حول موت التراجيديا في الفن المعاصر
حميد كوره جي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 17:43
المحور:
قضايا ثقافية
يبدو أن تغير طبيعة الصراعات الكبرى في حياتنا قد حوّلها تدريجيًا إلى إرهاق نابع من مشاكل يومية متكررة لا تنتهي. فالتراجيديا بمفهومها الكلاسيكي، التي كانت تستند إلى مواجهة ملحمية بين المبادئ والمصير أو الحياة والموت، أصبحت عاجزة عن تمثيل الواقع الحديث، حيث صارت معاناتنا تتجلى في صراع مستنزف على نحو بطيء وغير حاسم، مجرد سلسلة من المشكلات الصغيرة المتراكمة التي تضعف الروح شيئًا فشيئًا. هذا التغير يجعل من المستحيل تقريبًا استحضار التراجيديا الكلاسيكية في الفن المعاصر، لأنها تفتقر إلى لحظة محورية درامية يجد فيها البطل نفسه في مواجهة قدر محتوم.
الصراعات القديمة كانت أكثر وضوحًا وحدّة؛ كالاشتباك بين الملك والقدر أو بين الشرف والخيانة. أما اليوم فالصراعات أصبحت متشابكة ومعقدة، منتشرة في تفاصيل الروتين اليومي: ضغوط العمل، الالتزامات المالية المتزايدة، القلق الاجتماعي، وحتى الإحساس بالتوهان الوجودي. لم يعد هناك حاجة لبطل تقليدي يجسد الصراع ويتحمل عواقبه، بل أصبح الإنسان العادي الذي يواجه ظروفًا معقدة ونظامًا لا يمكن السيطرة عليه أقرب إلى نموذج البطولة الحديثة، وإن كان يفتقد سمات البطل التراجيدي القوي.
من ناحية أخرى، لم يعد الموت يحتفظ بصورته المهيبة والمروعة كما كان في الماضي. فالانكشاف المفرط للموت عبر الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي جعل وقوعه جزءًا مألوفًا من حياتنا اليومية. هذا الاعتياد يفقد الموت تأثيره العاطفي، وبالتالي يضعف دوره كعنصر أساسي في صناعة الصراع التراجيدي.
تُظهر العلاقة بين الكوميديا والتراجيديا كيف تعالج الفنون الصراع الإنساني بأساليب مختلفة تمامًا. الكوميديا السوداء أو التراجيدية تتوسط بين الحالتين بأسلوبها المتناقض؛ إذ تقدم نهايات تبدو سعيدة لكنها لا تحل المشكلة الجوهرية. في الكوميديا، ينتهي الصراع غالبًا بحل عشوائي أو غير منطقي، ما يعكس هشاشة الحلول المقدمة. وهذا بدوره يثمر شعورًا مزدوجًا لدى الجمهور: الضحك على سطحية الحدث مع إدراك عميق أن المشكلة الحقيقية لم يتم تجاوزها.
بين القلق الذي يثيره الواقع خلف السخرية وبين الضحك على عبثية المواقف، تصبح الكوميديا أداة فعّالة للتعليق على القضايا الاجتماعية والسياسية. إنها تكشف التناقضات وتُبرز المفارقات، مقدمة تأملًا مغايرًا لطبيعة الصراعات الإنسانية اليوم.
فيلم "الديكتاتور العظيم" لتشارلي شابلن يمثل نموذجًا مميزًا يجمع بين الترفيه والتعبير الفكري العميق. النهاية التي يظهر فيها الحلاق بديلًا للديكتاتور ويغير سياساته لا تقدم حلًا واقعيًا لمعضلة الديكتاتورية، بل تطرح تذكيرًا بأن المشكلة لا تزال قائمة، وأن الحل الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على المصادفة أو التبديل السطحي.
في التراجيديا، يواجه البطل الصراع، ولكن غالبًا ما يُهزم أمامه، ما يعكس رسالة أعمق عن طبيعة المأساة البشرية. وعلى الجانب الآخر، نجد في الكوميديا أن البطل يميل إلى تجاهل الصراع أو التحايل عليه، مما يترك المشكلة الرئيسية بلا حل. هذا التباين يفتح بابًا لتأمل علاقة المفاهيم الفنية مع الواقع الاجتماعي، خاصةً حين ننظر إلى حياة الطبقة العاملة تحت مظلة النظام الرأسمالي.
عندما نصف حياة الطبقة العاملة بالكوميديا، فإننا بذلك نشير إلى الصراعات التي تُقدَّم حلولها بشكل سطحي أو زائف، مع بقاء جوهر المشكلة دون معالجة. فالصراع الأساسي الذي تواجهه الطبقة العاملة يتمثل في التناقض بين أحلامها بحياة كريمة ومستقرة وبين الواقع الاقتصادي الذي يفرض شروطه القاسية، كالعمل لساعات طويلة مقابل أجور بالكاد تغطي الاحتياجات الأساسية.
النظام الرأسمالي يقدم سلسلة من "الحلول" التي تُظهر نفسها وكأنها تحل هذه المعضلات، لكنها في الحقيقة تعمل على تغليف المشكلة بدلًا من حلها. العامل يُغرَّر به عبر استهلاك سلع مختلفة مثل الهواتف الذكية والسيارات والملابس، حيث يُربط السعادة بامتلاك هذه الأشياء، مما يخلق شعورًا وهميًا بالإنجاز ويصرف الانتباه عن التحديات الحقيقية. الترفيه السطحي كالأفلام والمسلسلات وألعاب الفيديو يُروج كمهرب مؤقت من ضغوط الحياة، فيضحك العامل أو يغفل مشاكله للحظات قصيرة دون أي حل جذري.
بالإضافة إلى ذلك، تبرز أفكار مثل "النجاح الفردي" أو "أن تصبح مليونيرًا" كحوافز تدفع العامل للعمل أكثر بدافع الأمل في تحقيق أحلامه. ولكن هذه الأفكار تعيد إنتاج الصراع بوجه جديد؛ حيث يُشعر العامل بالفشل إذا لم يصل لهدفه، متجاهلًا تأثير النظام ككل في تكبيله. بهذه الطريقة، يتحول اللوم من النظام إلى الشخص نفسه، مما يرسخ الإحباط بدلًا من تفكيك أصل المشكلة.
جميع هذه الحلول لا تعالج جوهر المشكلة، بل تضع العامل في حالة من المزج بين الضحك والقلق. فهو قد يضحك على مشهد فكاهي في فيلم أو يشعر بالسعادة عند شراء شيء جديد، لكنه يدرك في أعماق نفسه أن أزماته الاقتصادية لم تُحل، وأن عليه مواصلة العمل المرهق في يومه التالي.
إن الكوميديا ليست مجرد شكل فني، بل هي أداة للكشف عن الواقع الاجتماعي. وفي نهاية المطاف، حياة الطبقة العاملة لا تنتهي بقصة تراجيدية مكتملة، بل تستمر كسلسلة لا متناهية من حلول سطحية تجلب طابعًا كوميديًا لكنها تفشل دائمًا في معالجة المشكلات الحقيقية.
متى تتحول هذه الكوميديا إلى تراجيديا؟ ربما حين يصل العامل إلى يقين بأن الحلول المقدمة له ما هي إلا مجرد سراب، وأن التغيير الحقيقي لا يأتي بالاستهلاك أو الترفيه، وإنما عبر مواجهة صريحة ومباشرة للمشكلة. تلك المواجهة قد تتطلب تقديم تضحيات جوهرية، أو ربما الدخول في صراع وجودي عميق، مما قد يعيد التراجيديا - بكل ثقلها - إلى الفن والحياة.
وبالنسبة للطبقة البرجوازية الحديثة، فإن عدم قدرتها على إنتاج تراجيديا مؤثّرة أو كوميديا ذات معانٍ عميقة مرتبط بشكل كبير بافتقارها للصراعات الأخلاقية أو الملاحم الواقعية في حياتها اليومية. هذا الغياب يجعلها تعيش في فضاء خالٍ من عمق التجربة الإنسانية الذي كان سابقًا أساسًا لخلق الفن العظيم.
إن التراجيديا تستدعي وجود بطل يواجه مصيرًا مأساويًا نتيجة التزامه بقيم أخلاقية سامية. هذه السمة بارزة في الحكايات التي تتناول قصص الفرسان والنبلاء؛ أولئك الذين يضحون بحياتهم في سبيل الدفاع عن الشرف، الحب، أو المبادئ.
على سبيل المثال، حينما يضحي فارس بحياته في ساحة المعركة، يبرز هنا الصراع التراجيدي بين الشجاعة والقدر المحتوم المتمثل في الموت. كذلك، حينما يُجبَر نبيل على الاختيار بين الحب والمكانة الاجتماعية، يظهر صراعٌ تراجيدي ذو أبعاد أعمق بين القيم الروحية والمصالح المادية.
ومع ذلك، يبدو أن السياق البرجوازي الحديث قد أفرغ هذا النوع من القصص من العمق الأخلاقي الذي يمنحها بعدًا تراجيديًا. ففي هذا العصر، تتحول المآزق إلى تحديات مادية تحكمها الحسابات الاقتصادية. على سبيل المثال، حينما يُقدم رجل أعمال على الانتحار نتيجة الإفلاس المالي، فإننا لا ننظر إلى هذه الحالة بوصفها تراجيديا نابعة من تضحية أخلاقية، بل كفشل تجاري يعكس عواقب طبيعية للمغامرة الاقتصادية. هنا يغيب البُعد الأخلاقي الذي يُمكن أن يجعل من مثل هذا الفصل مأساة ذات دلالات عميقة. وبالمثل، عندما يخون رئيسٌ سكرتيرته، فإن ما يُقدَّم ليس صراعًا بين الحب والمكانة، بل صورة نمطية للسلوك النفعي والانتهازية المجردة من أي أفق تراجيدي.
أما فيما يتعلق بغياب الكوميديا، فإن الأمر قد يكون مرتبطًا بالطبيعة السطحية للصراعات التي تحكم حياة الطبقة البرجوازية المعاصرة. فالكوميديا، على غرار التراجيديا، تحتاج إلى صراع يسير نحو حل غير متوقع أو يؤدي إلى نتيجة ساخرة تحرّك مشاعر المشاهد. إلا أن الصراعات التي تنشأ داخل عالم البرجوازية غالبًا ما تكون مجرد تنافس على الربح أو مكائد تسعى لتحقيق مصالح آنية من خلال الخداع والتلاعب واستغلال الآخرين. في مثل هذه السياقات، يغيب الأبعاد الإنسانية العميقة الضرورية لإنتاج كوميديا تعكس شيئًا جوهريًا عن الصراعات البشرية، مما يجعلها باهتة لا تولّد الضحك الحقيقي ولا تحمل النكهة الساخرة المميزة للكوميديا الكلاسيكية.
هذه المعطيات تدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان الفن الحديث بحاجة للبحث عن أبطاله التراجيديين والكوميديين في طبقات اجتماعية أخرى أكثر اتساعًا وانفتاحًا على البعد الأخلاقي، أم أن عليه اختراع أشكال جديدة من التراجيديا والكوميديا تتلاءم مع الواقع البرجوازي المعاصر؟ يشير ذلك البحث إلى مهمة شاقة للفنون في محاولة خلق نموذج جديد قادر على بعث قيم إنسانية أعمق داخل سياق يهيمن فيه الطابع النفعي والمادي. هل يمكن أن يكون الفن المعاصر قادرًا على إعادة صياغة هذين النوعين بأسلوب يتماشى مع عصرنا؟
التراجيديا تتطلب بطلًا استثنائيًا، فردًا يواجه قدرًا مفردًا وخاصًا به. لكن العامل الجائع الذي يصطف منتظرًا للحصول على الخبز ليس فردًا فريدًا، بل يمثل حالة عامة تتكرر بين آلاف الأفراد الذين يواجهون المصير نفسه. صراعاته ليست فردية أو ذات طابع أسطوري، بل هي جماعية وعادية، مما يحجبه عن موقع البطل التراجيدي.
معاناة الطبقة العاملة لا تصل إلى ذروات حاسمة كما هو الحال في صراع الحياة والموت أثناء الحروب، بل تتخذ شكل دوامة أبدية من المصاعب اليومية الصغيرة. وما يُحَلّ منها مؤقتًا سرعان ما يُستبدل بمشكلة أخرى. هذا الوضع المتكرر، الذي يشبه مسيرة "سيزيف" الأبدية، حيث يدفع الصخرة إلى قمة الجبل لتعود وتتدحرج، يشكل جوهر الكوميديا التي تصف واقعهم.
الكوميديا بطبيعتها تقدم حلولًا ساخرة وغير جادة للمشاكل. وهذا يعكس تمامًا حياة الطبقة العاملة؛ فهم يُمنَحون حلولًا تبدو كأنها تحمل الإنقاذ، لكنها في حقيقتها لا تفعل سوى إطالة أمد معاناتهم. فالدين يعلمهم أن الحل في الرضا والدعاء، مما يقلل من وزن مشكلاتهم المادية. وكتب التنمية الذاتية تروّج لفكرة أن التفكير الإيجابي والثقة بالنفس هما المفتاح، محولةً الأزمة من عطب في النظام إلى مسؤولية فردية بحتة.
البطل في التراجيديا يمثل القوة والمبادئ، لكن "البطل" في الكوميديا لا يزيد عن كونه وجهًا مألوفًا وسط آلاف الوجوه التي تُنهَك وتضيع في خضم مشكلات الحياة اليومية. بدلاً من الانهيار الكبير والمصيري، فإن التآكل البطيء والباهت هو ما يجعل المشهد الكوميدي أقرب للواقع وأكثر مرارة.
الكوميديا ليست دائمًا وسيلة لإثارة الضحك الخالص؛ بل يمكن أن تكون صورة متخفية للتراجيديا. الضحك الذي ينبعث منها هو ضحك مرّ على وضع ميؤوس منه، وعلى عبثية الحلول المطروحة لمعالجته.
هذا اللون من الكوميديا يعد الأكثر صدقًا في عكس الواقع الاجتماعي؛ لأنه لا يبيع أوهامًا أو نهايات مثالية، بل يعبر بوضوح عن حقيقة المعاناة المتكررة واليومية.
طبيعة حياة الطبقة العاملة تحمل في طياتها جوهرًا كوميديًا، حتى وإن كانت غارقة بالمعاناة. إنها تعبير عن الترابط بين الألم اليومي المتكرر والمشترك، وغياب شخصية البطل التراجيدي الفردي، بالإضافة إلى الوهم الذي تقدمه الحلول المؤقتة التي لا تكسر الحلقة.
التراجيديا تتطلب وجود بطل استثنائي ومتفرد يعاني مصيرًا خاصًا به. لكن العامل الجائع المنتظر في طابور الخبز ليس رمزًا للفرادة، بل هو انعكاس لنموذج يشبه الآلاف الذين يعانون المصير نفسه. معاناته ليست قصة فردية خيالية أو ملحمة بطولية، بل هي مأساة جماعية متكررة. هذا الواقع يحجب عنه صفة أو لقب البطل التراجيدي.
معاناة هذه الطبقة لا تصل إلى ذروة درامية حاسمة كما في صراع الحياة والموت بالحروب، بل تتخذ شكل دورة لا تنتهي من مشاكل روتينية صغيرة. كل مشكلة تجد حلاً مؤقتًا قبل أن تبرز مشكلة جديدة. هذا السيناريو يعكس حالة أقرب إلى المأساة "السيزيفية"، حيث يدفع الإنسان صخرة جهده وصراعه نحو القمة فقط لتسقط مرة أخرى. وفي قلب هذا الوضع تتجلى عناصر الكوميديا التي تصف طبيعة حياتهم.
هذا يفتح الباب لنقد العلاقة بين الطبقة الاجتماعية والفن والهوية. الطبقة البرجوازية المعاصرة، بخلاف الطبقات النبيلة تاريخيًا، تفتقر إلى القدرة على ابتكار تراجيديا أو كوميديا من واقعها الخاص بسبب مادية حياتها وافتقادها للقيم الكبرى. في المقابل، حياة الطبقة العاملة غنية بعناصر الحزن والفكاهة المتشابكة، ولكن هذه الحياة قلما تظهر في الفن السائد، الذي يبقى إلى حد كبير وليد الطبقة البرجوازية نفسها.
تدور حياة البرجوازي حول تحقيق الربح المادي وتكريس الجهود للاستهلاك، الأمر الذي يجعل صراعاته الشخصية تبدو سطحية وفاقدة للعمق. فحين يُواجه رجل الأعمال حالة إفلاس، لا يُنظر إلى هذا الحدث كفاجعة تراجيدية، بل يُختزل في كونه مجرد فشل مالي. وبالمثل، تظهر علاقاته العاطفية كأنها مجرد تبادلات نفعية أو تُستغل لتحقيق مصالح شخصية. تعيش هذه الفئة حياة غارقة في الانكفاء على ذاتها، خالية من القيم الأخلاقية العميقة أو التناقضات الوجودية المكثفة التي يمكن أن تكون مصدرًا لإنتاج أعمال تراجيدية أو كوميدية بالمعنى الإنساني الأصيل.
مع ذلك، فإن هذا الافتقار إلى العمق الوجودي لا يعوق الفن البرجوازي عن محاولاته إنتاج أعمال تراجيدية. بل إن هذا الفن يعتمد في كثير من الأحيان على استعارة التراجيديا من شخصيات أخرى تنتمي إلى أنماط حياتية مختلفة، مثل الجنود، الأبطال الخارقين، ورعاة البقر. هذه الشخصيات تُقدَّم باعتبارها أبطالًا يتعاملون مع صراعات وجودية عميقة لا تمت بصلة مباشرة إلى طبيعة الحياة البرجوازية. وعلى هذا المنوال، يُمكن اعتبار هذه العملية نوعًا من الهروب الذاتي، حيث يسعى البرجوازي إلى رؤية ذاته مجسدة في صور بطولية تنفي حقيقته وتخفي بعدها السطحي.
الأمر الأكثر لفتًا للانتباه هو إنكار البرجوازية لهويتها الطبقية. فبدلًا من إبراز كونها طبقة رأسمالية، تتستر وراء هويات محايدة مثل "مواطن"، مما يعكس محاولة واضحة لإخفاء طبيعة حياتها ومصالحها. هذا الإنكار يجعل تقديم البرجوازية في الأعمال الفنية أمرًا معقدًا، حيث تفتقر إلى وضوح الهوية الذي يمكن تجسيده فنيًا.
وعلى الرغم من غنى حياة الطبقة العاملة بالعناصر الدرامية التي تتنوع بين التراجيديا والكوميديا، يظل تمثيلها الفني قاصرًا في الغالب. يعود ذلك إلى أن الأدوات الثقافية والفنية ظلّت تقليديًا تحت سيطرة الطبقات الحاكمة، مما أدى إلى إنتاج أعمالٍ تخدم بالأساس القيم والأيديولوجيات التي تدعم الهيمنة البرجوازية. نتيجةً لذلك، بات من الصعب على الفن السائد تمثيل صراعات الطبقة العاملة بصدق وعفوية.
مع ذلك، بدأت هذه الهيمنة تشهد تغيرًا ملحوظًا في العصر الرقمي الراهن. فقد وفرت سهولة إنتاج ومشاركة المحتوى فرصة غير مسبوقة لكسر احتكار البرجوازية للمشهد الفني وإفساح المجال أمام ظهور أصوات تمثل الطبقات العاملة والفئات المهمشة. في السابق، كان إنتاج عمل فني عالي الجودة—سواء أكان فيلمًا، كتابًا، أو ألبومًا موسيقيًا—يتطلب موارد مالية ضخمة كانت متاحة حصريًا للنخبة. أما اليوم، فإن التكنولوجيا الرقمية أتاحت إمكانية إنتاج أفلام ذات جودة متميزة باستخدام الهواتف الذكية وبرامج تحرير الفيديو التي تتوفر مجانًا أو بتكلفة منخفضة نسبيًا.
علاوة على ذلك، لم تعد منصات التوزيع التقليدية، مثل السينما ودور النشر وشركات الإنتاج الكبرى، تسيطر بشكل مطلق على وصول الأعمال الفنية إلى الجماهير. بفضل منصات مثل يوتيوب، تيك توك، سبوتيفاي، وغيرها من وسائل النشر الذاتي، أصبح بإمكان أي فرد نشر أعماله ومشاركتها مع جمهور عالمي دون الحاجة إلى المرور عبر "حراس البوابة" التقليديين الذين طالما احتكروا صلاحيات تحديد ما يراه الجمهور. لقد أدى هذا التحول إلى إعادة تشكيل المشهد الفني بشكل جذري، مُفسحًا المجال لتنوع أكبر في تمثيل التجارب الإنسانية المختلفة.
أصبحت المنصات الرقمية وسيلة فعالة لتوثيق التجارب الشخصية والتعبير عنها، حيث بات بإمكان الأفراد من الطبقة العاملة مشاركة حياتهم اليومية من خلال المدونات، الفيديوهات القصيرة، البودكاست، وحتى فنون الشارع الرقمية. هذا التنوع في وسائل التعبير أتاح الفرصة لبروز أصوات كانت غائبة لوقت طويل، لينقلوا صراعاتهم اليومية بأسلوب صادق ومباشر.
يمكن ملاحظة هذا التغيير بوضوح في مجال الفن الرقمي مع انتشار صناعة المحتوى، حيث يشارك ملايين المبدعين تجاربهم وقصصهم اليومية، سواء عبر لحظات فكاهية أو سرد أحداث تراجيدية. غالبًا ما يركز هذا المحتوى على التحديات البسيطة والمعاناة اليومية، مما يحقق تفاعلًا وإحساسًا قويًا لدى الجمهور. كذلك يظهر هذا التحول جليًا في الأفلام المستقلة والوثائقية، حيث تمكن الأدوات الرقمية المخرجين المستقلين من إنتاج أعمال تروي حكايات عن حياة الطبقة العاملة دون الحاجة إلى ميزانيات ضخمة من جهات الإنتاج التقليدية.
ورغم استمرار الفن السائد في الخضوع لتأثير الطبقات المهيمنة، إلا أن العصر الرقمي خلق مساحة موازية تتيح تمثيل صراعات الطبقات الأخرى. وهذه المنصة الجديدة تمنحهم صوتًا وفرصة لتعريف العالم بقضاياهم، وهو الأمر الذي لم يكن ممكنًا في السابق.