يلدا انتصار النور على الظلام وبداية دورة جديدة


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 16:47
المحور: قضايا ثقافية     

يلدا ليلة من التراث والألفة
تُعد ليلة يلدا وهي كلمة سريانية حيث كانت لغة شائعة ومنتشرة في الإمبراطورية الساسانية، واحدة من أبرز المناسبات الثقافية والاجتماعية التي يحرص الشعب الإيراني على الاحتفال بها بكل حب واعتزاز، فهي ليست مجرد ليلة عادية، بل تُجسد جوهر التراث الثقافي العريق للأمة الإيرانية، وتحمل بداخلها رسائل رمزية عميقة تمزج بين مفاهيم النور والظلمة وبين الميلاد والتجدد. إنها لحظة مميزة تمثل انتصار النور والأمل على ظلام الليالي الشتوية الطويلة، مؤكدة على ارتباط الإنسان بالطبيعة ودورة الحياة المستمرة.
في ليلة يلدا، تتزين البيوت بأجواء خاصة تجمع أفراد العائلة من مختلف الأعمار في لقاء حميمي يدعو الجميع لتبادل الأحاديث والقصص، حيث يصير كل فرد جزءًا من نسيج غني يربط بين الماضي والحاضر. هذا التجمع العائلي ليس مجرد عادة، بل هو وسيلة لتعزيز الروابط الأسرية ونقل القيم والعادات من جيل إلى آخر. ففي هذه الليلة، يمتزج الحنين إلى التراث بالمحبة العائلية في أجواء دافئة تعبر عن الوحدة والانتماء.
الاحتفال بليلة يلدا لا يقتصر فقط على التقاليد الخاصة بها، بل يعكس أيضًا اعتقادًا عميقًا بالأمل والتفاؤل، حيث يرمز إلى بداية أيام مشرقة وأطول بعد طول الليل وظلمته. إنها مناسبة فريدة تُذكر الإنسان دائمًا بأن النور سيأتي بعد الظلام، وأن الحياة مليئة بالدورات التي تحمل في طياتها الخير والتجدد. بهذه الروح، يصبح الاحتفال بليلة يلدا أكثر من مجرد مناسبة ثقافية، بل هو أيضًا رسالة إنسانية عابرة للزمن تمنح القوة والإلهام للجميع.
تُحضَّر مائدة عشاء غنية ومتنوعة في ليلة يلدا، حيث تشمل الفواكه والمكسرات والحلويات التقليدية مثل السمسم والرمان والأنار. تعد قراءة الشعر واحدة من أبرز العادات التي تميز هذه الليلة، إذ يتشارك أفراد العائلة القصائد التي تعبّر عن الفرح والسرور. تُضفي الموسيقى التقليدية الإيرانية لمسة إضافية على أجواء الاحتفال وتعزز من روح المناسبة. كما يجتمع أفراد الأسرة لسرد القصص والحكايات الشعبية التي تحمل بين تفاصيلها الحكمة وتعكس الموروث الثقافي للأجداد. وفي بعض المناطق، يُشعل الناس النار رمزًا لانتصار النور على الظلام.

دلالات الأطعمة في ليلة يلدا

يحمل الرمان رمزية للخصوبة والحياة، فيما يعبر السمسم عن الصحة وطول العمر، ويمثل الأنار النور والحياة. أما الفواكه والمكسرات، فهي رمز للوفرة والخير. يساهم الاحتفال بليلة يلدا في تعزيز الهوية الوطنية للشعب الإيراني. تلعب ليلة يلدا دورًا هامًا في الحفاظ على التراث الثقافي الإيراني ونقله للأجيال القادمة. تساهم هذه الليلة في تقوية الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
إن ليلة يلدا ليست مجرد ليلة للاحتفال، بل هي مناسبة لتجديد الروابط العائلية والاجتماعية، والحفاظ على التراث الثقافي، والتعبير عن الأمل والتفاؤل بمستقبل مشرق.
العلاقة بين ليلة يلدا والمسيحية تعكس التداخل بين الطقوس القديمة والاحتفالات الدينية التي جاءت مع انتشار المسيحية. ففي ظل ظهور الدين المسيحي، تبنت الكنيسة بعض الموروثات التقليدية لتندمج في أعيادها، ويأتي الاحتفال بميلاد المسيح في 25 ديسمبر/كانون الأول متزامناً مع احتفالات يلدا وظهور مفهوم ولادة الشمس التي لا تُقهَر. يشير هذا التزامن إلى التأثير العميق للثقافات والتقاليد الشمسية على الطقوس الدينية عبر التاريخ.
ليلة يلدا ليست مجرد احتفال تقليدي إيراني، بل تمثل رابطاً بين الثقافات والحضارات القديمة، فهي رمز يعكس الأمل والتجدد والتواصل بين الإنسان والطبيعة. لهذه الليلة دلالات فريدة في تاريخ وأساطير العديد من الشعوب، وهي فرصة لإعادة النظر في القيم الإنسانية المشتركة وتعزيز الصلة بالجذور الثقافية.
تمثل ليلة يلدا احتفاءً بانتصار النور على الظلام وبميلاد الحياة من جديد، كما تحمل في طياتها رسالة للتقارب والمودة بين الناس. استمرارية هذا الاحتفال كرمز للتضامن والأمل يجعل منه تقليداً حياً في وجدان الإيرانيين. إنها ليلة نجتمع خلالها مع أحبائنا، نسترجع ذكريات الماضي ونتطلع بثقة إلى المستقبل.

يتزامن كلا الاحتفالين تقريبًا في نفس الفترة من السنة، وهي فترة الانقلاب الشتوي. هذا التزامن ليس مصادفة، بل يعكس الرغبة المشتركة في الاحتفال بعودة النور وولادة جديدة. في كلا الاحتفالين، يمثل النور رمزًا للحياة والتجديد، بينما يمثل الظلام الموت والخمول. ارتبط كلا الاحتفالين بمعتقدات دينية. في المسيحية، يمثل ميلاد المسيح ولادة نور جديد للعالم، بينما في الديانات الإيرانية القديمة، يمثل ميلاد ميترا (إله الشمس) انتصار النور على الظلام. كلا الاحتفالين له أبعاد شعبية، حيث يجمع الناس للاحتفال والتعبير عن فرحتهم.
مع انتشار المسيحية في المناطق التي كانت تحتل فيها الديانات القديمة، تم تبني بعض العناصر من هذه الديانات وإدماجها في الطقوس المسيحية. سعى المبشرون المسيحيون إلى توفيق العقائد المسيحية مع المعتقدات الشعبية السائدة، وذلك لتسهيل عملية التبشير.
كانت رمزية النور قوية جدًا في العديد من الثقافات، وبالتالي كانت سهلة التبني والتكيف مع مختلف المعتقدات.
يظهر هذا التزامن مدى التنوع الثقافي والتأثيرات المتبادلة بين الحضارات. كلا الاحتفالين يحملان رسالة أمل وتجدد، وهي رسالة عالمية تتجاوز الحدود الزمنية والجغرافية. يمكن أن يكون هذا التزامن نقطة انطلاق للحوار بين الأديان والثقافات، وتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل.
إن علاقة ليلة يلدا بالمسيحية مثال حي على كيف أن التقاليد والمعتقدات تتطور وتتأثر ببعضها البعض عبر الزمن. هذا الترابط يذكرنا بوحدة الجنس البشري ورغبته الأزلية في البحث عن المعنى والاحتفال بالحياة.

العلاقة بين يلدا وأسطورة روما القديمة (Dies Natalis Solis Invicti): تلاقح ثقافي عبر الزمان والمكان
الربط بين احتفالي يلدا و"ميلاد الشمس المنيعة" في روما القديمة يفتح نافذة واسعة على عمق التأثيرات الثقافية المتبادلة بين الحضارات، وكيف أن الاحتفالات والمعتقدات يمكن أن تتشابه وتتطور عبر آلاف السنين والأميال.
كما ذكرتِ أعلاه، يتزامن كلا الاحتفالين مع أطول ليلة في السنة، وهي لحظة الانقلاب الشتوي. وهذا يدل على أن كلا الثقافتين قد لاحظتا أهمية هذه اللحظة الفلكية وارتبطتا بها بمعتقدات وطقوس خاصة. في كلا الحضارتين، يمثل النور رمزًا للحياة والتجديد، بينما يمثل الظلام الموت والخمول. الاحتفال بهذه الليلة هو احتفال بانتصار النور على الظلام وبداية دورة جديدة. ارتبط كلا الاحتفالين بمعتقدات دينية. في إيران القديمة، كانت مرتبطة بعبادة ميترا وإله الشمس، بينما في روما كانت مرتبطة بعبادة الشمس التي لا تقهر. كان لكلا الاحتفالين أبعاد زراعية، حيث كان يعتبر بداية دورة زراعية جديدة وانتقالًا إلى فصل جديد.

الانقلاب الشتوي ظاهرة طبيعية تحدث في جميع أنحاء العالم، وبالتالي كان من الطبيعي أن تلاحظها الحضارات المختلفة وترتبط بها بمعتقدات خاصة. في فصل الشتاء القاسي، كان الناس يحتاجون إلى الأمل والتفاؤل، وكان الاحتفال بانتصار النور على الظلام يوفر لهم هذا الأمل. كان الإنسان القديم يسعى لفهم الكون والقوى التي تحكمه، وكانت الأجرام السماوية مثل الشمس والقمر تلعب دورًا هامًا في هذه الفلسفة.
كانت هناك تفاعلات تجارية وثقافية بين الإمبراطوريات الفارسية والرومانية، مما سمح بانتشار الأفكار والمعتقدات بينهما. انتشرت بعض الديانات والمذاهب بين الحضارات المختلفة، مما أدى إلى تبادل الرموز والطقوس. قد يكون هناك أيضًا تطور مستقل لأفكار مشابهة في حضارات مختلفة، حيث أن الإنسان يميل بشكل طبيعي إلى البحث عن معنى للكون والظواهر الطبيعية.