الشعر والالتزام في ستينيات القرن الماضي والعصر الرقمي
حميد كشكولي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8138 - 2024 / 10 / 22 - 00:40
المحور:
الادب والفن
في منتصف الستينيات من القرن العشرين، شهد مفهوم الشعر تغييرات لافتة، حيث أصبح السهل الممتنع ينسجم مع عنصرين آخرين هما الوعي والالتزام. في عام 1964، رفض جان بول سارتر جائزة نوبل للآداب، وندد في الوقت نفسه بالأدب الذي يفتقر إلى الالتزام السياسي، معتبراً إياه عملاً يفتقر للمسؤولية والأخلاق في عالم يموت فيه الأطفال جوعاً ويقتلون في الحروب. وفي نفس العام، بدأت الطائرات الحربية الأمريكية بقصف فيتنام. كما انتقد الشاعر السويدي جان ميردال الكتّاب غير المسؤولين، معبراً عن ذلك بعبارته الشهيرة "لقد حللنا كل الحروب قبل اندلاعها، لكننا لم نتمكن من منعها... نحن لا نحمل الوعي، بل نحن حاملو زيف الوعي.
كان الأسلوب المعروف بالسهل الممتنع يجمع بين البساطة في التعبير والقوة في المعنى، وهذا كان سمة بارزة للشعر في تلك الفترة. وقد جاء هذا الاتجاه كرد فعل طبيعي ضد التعقيد اللغوي والزخرفة التي كانت شائعة في بعض التيارات الشعرية السابقة. فلم يعد الشاعر حينها يكتفي بتقديم تجربة جمالية بحتة، بل أصبح يشعر بمسؤولية اجتماعية وأخلاقية تجاه قضايا عصره. أصبح الشعر مساحة للتعبير عن هموم الناس وآمالهم والمشاركة في النضال من أجل عالم أفضل، بعيداً عن البرج العاجي. كان رفض سارتر لجائزة نوبل مثالاً على هذه التحولات، حيث كان رفضه بمثابة تحدٍ للأدب الذي يغض الطرف عن معاناة البشر ويعتبر الفن للذات ممارسة أنانية. كما أن حرب فيتنام، التي أصبحت رمزاً للصراعات العالمية، أدت إلى زيادة الوعي السياسي لدى الشعراء والمثقفين، مما دفعهم لاتخاذ مواقف واضحة. إلى جانب ذلك، جاءت مقولات الكاتب السويدي جان ميردال لتعبر عن روح النقد الذاتي التي سادت آنذاك، حيث شعر المثقفون بمسؤولية أكبر تجاه المجتمع وحثوا على تحويل الوعي إلى عمل ملموس.
شهدت الساحة الثقافية تحولات جذرية نتيجة لأسباب متعددة منها الحروب، الثورات، والحركات التحررية، حيث لعبت جميعها دوراً كبيراً في تشكيل وعي الشعراء وحثهم على المشاركة في قضايا مجتمعهم. اضطلعت الفلسفة الماركسية بدور بارز خلال هذه المرحلة، إذ راجت وانتشرت بين المثقفين بشكل كبير، مما جعلهم ينظرون إلى الأدب كوسيلة للتغيير الاجتماعي. كما برزت مدارس نقدية جديدة مثل النقد الماركسي والنقد النفسي، وأسهمت في إعادة تشكيل رؤية النقاد لدور الأدب في المجتمع وتأثيره.
شهدت الستينيات من القرن الماضي تغيرات جوهرية في مسار تاريخ الشعر، إذ تحولت فكرة الشاعر ومكانته في المجتمع بشكل جذري. تجاوز الشعر دوره التقليدي كتعبير عن الذات ليصبح وسيلة تفاعل مع قضايا المجتمع والمساهمة في النضال من أجل تحسين الحياة البشرية. وعلى الرغم من مرور العقود على تلك الفترة، فإن بصمتها تظل حاضرة بوضوح في الشعر المعاصر، حيث يستمر الشعراء في السعي لاكتشاف وسائل جديدة للتعبير عن أنفسهم وعن مجتمعاتهم.
من أهم ما يميز شعر الستينيات هو تحول الشاعر من مراقب إلى مشارك نشط في الأحداث الراهنة، حيث غدا الشعر وسيلة للتعبير عن قضايا وهموم المجتمع والدفاع عن قيم الحرية والعدالة والمساواة. ابتعد الشعر في هذه الفترة عن التعقيد اللغوي والصور المجازية المعقدة، متجهاً نحو لغة بسيطة وواضحة تعكس الواقع بشكل مباشر.
كما اهتم الشعراء بتأمل الذات والمجتمع، وسعوا إلى فهم العلاقة بين الفرد والجماعة، والتعبير عن الصراعات الداخلية التي يواجهها الإنسان في الزمن المعاصر.
سعى الشعراء إلى تحديث الأشكال الشعرية التقليدية وابتكار أشكال جديدة تعكس روح العصر الحديث. تجاوزوا القيود التقليدية في المضمون وتناولوا مواضيع جريئة وتحمل الكثير من الجدل. تأثر الشعر في فترة الستينيات بالتوجهات الثقافية المتنوعة، مثل السريالية والوجودية والرمزية، مما أسهم في تنوع الأساليب والتجارب الشعرية. لم يعد الشعر مقتصرًا على الموضوعات المحلية فحسب، بل توسع ليشمل القضايا العالمية مثل الحرب والسلام والفقر والغنى وحقوق الإنسان.
ازداد الاهتمام بالأدب والشعر، وتوسعت شريحة القراء، مما دفع الشعراء إلى البحث عن لغة أكثر وضوحًا وتعبيرًا. لذا، شهدت فترة الستينيات من القرن الماضي طفرة في الإبداع والتجديد في مجال الشعر، حيث قدم الشعراء أعمالًا خالدة كان لها تأثير عميق على الأجيال القادمة. هذه الفترة كانت نقطة تحول في تاريخ الشعر، إذ تحول من كونه فنًا نخبوياً إلى فن شعبي يعالج هموم وقضايا الناس.
الشعراء في زمننا المعاصر يواجهون مجموعة من التحديات المعقدة والمتعددة الجوانب، والتي تتأثر بسرعة التغيرات التقنية والثقافية والاجتماعية. أصبحت الصورة والفيديو هي اللغة السائدة في هذا العصر الرقمي، مما يجعل الشعر يبدو كفن تقليدي. يتطلب العصر الرقمي محتوى متجدداً وسريع الإيقاع، وهذا يجعل الشعر، الذي يحتاج إلى وقت للتأمل والقراءة العميقة، يبدو وكأنه لا يواكب هذه الوتيرة. بالإضافة إلى ذلك، يتشتت انتباه القراء نظراً للكم الهائل من المعلومات والترفيه المتاح عبر الإنترنت، مما يقلل من احتمال وصول الشعر إلى جمهور أوسع.
شهدنا تراجعًا ملموسًا في دور النشر التقليدية، مما يزيد من صعوبة نشر الشعراء لأعمالهم. فتكاليف طباعة ونشر الدواوين ارتفعت، لتشكل عبئًا ماديًا على عاتقهم. حتى عند نشر الدواوين، يجد الشعراء تحديًا في الوصول إلى القراء وتسويق إبداعاتهم. فالقراء اليوم ينجذبون نحو القراءة السريعة وملخصات القصص والروايات، الأمر الذي يجعل الشعر، الذي يتطلب تركيزًا أعمق، أقل جاذبية. وقد أثرت وسائل التواصل الاجتماعي في أذواق القراء، حيث يفضلون المحتوى السهل والسريع. في ظل هذه الظروف، يواجه الشعراء منافسة شديدة من عدد كبير من المبدعين، مما يعقد من إمكانية تحقيق الشهرة والاعتراف. كل هذا يأتي مع تراجع دور المؤسسات الثقافية في دعم الشعراء وتنظيم الفعاليات الأدبية التي تسلط الضوء على أعمالهم.
في ظل التقدم الهائل في عالم التكنولوجيا الحديثة، يواجه الشعراء مجالات متعددة من التحديات التي تستدعي منهم الحفاظ على عمق المعنى وقوة الشاعرية في نتاجاتهم الأدبية. إذ يبدو واضحاً أن على الشعراء المعاصرين التعلم والتمكن من استخدام التكنولوجيا المتطورة بذكاء وفعالية بهدف الترويج لأعمالهم الشعرية وبناء جسور تواصل قوية مع جمهورهم المتنوع، دون أن يُخلُ ذلك بجوهر الشعر الأصيل. كما أن اللغة، بتغيرها المستمر وثراء لهجاتها العامية وتطور اللغة الدارجة، تمثل للحظة المشار إليها تحديًا حقيقياً للشعراء الساعين للمحافظة على الجماليات اللغوية للشعر. في هذا الزمن الرقمي، تطفو على السطح أشكال شعرية جديدة مستمدة من تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي والثقافة الرقمية، الأمر الذي يفتح باب النقاش حول ماهية الشعر وهويته الحقيقية في زمن الابتكار المتسارع. ومع كل هذه التحديات التقنية واللغوية، يظل الشعر في صموده نضراً ونابضاً بالحياة حيث يواصل الشعراء بناء عوالم إبداعية وتجديدية. إنهم يشقون الطرق الجديدة في ميدان التعبير عن الذات وعن مجتمعاتهم وآمالهم في عالم يتغير باستمرار.
هل يمكن اعتبار الشعر في الستينيات من القرن الماضي أكثر التزامًا بالواقع مقارنةً بالشعر المعاصر؟ المقارنة بين الشعر في الستينيات والشعر الحديث لتحديد مدى ارتباطهما بالواقع تُعتبر موضوعًا لافتًا يتطلب تحليلاً أعمق. بشكل عام، يمكن القول إن شعر الستينيات اتسم بتوجه أكبر نحو الالتزام بالواقع بالمقارنة مع الشعر الحالي. في تلك الفترة، شهد العالم أحداثاً كبيرة مثل الحروب والحركات الثورية والتحولات الاجتماعية السريعة، مما دفع الشعراء إلى التعبير عنها بوضوح والانخراط في قضايا تهم مجتمعاتهم بشكل مباشر. كان هناك نزوع عام نحو الواقعية والوضوح في الشعر، والابتعاد عن التعقيدات اللغوية والصور الرمزية المعقدة. وقد ميَّل الشعراء وقتها إلى تناول القضايا السياسية والاجتماعية بشكل أكبر، وكان شعرهم يُستخدم كمنصة للتعبير عن مشاغل الناس وتطلعاتهم.
ولكن هل يدل هذا على أن الشعر المعاصر يفتقر إلى الالتزام بتصوير الواقع؟ ليس بالضرورة. فعلى الرغم من أن الشعر المعاصر يعتمد طرقاً مختلفة ومتنوعة في التعبير، إلا أنه لا يزال يرتكز بشكل كبير على قضايا الواقع الحقيقية. فهو يتعمق أحياناً في الأبعاد النفسية الداخلية للأفراد، وقد يسلط الضوء على التعقيدات الاجتماعية التي نواجهها، أو حتى يقدم رؤى مستقبلية تتناول تحديات قادمة. وقد برزت في الشعر المعاصر حركات أدبية متعددة، كل منها يعبر بمفهومه الخاص عن الواقع ودور الشعر فيه. كما كان للثقافة الرقمية تأثير بارز في تطوير الشعر، حيث أدت هذه الثورة التكنولوجية إلى ابتكار أشكال شعرية غير تقليدية وتجارب إبداعية فريدة من نوعها. بهذا التنوع، أصبح الشعر المعاصر يشمل نطاقاً أوسع من الجمهور، محفزاً الشعراء على اعتماد أساليب وأشكال جديدة ملهمة للتواصل مع القراء بشكل أكثر تفاعلية وثراء.
لا يمكن حصر الشعر في قالب محدد، فهو فن متجدد يتطور باستمرار. ففي الستينيات، كان الشعر يعكس أحداث تلك الحقبة بأسلوبها الخاص، بينما يعبر الشعر المعاصر عن روح عصرنا الحالي. وكلا النوعين يتمتعان بقيمة أدبية وفنية هامة. لذلك، بدلاً من مقارنة الشعر من الستينيات بالشعر المعاصر، قد يكون من الأفضل أن ننظر إليهما كجزء من رحلة تطور الشعر المستمرة، حيث يمنح كل منهما منظوره الفريد للعالم.
يدرك رانسيير أن الأدب الملتزم لا يقتصر فقط على عملية نقل أو توصيل رسالة سياسية أو اجتماعية ذات طابع واضح وصريح، بل يتجلى في كونه تفاعلاً معقداً ومتشابكاً بين الكلمات، والبيئة المحيطة، والمجتمع بشكل عام. فهو يؤمن بأن الكلمات تحتوي في أعماقها على قوة جبارة وتحويلية يمكنها أن تُحدث تغييراً ملموساً في واقع الحياة. والكاتب الذي يتسم بالالتزام هو ذاك الشخص الذي يقوم بتسخير هذه القوة الكامنة في الكلمات من أجل كشف النقاب عن الظلم واللاعدالة الموجودة في المجتمع، كما يسعى لإيجاد فضاءات جديدة تعزز من الحوار المثمر والتفكير العميق. ويجد رانسيير رابطاً وثيقاً بين الأدب الملتزم وما يصفه بالجنون، حيث يرى أن الكلمات الخارجة عن المعتاد والجريئة هي وحدها القادرة على تحطيم القيود النمطية والقوالب الجاهزة، وبالتالي تقديم رؤى وأفكار جديدة ومبتكرة عن العالم المحيط بنا. وهو يعتقد أيضاً أن مثل هذه الكلمات تلعب دوراً محورياً وحاسماً في تحريك العقول وإثارة النقاشات بين الناس، مما يسهم في توسيع دائرة الوعي والفهم الجماعي.
يعتقد كامو أن الربط المباشر بين الأدب والسياسة يضعف من قيمته الفنية، ويحوّل الكاتب إلى مجرّد ناشط سياسي. كما يؤكد على ضرورة أن يتمتع الكاتب بحرية التعبير عن رؤيته الخاصة للعالم بعيداً عن التقيّد بأي أيديولوجيا أو انتماء حزبي. ويركز كامو على أهمية الفردانية والحرية في الإبداع الأدبي، معتقدًا أن من واجب الكاتب أن يكون شاهداً على الزمان، وليس مجرد مؤيد لأجندة سياسية. ويشدد أيضًا على دور الجمال والأسلوب في الأعمال الأدبية، ويرى أن النص الجيد هو ذلك الذي يتمكن من إلهام المشاعر وإثارة الأفكار لدى القارئ.
يمكن اعتبار النقاش حول الأدب الملتزم موضوعاً دائم الحيوية والتجدد، مما يجعله مثار جدل مستمر بين المثقفين والمهتمين بالأدب. فمن ناحية، يجد بعض الناس أن على الأدب أن يتحمل مسؤولية الالتزام بقضايا المجتمع، وأن يسعى الأديب بكل جهده لتسليط الضوء على قضايا الحقوق والعدالة ومناصرة المجتمع فيها من خلال إبداعاته. وعلى الجانب الآخر، ترى مجموعة مختلفة أن الأدب يجب أن يُخلي سبيله من القيود التقليدية، وأن يمنح الكاتب حرية مطلقة للتعبير عن جماليات الحياة والإبداع الفني دون قيود أو محددات. كلا هاتين الرؤيتين تتضمنان شيئاً من الصحة، إذ إن الأدب الرفيع هو الذي ينجح في إحداث تناغم بين الالتزام بما يهم الإنسانية وبين احتفاظه بلمساته الفنية والجمالية الخاصة. وبالمثل، فإن الكاتب المتميز هو ذلك الذي يستطيع بآفاقه الفكرية وقدراته الإبداعية أن يحقق توازناً فريداً بين التعبير عن آرائه الشخصية والانفتاح الذكي على آراء الآخرين ومشاركاتهم الثقافية والاجتماعية.