المعادلة المعقدة بين الشيوعي والشيعي
حميد كشكولي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8164 - 2024 / 11 / 17 - 13:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العلاقة بين الشيوعيين العراقيين والشيعة معقدة وتاريخية. في العراق حيث يشكل الشيعة غالبية السكان، وقد لعبوا دورًا كبيرًا في تاريخ البلاد السياسي والاجتماعي. الشيوعيون العراقيون، من جانبهم، كانوا جزءًا من الحركة السياسية في العراق منذ أوائل القرن العشرين.
في بعض الفترات، وجد الشيوعيون والشيعة أنفسهم في تحالفات غير رسمية، خاصة في مواجهة الاحتلال الأجنبي أو الأنظمة القمعية.
أما فيما يتعلق بالاستشهاد، فإن الشيعة لديهم تقليد طويل من الاستشهاد، يعود إلى مقتل الإمام الحسين في كربلاء، والذي يعتبر حدثًا محوريًا في التاريخ الشيعي. هذا الحدث ألهم العديد من الحركات اليسارية في العراق وايران وخارجهما، وأصبح رمزًا للمقاومة والتضحية.
وعلى الرغم من الاختلافات الجوهرية بين الشيوعية والإسلام الشيعي، و المحاربة الدائمة من المرجعية الشيعية للفكر الاشتراكي والماركسي، إلا أنهما يتشاركان في بعض القيم والمبادئ، وخاصة قبل تولى الشيعة الحكم في العراق بعد سقوط النظام البعثي بيد الأمريكان، مثل العدالة الاجتماعية، ومقاومة الظلم والاستبداد، والسعي لتحقيق المساواة. هذا التقاطع أوجد أرضية مشتركة للتعاون بين الشيوعيين والشيعة في بعض الأحيان.
في السياق العراقي، الدين والسياسة متشابكان بشكل وثيق حيث إن الشيعة يشكلون غالبية السكان، وبالتالي فإن أي حركة سياسية لا يمكن أن تتجاهل هذا الواقع. الشيوعيون العراقيون، بدورهم، حاولوا التوفيق بين أيديولوجيتهم الماركسية وبين الدين، من خلال التأكيد على الجانب الاجتماعي للإسلام الشيعي.
وقد كانت طبيعة التحالفات بين الشيوعيين والشيعة متغيرة على مر التاريخ، وتأثرت بالظروف السياسية والاجتماعية السائدة في كل فترة. في بعض الأحيان، كان هناك تعاون وثيق، وفي أحيان أخرى كان هناك صراع وتنافس. كمت لعبت الطبقة العاملة دورًا حاسمًا في تقارب الشيوعيين والشيعة، حيث أن العديد من الشيوعيين كانوا من أصول شيعية، وكانوا على دراية بمعاناة الفقراء والمهمشين.
وقد أثرت الثورة الإيرانية في عام 1979، والتي كانت بقيادة خميني ورجال دين شيعة آخرين، بشكل كبير على الديناميكيات السياسية في العراق، وأدت إلى تعزيز دور الشيعة في الحياة السياسية.
في مؤتمر شعوب الشرق الذي عُقد في مدينة باكو (أذربيجان) في شهر سبتمبر عام 1920، ألقى الزعيم السوفيتي فلاديمير لينين كلمة مؤثرة حول علاقته بالحركات الوطنية وشعوب الشرق، ومنها الشعوب الإسلامية. ركز لينين في خطابه على أهمية التحرر من الاستعمار والإمبريالية الغربية، وشجع الشعوب المستعمَرة، ومن بينها الشعوب الإسلامية، على النضال ضد السيطرة الإمبريالية. كانت الرسالة الرئيسية في حديثه دعم كفاح الشعوب المستضعفة من أجل التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية.
في كلمته، خاطب لينين المسلمين باحترام واعتبرهم جزءًا مهمًا من التحالف العالمي ضد الإمبريالية. سعى لينين من خلال هذا الخطاب إلى بناء جسور مع الشعوب الإسلامية ومحاولة توجيه الحركات المناهضة للاستعمار للاستفادة من الدعم السوفيتي، مع التركيز على قضايا الاستقلال والسيادة ومناهضة التدخلات الأجنبية.
لم يكن تركيز لينين على الإسلام كدين، بل على المسلمين كجزء من الشعوب المستعمَرة والمضطهدة التي تعاني من الإمبريالية. وقد استخدم لينين هذا المؤتمر لتعزيز التضامن الأممي ودعوة الشعوب إلى الاتحاد ضد القوى الاستعمارية الغربية، حيث رأى أن نضال هذه الشعوب يتماشى مع أهداف الثورة البلشفية في القضاء على الظلم الاجتماعي والاقتصادي عالميًا.
كان الخطاب علامة فارقة في العلاقات بين الاتحاد السوفيتي والشعوب الإسلامية. فقد تجاوز حدود السياسة إلى عالم الأفكار، حيث رسم صورة واضحة عن موقف السوفييت الداعم لحركات التحرر الوطني في العالم الإسلامي.
أكد لينين على ضرورة التحرر من نير الاستعمار والإمبريالية الغربية، معتبراً إياه عدواً مشتركاً للشعوب المستضعفة. ولم يقتصر الأمر على الشعارات، بل قدم السوفييت دعماً مادياً وعسكرياً لحركات التحرر الوطني في العديد من البلدان الإسلامية. وشجع هذا الخطاب الشعوب الإسلامية على مواصلة نضالها ضد الاستعمار، وزاد من شعورها بالوحدة والتضامن.
ربط لينين بين قضية التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، مؤكداً أن التحرر الحقيقي لا يتحقق إلا بإقامة نظام اجتماعي عادل. وقد جذبت هذه الفكرة العديد من المثقفين والقادة الإسلاميين الذين كانوا يسعون إلى تحقيق التغيير الاجتماعي في بلدانهم.
وفي سياق استعراض أبعاد أعمق لتاريخ اليسار الإسلامي، من الضروري أن ننظر إلى بعض الأحداث المحورية التي شكلت هذا التيار. فقد أوصى المؤتمر بتكوين وحدة خاصة بالشيوعيين الإسلاميين. كانت هذه الوحدة مبنية على تعريف قدمه الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين للإسلام كمعتقد يشكل دينًا لـ "أمة" تعاني من الاضطهاد، بل ويرى فيه دينًا يخضع للمضايقة والتضييق.
ولا يمكن التغافل عن الأحداث البارزة في الفترة ما بين 1978 و1979، عندما قدم حزب توده الإيراني، الذي يمثل الشيوعيين التقليديين في البلاد، دعمه لثورة الخمينيين المعروفة بالثورة الإسلامية، وساهم في تمكين الإسلاميين الشيعة من الوصول إلى السلطة لتحقيق انتصاراتهم السياسية والاجتماعية. ومن جهة أخرى، لقي هذا الانتصار آنذاك تأييدًا وتصفيقًا من النخب والمثقفين الغربيين الذين كانوا يرون فيه مصلحة متبادلة.
وفي العقد الذي تلاه، وبالتحديد خلال الثمانينيات من القرن الماضي، أعرب كريس هارمن، وهو معروف بتوجهه التروتسكي البريطاني، عن دعمه للتحالف الاستراتيجي بين الماركسيين والإسلاميين، مستندًا في ذلك إلى نظرياته حول مكافحة الرأسمالية والإمبريالية كوسيلة لتوحيد الجهود ضد هذه القوى العالمية.
عندما نتحدث عن مفهوم الماركسية الإسلامية، لا نقصد بذلك أن هناك اجتماعاً سرياً يجمع بين مجموعة من المسلمين ومجموعة من الماركسيين في غرفة مغلقة لتوقيع اتفاقية للتعاون والتنسيق بينهم،إنما المقصود هو تداخل مجموعة من الأفكار والمبادئ التي تمثل تيارين إيديولوجيين رئيسيين، مما يؤدي كثيراً إلى تعاون أو تفاعل مشترك دون إدراك كامل للعواقب التي قد تترتب على هذا التداخل.
يمكننا رؤية أمثلة على الماركسية الإسلامية في تشكيلات مختلفة مثل مجاهدي خلق، وحزب توده، وتنظيم الفدائيين، إضافة إلى الطلاب "السائرين على خط الإمام" الذين قاموا بالسيطرة على السفارة الأمريكية، والوطنيين الذين يحملون أفكاراً دينية. كما نجد أيضاً شخصيات بارزة كعلي شريعتي، وكذلك الدكتور سامي، والدكتور بيمن، وموسوي خويينيها، ومجمع رجال الدين المناضلين في هذا السياق. بل وهناك أيضاً شيوعيون متميزون مثل خسرو گلسرخی ومسعود أحمدزاده الذين يتجلى تأثيرهم في هذا التفاعل المعقد.
كان مؤسسو حركة مجاهدي خلق يؤمنون بعمق أنهم ”مسلمون حقيقيون" ملتزمون، ولكنهم في الوقت ذاته كانوا ينظرون إلى الماركسية باعتبارها منهجاً علمياً للنضال والمقاومة.
وفي سياقٍ آخر، قام المفكر البارز علي شريعتي بإعادة صياغة شخصية الإمام الحسين بأسلوب مبتكر يقترب من الطريقة الثورية التي عُرف بها تشي غيفارا، مما أضفى على الشخصية بُعدًا رمزياً جديدًا. كما قام شريعتي بدمج شخصيات تاريخية إسلامية مثل أبي ذر والمقداد وعمار وسلمان الفارسي ضمن إطار مستوحى من النماذج الفكرية الماركسية، معززاً بذلك من قيمة هذه الشخصيات في السياق الإسلامي عبر تقديمها في ضوء معاصر ومميز يتماشى مع أفكارهم التحررية والنضالية.
آلاف الطلاب قبلوا مثل هذا التفسير للإسلام. ومن جانب آخر، بدأ خسرو گلسرخی حديثه في المحكمة بقوله: "مولانا الحسين، شهيد كبير لشعوب الشرق الأوسط" واعتبر مسعود أحمدزاده أن إراقة الدماء (الشهادة) هي عامل إيقاظ الشعوب.
كان الماركسيون يفكرون في استخدام إمكانيات الدين ورجال الدين للإطاحة بنظام الشاه. وقد أيد الماركسيون انتفاضة 15 خرداد دون التعمق في محتواها الديني. واعتبروا حق التصويت للنساء مجرد عرض، وهاجموا التصنيع في البلاد تحت مسمى البرجوازية الكومبرادورية. كان اليساريون يرون رواد الصناعة في إيران مثل عائلة خيامي، وبرخوردار، وآزمايش، وحبيب ثابت، ولجوردي، ورضائي، وغيرهم، كخدم للإمبريالية، وأعدموا الثوريين مثل فاتح يزدي.
نجد مثالاً على تداخل الماركسية والإسلام في دفاعات خسرو گلسرخی في المحكمة. يقول: الحياة جزء من العقيدة والجهاد. أستهل كلامي بحكمة من الإمام حسين، شهيد الشعوب الكبرى في الشرق الأوسط. وأنا، الذي أعتبر نفسي ماركسيًا لينينيًا، سعيت لأول مرة لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال التعاليم الإسلامية، ومن ثم اهتديت إلى الاشتراكية.
گلسرخي، في معرض الحديث عن مواقف الشعوب، يوضح بأن هذه المواقف تتبلور في السير على نهج "سيدنا" الحسين، الذي أصبح رمزاً لا تزال الجماهير تردد شعاراته وتسير على خطاه عبر التاريخ. وفي هذا الإطار، يرى أنه يمكن التوفيق بين مبادئ الإسلام الحقيقي والفكر الماركسي باعتبارهما قضايا تتجاوز الاهتمامات الدنيوية والايديولوجية المباشرة. هم يدعمون هذا النوع من التفسير للإسلام المستلهم من روح مولا علي ومنهجية الحسين، ذلك الإسلام الذي يركز على العدالة والمساواة والوقوف ضد الظلم. بالإضافة إلى ذلك، فإن الفدائيين التابعين لحركة خلق يقتبسون بشكل غير واعٍ في أديباتهم روح شعار "انتصار الدم على السيف"، حيث يعبرون عن تضحية وشجاعة لا محدودة في مواجهة القوة العسكرية والظلم، استلهاماً من الإرث البطولي والتاريخي لأئمتهم.
ما يلفت الانتباه في روايات بعض ممثلي اليسار في الخارج هو قصة روتها لي سيدة بعد أكثر من أربعين عامًا على حكم الجمهورية الإسلامية. قالت: أتذكر أن أولى الاحتجاجات السياسية في طهران انطلقت في الثالث عشر من شهريور في القيصرية بتوجيه من مجموعة من رجال الدين، لاسيما الدكتور محمد مفتح، حيث كانت التجمعات والمظاهرات تبدأ بعد صلاة عيد الفطر. كنا هناك حوالي الساعة العاشرة صباحًا بانتظار انتهاء الصلاة، حيث رغبنا نحن اليساريين المؤمنين بالثورة الاشتراكية في الانضمام إلى الشعب . بالطبع، لم تكن لدينا مشكلة في الوجود هناك بالحجاب الأسود. وأعتقد أن الأمر لم ينطبق علينا نحن الماركسيين فقط، بل إن المجاهدين أيضًا كانوا يعتقدون أن رجال الدين، كما كان الحال في حركة المشروطة، سيكونون مجرد وسطاء بين الناس.
الماركسيون واليساريون كانوا مستعدين لتقديم تنازلات اجتماعية وسياسية لصالح النساء منذ عام 1314 هجرية، وهو العام الذي شهد اكتشاف الحجاب، وحتى عام 1357 هجرية، وذلك مقابل مواصلة رجال الدين لنضالهم ضد حكم الشاه وضد الإمبريالية الغربية. المرأة التي كانت قد تحررت من قيود النقاب والعباءة والحجاب بدأت تتزيَّن بالعباءة عن طيب خاطر وتشارك في المناسبات الدينية والسياسية كمظهر من مظاهر الاحتجاج على الحكومة الدكتاتورية العلمانية التقدمية. فضل الموقف حينها حكومة رجال الدين طمعاً في تغيير الأوضاع، متكئةً على الوهم بأن رجال الدين لا يمكنهم الإمساك بزمام الحكم، معتقدين بأن حركة التاريخ تجبر حكومة رجال الدين على تسليم السلطة إلى الشيوعيين بعد الإطاحة بالشاه كبداية لمرحلة جديدة بحدود عام واحد.
تستمر هذه الفكرة حتى تصل إلى الأحداث التي وقعت بعد الثورة عام 57، وخلال شهر إسفند من تلك السنة، خرجت النساء في تظاهرات ضد فرض الحجاب الإجباري. في ذلك الوقت، واجه مستشار منظمة فدائيي خلق المركزي تساؤلات النساء الداعمات حول السبب وراء عدم مساندة المنظمة لهذه الاحتجاجات، ولماذا لا ينبغي عليهم الاحتجاج ضد فرض الحجاب. فكان رده أن القضية الأساسية هي الكفاح ضد الإمبريالية، وأوضح أنه إذا استدعى الأمر ارتداء أكياس لمحاربة الإمبريالية، فسيفعلون ذلك بلا تردد.
تعتبر مقارنة أهداف الثورة البلشفية والحركات الإسلامية موضوعًا شائكًا ومعقدًا، حيث تتقاطع فيه أيديولوجيات متباينة وتاريخية مختلفة. وعلى الرغم من التباين الواضح في الأسس الفكرية لكل منهما، إلا أن هناك بعض أوجه التشابه التي يمكن رصدها، وكذلك اختلافات جوهرية.
واجه الحزب الشيوعي العراقي تحديات في تحقيق التوازن بين التحالفات الدولية والمصالح المحلية، خاصة خلال فترات الاحتلال الاستعماري ما تطلب التعاطي مع حراك جيوسياسي معقد مع الحفاظ على ثقة ودعم جماهيره من العراقيين والحلفاء الدوليين.
لقد كان ولا يزال الربط بين السياسة والدين في العراق له تأثير كبير على تشكيل هوية وأهداف الأحزاب السياسية. وتستند العديد من الأحزاب إلى المبادئ الإسلامية لحشد التأييد وتبرير أفعالها، بينما تسعى أحزاب أخرى للحفاظ على موقف علماني لجذب شريحة جماهيرية أوسع. كما أن تأثير الزعماء والمؤسسات الدينية يعد حاسماً في تشكيل الخطاب السياسي واتخاذ القرارات.