معارض الكتاب بين القيمة الاقتصادية والتأثير الاجتماعي
حميد كوره جي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 12:26
المحور:
قضايا ثقافية
تتجاوز معارض الكتاب الحديثة كونها أسواقاً لبيع المنتجات الثقافية، لتتحول إلى ما يشبه "المشاريع الوطنية" التي تؤدي وظائف حيوية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي تمثل المعارض "رئة تتنفس" من خلالها دور النشر، حيث تُحقق مبيعات ضخمة تعادل أحياناً مبيعات أشهر كاملة في فترة زمنية قصيرة. هذه المبيعات هي قمة الهرم التسويقي والتوزيعي، خاصة في الأسواق التي تعاني من ضعف التوزيع المنتظم وقلة شبكات المكتبات.
لا يقتصر الأثر على بيع الكتب، بل يولد المعرض حركة اقتصادية أوسع تشمل قطاعات الخدمات (وظائف مؤقتة، تنظيم فعاليات، فنادق، مطاعم، إعلام). هذا يعزز فكرة أن الثقافة هي قطاع حيوي ومُولد للدخل، وليست مجرد "كمالية".
وعلى الرغم من أن المعرض يساهم في تنشيط الاقتصاد خلال فترة انعقاده، إلا أنه قد يؤدي إلى "تأثير الفقاعة"، حيث تتوجه القوة الشرائية المخصصة للكتب طوال العام نحو هذه الأيام فقط. هذا يمكن أن يكون إعادة توزيع للمبيعات على حساب المكتبات التقليدية طوال العام، بدلاً من تحقيق نمو ملحوظ ومستدام للاقتصاد الثقافي ككل.
وغالباً ما يتم التغاضي عن التكاليف الكبيرة التي تتحملها دور النشر للمشاركة في المعرض، مثل إيجار الأجنحة، تكاليف الشحن، ومصاريف إقامة الموظفين. هذه الأعباء يمكن أن تؤدي إلى تقليص فرص المنافسة وإبعاد دور النشر الصغيرة أو المستقلة، مما يمنح أفضلية للدور الكبرى التي تمتلك إمكانيات مالية أقوى.
يُعتبر المعرض حلاً مؤقتاً لمشكلة مبيعات الناشرين، لكنه لا يعالج الجوهر الحقيقي للمشكلة؛ وهو النقص في شبكات توزيع فعّالة ومستدامة على مدار العام. ضعف شبكات المكتبات التقليدية يبقى تحدياً كبيراً يعرقل تطور صناعة النشر بشكل عام.
ينظر إلى المعرض كأنه احتفال جماعي يعزز قيمة المعرفة، حيث يحول القراءة من مجرد عادة فردية إلى طقس اجتماعي يتشارك فيه الجميع. ينجح هذا الحدث في تغيير مفهوم القراءة من نشاط هادئ منعزل إلى مناسبة احتفالية جماعية، مما يكسر حاجز العزلة ويوحد القارئين في تجربة مليئة بالتفاعل والمشاركة التي تمجد المعرفة.
تلعب الندوات واللقاءات الحوارية المصاحبة للمعرض دوراً محورياً في تعزيز الوعي والنقاش حول موضوعات مثل الهوية، الحرية، والمستقبل. التواصل المباشر بين المفكرين والجمهور يتيح فرصاً لا يمكن تحقيقها بنفس العمق عبر المنصات الرقمية، حيث يحمل قيمة فريدة تعزز التفاعل الثقافي والفكري بشكل حي ومباشر.تمثل دعوة دور نشر من دول مختلفة إلى المعرض وتصويرها كنافذة على أدب جديد أو فلسفات متنوعة خير مثال على التبادل الثقافي العالمي. هذه المبادرة تساهم في غرس روح إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية، مما يخلق فضاءً مستوحى من الرؤى المشتركة والتفاهم الثقافي العميق.
وعلى الرغم من أن البعض يرى أن اللقاءات الملهمة مع الكتاب والشخصيات الثقافية البارزة يمكن أن تكون مفتاحاً لتغيير الأحلام إلى واقع، بل وقد تؤدي إلى تحديد المسارات المهنية، فإن مثل هذا الاعتقاد قد يبدو مبالغاً فيه. بناء مسار مهني يعتمد على عوامل أساسية ومتعددة مثل التعليم الشامل والتجربة العملية المستمرة والمجهود الشخصي طويل الأمد في تحقيق النمو الذاتي. ولذلك، التركيز فقط على هذه اللحظات العابرة يهمل العناصر الأكثر تأثيراً في تشكيل مستقبل الشخص وينحرف عن النظرة الواقعية.
في نفس السياق، تعتمد بعض الآراء على الاستفادة من البيئة الحسية الملفتة، كتصاميم الأروقة الجذابة وأغلفة الكتب بألوانها الزاهية وروائحها المميزة، لجذب الزائر وإعادته إلى عالم القراءة. وبينما قد تستقطب هذه العناصر الانتباه في البداية، إلا أن استمرارية العلاقة بين القارئ وعالم الكتب تتطلب محتوى ذو قيمة وتأثير دائم، بالإضافة إلى توافر الكتب بأسعار تناسب مختلف الميزانيات. السحر الخارجي قد يكون بوابة دخول، لكنه بحاجة لتجربة قراءة غنية تلبي توقعات القارئ وتحافظ على ارتباطه المستدام بعالم الكتاب.
تتردد بعض الآراء التي تدّعي وجود انفصال شبه تام بين نوعين من الوعي. الأول يتكوّن من القراءة الورقية البطيئة والعميقة الممتدة عبر الزمن، والثاني ينبع من الرقمنة، حيث يتميز التفكير بالسرعة ولكنه يفتقر إلى العمق والثبات. هذه الرؤية تبدو مبسطة للغاية ولا تراعي الطبيعة المعقدة للوعي في زمننا الراهن، حيث تتشابك القراءة المعمقة، سواء أكانت ورقية أم رقمية، مع النقاشات الديناميكية التي تجري في فضاءات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. من المفترض أن تعمل الفعاليات الثقافية الكبرى، مثل معارض الكتب، كجسر تفاعلي يعزز التكامل بدلاً من الانقسام بين هذين العالمين.
تمثل معارض الكتب رمزاً للقيمة الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن للآلات استبدالها، مثل التفاعل البشري المباشر والتجربة الحسية الملموسة. تسهم هذه الفعاليات في تذكيرنا بأن الثقافة ليست مجرد مجموعة معلومات بل هي طقس إنساني وتجربة عميقة. ومع ذلك، يجب الحذر من تبني رؤية مثالية تضخّم الأثر الفعلي لمثل هذه المعارض. فالحجج الاقتصادية غالباً ما تتجاهل التعقيدات والمصاعب التي تواجه صناعة النشر، بينما تميل الحجج الاجتماعية إلى المبالغة في تصور أثر هذه الأحداث المؤقتة على التحولات الشخصية أو المهنية. يجب فهم المعرض كأداة مساعدة تعزز الثقافة، وليس حلاً شاملاً للمشكلات الجوهرية التي تواجه عالم النشر والتعليم.
الافتراض بأن اللقاءات العابرة تستطيع حسم المسارات المهنية لا يخلو من مبالغة، إذ ينتشر تصور بأن لقاء بسيطاً بين كاتب وشخص شاب مهتم بالكتابة قد يكون كافياً لتشكيل مستقبل الشاب المهني بالكامل. وعلى الرغم من أن هذه اللقاءات قد تحمل إلهاماً وتحفيزاً، فإنها نادراً ما تكون العامل الأساسي في تحديد مسيرة مهنية كاملة. فإن النجاح يحتاج عادة إلى مزيج من التعليم المنهجي المتين، التراكم التدريجي للخبرات، والعمل المستمر على تطوير المهارات. لذلك، من غير الواقعي تحميل لحظات عابرة وزناً يفوق أهميتها الطبيعية في رحلة أي إنسان.
وهناك اعتقاد بأن البيئة الجذابة وحدها يمكنها ترسيخ عادة القراءة. فهذا الاعتقاد يحتاج إلى تحليل أعمق. هناك ميل للإشادة بتأثير التصاميم الجذابة للمساحات الثقافية وأغلفة الكتب البراقة أو رائحة الورق القديم، وكأنها قادرة على تحويل الأفراد إلى قراء مواظبين. لكن الحقيقة أن مثل هذه العناصر يمكن أن تحفز زيارة عابرة أو تجذب الانتباه مؤقتاً، إلا أن تكوين عادة القراءة يعتمد على عوامل أعمق مثل توافر محتوى ملهم يلبي احتياجات القارئ، القدرات الشرائية، ودافع شخصي مستمر نحو المعرفة. بعبارة أخرى، المظاهر قد تكون بوابة للدخول، لكنها ليست ضماناً للاستمرارية.
إن التصور القائل إن هناك فصلاً حاداً بين الوعي الورقي التقليدي والوعي الرقمي الحديث، أعده تبسيطاً لعلاقة أكثر تعقيداً. هذا التصور الذي ينظر إلى الوعي الورقي على أنه عميق ومتمهل ومقاوم للسطحية، مقابل اتهام الوعي الرقمي بالتركيز على السرعة والعشوائية. لكن الواقع يشير إلى تداخل لا يمكن إنكاره بين العالمين. اليوم، تتأثر القراءة المعمقة سواء كانت ورقية أو رقمية بالنقاشات المتسارعة التي تحدث عبر الشبكات الاجتماعية. هذا المزج يخلق وعياً يعتمد على التوازن بين التأمل العميق والتفاعل اللحظي. لذا، فإن معارض الكتب يمكن أن تتحول إلى مساحة تُمكّن من الدمج بين الجانبين بدلاً من ترسيخ الانفصال، إذا تحقق النجاح في استثمار إمكانياتهما المتكاملة بشكل أذكى وأكثر تناغماً.
مالمو
2025-12-11