التباين الجمالي بين الشعر العاطفي والسياسي


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 02:49
المحور: الادب والفن     

الشعر العاطفي والسياسي: قراءة نقدية

يُعتبر هذا النوع من الشعر مساحة أوسع لاستكشاف الإمكانيات الفنية، تنويع الصور، والتأمل الذاتي العميق، واستخدام الرمزية والإيحاء، مما يُعزز من القيمة الجمالية والإنسانية للشعر. بالمقابل، يجد الشاعر السياسي نفسه في بعض الأحيان مُجبراً على التضحية بالجماليات لصالح الوضوح والمباشرة لإيصال رسالته بشكل سريع وفعّال خلال فترات النضال المكثف أو تحت ضغط الجماهير. يؤدي هذا التوجه أحياناً إلى ميل نحو النصوص ذات الطابع المباشر الذي قد يفتقر إلى العمق الفني، مما يجعل بعض تلك الأعمال تبدو "قاسية" أو بعيدة عن الحس الإبداعي.

الشاعر الكردي عبد الله گوران (1904-1962)، رائد التجديد في الشعر الكردي الحديث، يمثل مثالاً مميزاً لهذا التناقض بين المستويين الفنيين:

خصائص الأداء الفني بين الشعر العاطفي والسياسي

يتسم شعره العاطفي بمستوى فني رفيع، يُبرز مهارته في توظيف اللغة بأسلوب إبداعي وصوره الفريدة والمبتكرة، بجانب عمق تعبيره الرومانسي. هذا التأثير يرتبط بحركته التجديدية التي كرّست تطور الرومانسية الحديثة وأغنت الأدب الكردي بأفق جديد. بينما في الشعر السياسي والنضالي، يبدو أداؤه متذبذباً؛ إذ يظهر أحياناً انحيازه الواضح للمباشرة والتبسيط. يرجع ذلك إلى التزامه الفكري والسياسي بآرائه الشيوعية ودعمه لقضايا النضال القومي الكردي، ما دفعه في بعض الأوقات إلى تفضيل الرسالة الواضحة والفورية على حساب التعمق في البناء الجمالي.

غياب استيعاب جماليات العمل النضالي يمكن أن يكون أيضاً انعكاسًا لتجاهل القيمة الطويلة الأمد للرمزية والجماليات الرفيعة كأدوات ذات تأثير قوي تتجاوز اللحظة المباشرة، حيث تستهدف إدراك الوعي الإنساني بعمقه وتشعبه.

هذا يفتح المجال لنقاش أوسع حول تجارب مشابهة في الأدب العربي والعالمي. هناك العديد من الشعراء الذين خاضوا كلا المجالين العاطفي والسياسي/النضالي، ليشكّلوا متنًا غنيًا للتأمل النقدي ومقارنة التباين في المستويات الفنية بين هذين النوعين.

شعراء عرفوا بإبداعهم في الغزل والرومانسية، لكن قصائدهم الوطنية والسياسية أثارت نقاشات نقدية حول قيمتها الفنية.

نزار قباني، شاعر سوري ملك الغزل بلا منافس، تألق في تناول الحب والجنس والمرأة بأسلوب سلس وجرأة مدهشة، ما جعله يعكس جماليات مبتكرة في شعره. إلا أنه بعد هزيمة عام 1967، انتقل إلى الشعر السياسي الغاضب والهجاء اللاذع. قصائده السياسية مثل "هوامش على دفتر النكسة" و"متى يعلنون وفاة العرب؟" تميزت بالصدمة والمباشرة، مما أكسبها تأثيراً فورياً كبيراً، لكنها لم تكن بنفس عمق قصائد أخرى مثل "بلقيس" أو "الرسم بالكلمات"، حيث يفضل البعض هذه الأعمال بسبب تكثيفها الرمزي وجمالها الفني.

محمود درويش، شاعر فلسطيني، ربط في شعره العاطفة بحب الوطن، مما خلق نصوصاً رمزية مكثفة كقصيدة "ريتا والبندقية". استطاع أن يدمج جماليات النضال الوطني مع فن المعمار الشعري، ليصنع أعمالاً خالدة مثل "مديح الظل العالي" و"أثر الفراشة". وتميزت أعماله بعد مرحلة البداية المباشرة كما في "بطاقة هوية"، بدخول مرحلة أعمق وأكثر فلسفة في المعالجة الشعرية.

عبد الوهاب البياتي، شاعر عراقي، قدم قصائد صوفية وعاطفية مليئة بالغموض والرمزية مثل "سفر الفقر والورد". أما في شعره الواقعي والاجتماعي الملتزم، والذي كان طابعاً لأغلب شعراء جيله، فقد بدأ بالوصف المباشر للقضايا السياسية والاجتماعية، ثم استخدم الأساطير والرموز العالمية لاحقاً لرفع المستوى الفني لقصائده وتقديم قضايا النضال بطريقة فنية أكثر عمقاً وتجريداً.

أمثلة عالمية للدراسة المقارنة
تبرز تجارب عالمية رائدة يمكن استلهامها في هذا السياق:
بابلو نيرودا من تشيلي يُعتبر مثالًا مميزًا على التنوع بين الشعر العاطفي والنضالي. ففي الجانب الغزلي، تُعد مجموعته "عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة" إحدى أبرز كلاسيكيات الشعر الرومانسي، والتي تتسم بحس طبيعي وعميق. أما في المجال السياسي، فكان نيرودا شيوعيًا ملتزمًا قدم "النشيد العام"، وهو عمل ملحمي ضخم يُبرز تاريخ أمريكا اللاتينية ونضالها، حيث استطاع أن يحافظ على رقي المستوى الفني باستخدام التاريخ والملحمية كإطار جذاب بدلًا من الاكتفاء بالشعارات المباشرة.

أما ناظم حكمت من تركيا، فقد تميزت قصائده العاطفية بنقاء إنساني ودافعية مشاعر مُضاعفة، خصوصًا تلك التي كتبها خلال فترة سجنه. وإلى جانب ذلك، ترك بصمة واضحة كشاعر ثوري، حيث كانت العديد من قصائده تهدف لتحفيز العمال والفلاحين على التغيير الاجتماعي. ومع أن بعضها جاء مباشرًا في التعبير عن الصراع الطبقي، إلا أن اعتماده على الصور اليومية والبسيطة أضفى قوةً فنية على نبرة كتاباته الثورية.

يُلاحظ أن الشعر السياسي يحافظ على جاذبية فنية عندما يعتمد على الرمزية بدلًا من التصريح الواضح، ويستفيد من الأسطورة والتاريخ كإطار فني لتقديم رؤية نضالية تُجسد تجربة إنسانية داخلية وعميقة بعيدًا عن كونها مجرد بيان سياسي.

التحول في مسيرة نزار قباني بين الشعر الغزلي المُترف والشعر السياسي الثائر كان حادًا وبارزًا. هذا التبدّل أثر بشكل كبير على أعماله الشعرية، مما يجعل منه نموذجًا غنيًا لدراسة التباين الفني بين أوجه الإبداع المختلفة.

نزار قباني - الغزل في مواجهة السياسة

يمكن تقسيم تجربة نزار الشعرية إلى ثلاث مراحل أساسية، مع تركيز على المقارنة بين المرحلة الأولى والثالثة:

المرحلة العاطفية والجمالية (ما قبل 1967)
تعد هذه الفترة بمثابة تأكيد لنزار كرمز لشعر الغزل.
تميزت اللغة فيها بأنها بسيطة وشفافة، قريبة من اللغة اليومية، لكنها تحمل إيقاعًا موسيقيًا أخاذًا يعكس نوعًا من السهولة الممتنعة. تمثل الصور الشعرية فيها مزيجًا من الابتكار والعمق الحسي، حيث تبرز تحرير المرأة والجسد من قيود التقاليد الراسخة. من أبرز الأمثلة على ذلك "الرسم بالكلمات" و"قصيدة عن صدر امرأة".
من الناحية الفكرية، ركز نزار على الذات الفردية، واعتبر الحب قضية وجودية، وعبر عن توق دائم نحو الحرية الشخصية.
على مستوى التقييم الفني، كانت هذه المرحلة تتمتع بمستوى فني عالٍ جدًا بسبب تركيزه الكبير على تجديد بنية القصيدة الغزلية وصناعتها بدقة ونضج.

المرحلة السياسية والنضالية (ما بعد 1967)
شهدت هذه المرحلة تحولًا جوهريًا في الأسلوب والمضمون إثر صدمة الهزيمة.
تغيرت اللغة والأسلوب إلى نوع من التهكم والسخرية أحيانًا، حيث أصبحت مباشرة وصدامية، أشبه بالبيانات أو الخطب السياسية. الصور الشعرية اتجهت إلى الشعارات والمفردات القوية والجريئة مثل "الخشب"، "التخلف"، و"النفط"، ما جعلها أقل عمقًا وأكثر وضوحًا لتوصيل رسائل تحريضية.
فكريًا، ركز نزار خلال هذه المرحلة على نقد الذات العربية بشكل قاسٍ ودعوة صريحة للثورة والتغيير السريع، مع هجوم واضح ضد الأنظمة.
على المستوى الفني، رأى بعض النقاد أن هذه المرحلة أقل إبداعًا فنياً؛ إذ تغلب الجانب التحريضي على الرمزية والعمق الشعري للاهتمام بالتأثير اللحظي والصدمة السريعة للجمهور.

مرحلة التوفيق (الفترة المتأخرة)
في هذه الفترة حاول نزار استثمار الوعي السياسي العميق في أشكال شعرية أكثر توازنًا.
من أبرز أمثلة هذه المرحلة قصيدة "بلقيس"، التي رغم كونها مرثية شخصية لزوجته، إلا أنها تحولت إلى مرثية وطنية تعكس الألم الفردي والجرح الجماعي للوطن المنهار. امتزج فيها البعد العاطفي بالسياسي بمنتهى الروعة دون الانجرار إلى المباشرة أو الشعارات. بهذا جاءت هذه المرحلة نموذجًا فنيًا لامتزاج المشاعر الشخصية بالقضايا الوطنية في قوالب راقية وعميقة.


محمود درويش
التناص في شعر محمود درويش يمثل عملية إبداعية متقنة، حيث يعيد بناء نص جديد يستمد غناه وعمقه من عوالم النصوص الكبرى السابقة دون أن يكون ذلك تقليداً أو اقتباساً مباشراً. درويش استند إلى التناص مع الكتب المقدسة والذاكرة الجمعية، موظفًا هذه العناصر ضمن سياق شعري يعكس قضايا سياسية ووجودية ترتبط بجذور عميقة في الوعي الجمعي.

لقد لجأ درويش بأسلوب فريد إلى التوراة والإنجيل والقرآن، لا ليستعير النصوص بشكل مباشر، بل ليستحضر السرديات الكبرى والصور الرمزية واللغة المؤثرة ذات الطابع الروحي والتاريخي. ففي نصوصه، نرى تجسيدًا لتجارب إنسانية متكررة: قصة يوسف التي تتمحور حول البئر والغيب والعودة، وقصة المسيح بما تحمله من رمزية الصليب والألم والبعث، وقصة قابيل وهابيل كتجسيد لأول صراع إنساني. بهذا الربط الذكي، يحوّل درويش تجربة الفلسطيني إلى حالة إنسانية تمتد إلى نطاق عالمي.

كما استلهم الشاعر من جماليات الكتب المقدسة في بناء سردياته الملحمية، ويظهر هذا بشكل واضح في قصيدة "الجدارية"، حيث يوظف اللغة الروحيّة والخطاب النبوي بأسلوب جاذب، مستخدمًا نداءات مثل "يا أيها..." و"يا ليلي...". كذلك، يمزج الإيقاع الصوفي وتكرار العبارات بطريقة تحاكي الطقوس الدينية، ما يضفي على النصوص تأثيرًا وجدانيًا يتغلغل في نفس القارئ.

إلى جانب تناصه الروحي والديني، كان لدرويش حوار مستمر مع تراث الشعراء العرب والعالميين. انطلق من إرث المتنبي واستعان بالإيقاعات الجاهلية وأعاد تفسير رمزية الوقوف على الأطلال ضمن سياق معاصر. كما تبادل التأثر مع شعراء الغرب مثل إليوت في "الأرض اليباب"، غير أنه جعل مفهوم الضياع الفلسطيني حالة وجودية ذات طابع خاص.

ما يميز محمود درويش ليس القدرة على إعادة إنتاج الصور أو الأفكار المستمدة من النصوص الكبرى فقط، بل مهارته الفريدة في تحويل تلك المصادر إلى رؤى جديدة تحمل بصمة القضية الفلسطينية المعاصرة. فقد استطاع أن يصبغ هذه السرديات القديمة بألوان الزمن الراهن، ليقدم من خلال ذلك تفسيراً جديداً للواقع الإنساني والعالمي بأسلوب يعكس عبقريته الشعرية.