يدعم أطروحة عدم الفصل بين الأنطولوجيا والإبستيمولوحيا الإجرائيتين، التي، كما سنرى، تشكل أساس العديد من التطورات في قسم "العقل الملاحظ".
(يتبع)
نفس المرجع