لماذا لا نجد في عصرنا الحالي كتّابًا عباقرة مثل شكسبير، وبلزاك، ودوستويفسكي، وديكنز؟


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8118 - 2024 / 10 / 2 - 16:20
المحور: الادب والفن     

لماذا لا نجد في عصرنا الحالي كتّابًا عباقرة مثل شكسبير، وبلزاك، ودوستويفسكي، وديكنز؟ في الحقيقة، هذا سؤال سطحي. فهناك بالفعل العديد من الكتّاب العباقرة اليوم. المسألة ليست في ندرتهم، بل في وفرتهم. لماذا نركز فقط على الروايات الخيالية؟ في زمن شكسبير أو دانتي، كان العدد المحدود من الكتّاب المتميزين قد لا يتجاوز العشرة ضمن نطاق 2000 ميل. أما الآن، فقد تغيرت المعادلة ليصبح لدينا نحو 1000 كاتب بارز ضمن نطاق 500 ميل. في القرن التاسع عشر، برزت أسماء مثل دوستويفسكي وديكنز، بينما ازدهر القرن العشرون بالعديد من الكتّاب المحترفين وزادت شعبية الكتب الورقية وانتشار المكتبات العامة.

بات العالم اليوم أكثر تعقيدًا ويمتلئ بالتحديات، مما يجعل التعامل مع الواقع أمرًا بالغ الأهمية. لذلك، نجد أن العديد من الكتّاب اليوم هم أيضًا باحثون وصحفيون ورحالة، بالإضافة إلى صناع الأفلام الوثائقية الذين يساهمون في إنتاج الكثير من الكتب غير الخيالية. كيف يمكن أن نصنف كتابًا عبقريًا مثل " حضارة الموجة الثالثة" لألفين توفلر؟ إنه كتاب غير خيالي لكنه حظي بتقدير ملايين القراء.


إن تحديد "العبقرية الأدبية" أمر نسبي ويتأثر بالعديد من العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية. وإن ما قد يعتبر عبقرية في عصر ما، قد لا يلقى نفس التقدير في عصر آخر. كما أن الذوق الأدبي يختلف من شخص لآخر، مما يجعل من الصعب التوصل إلى إجماع حول هوية الكاتب العبقري.
في عصرنا الحالي، تلعب وسائل الإعلام والتسويق دورًا كبيرًا في تحديد شهرة الكاتب وأعماله. وقد يكون هناك العديد من الكتّاب الموهوبين، ولكنهم لا يحظون بنفس الفرص للوصول إلى جمهور واسع.
ومع تطور التكنولوجيا وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تغيرت عادات القراءة بشكل كبير. فأصبح القارئ المعاصر أكثر انتقائية ويبحث عن نصوص سريعة وسهلة الهضم. وهذا قد يؤثر على نوعية الأعمال الأدبية التي يتم إنتاجها.
كما أن هناك تنوعا كبيرا في الأجناس الأدبية المعاصرة، مما يجعل من الصعب مقارنة الكتّاب ببعضهم البعض. فكاتب الخيال العلمي قد لا يكون مقارنًا بكاتب الرواية التاريخية، وهكذا. ويلعب النقد الأدبي دورًا حاسمًا في تحديد قيمة العمل الأدبي وتأثيره على الثقافة. ولكن في عصرنا الحالي، تراجع دور النقد الأدبي التقليدي، مما قد يؤثر على عملية تقييم الأعمال الأدبية.
بالعودة إلى سؤالنا حول سبب عدم وجود كتّاب عباقرة مثل شكسبير وبلزاك في عصرنا، يمكننا القول إن هذا السؤال يطرح إشكالية فلسفية أكثر منها أدبية. فهل العبقرية هي ظاهرة فردية فريدة من نوعها، أم أنها نتاج لظروف تاريخية واجتماعية معينة؟
أعتقد أن الإجابة تكمن في الجمع بين هذين الطرفين. فمن ناحية، هناك بالتأكيد كتّاب موهوبون للغاية في عصرنا الحالي، ومن ناحية أخرى، قد لا نتمكن من تحديدهم بسهولة بسبب العوامل التي ذكرتها سابقًا. كما أن مقارنة الكتّاب عبر العصور أمر صعب للغاية، لأن كل عصر له خصوصيته وأسئلته الفنية والأدبية.
وأود أن أؤكد على أهمية القراءة المتنوعة والانفتاح على مختلف الأجناس الأدبية. ففي عصرنا الحالي، هناك كنوز أدبية كثيرة تنتظر أن تُكتشف.
وإن المعيار الحقيقي لقياس عظمة العمل الفني هو مدى تأثيره على الثقافة بشكل عام وعلى الأعمال الفنية اللاحقة بشكل خاص.
هناك خطأ شائع يتمثل في الفصل بين الفن الشعبي والفن العظيم، حيث أن العديد من الفنانين العظماء كانوا يستخدمون أي وسيلة متاحة للوصول إلى الجمهور، حتى لو كانت هذه الوسيلة تعتبر شعبية في ذلك الوقت. وإن الحكم على عظمة عمل فني معاصر أمر صعب، حيث يتطلب الأمر مرور وقت طويل لمعرفة مدى تأثيره على الأجيال القادمة.
ثمة زيادة هائلة في عدد الكتاب الموهوبين في العصر الحالي مقارنة بالعصور السابقة، وذلك بفضل ارتفاع مستوى التعليم وانتشار الثقافة القرائية.
إن وفرة الإنتاج الأدبي تجعل من الصعب على العمل الفردي أن يبرز ويحظى بالاهتمام الكافي. ولا ننسى دور النقاد والناشرين في اختيار أفضل الأعمال ونشرها، مما يساعد القراء على الوصول إلى الأدب المتميز. كما أن الأذواق والأساليب الأدبية تتغير عبر الزمن، مما يجعل مقارنة الأعمال الأدبية من عصور مختلفة أمراً صعباً.

إن العلاقة بين القيمة الفنية للعمل الأدبي وقيمته التجارية هي علاقة معقدة ومتشابكة، تتأثر بعوامل عديدة . و قد يكون العمل الأدبي غنيًا بالمعاني والأفكار، ويمتلك قيمة فنية عالية، ولكنه لا يحقق مبيعات كبيرة لأسباب عديدة، مثل عدم ترويجه بشكل كافٍ، أو عدم تناسب موضوعه مع أذواق القراء في وقت معين، أو حتى بسبب صعوبة فهمه.
وقد يحقق عمل أدبي مبيعات كبيرة بسبب حملات تسويقية مكثفة، أو بسبب اتباع صيحات أدبية سائدة، دون أن يكون بالضرورة عملاً أدبياً متميزاً من الناحية الفنية.

ويتغير الذوق العام للأدب بمرور الوقت، وقد لا يحظى عمل أدبي بتقدير كبير في عصره، لكنه يكتسب قيمة فنية عالية مع مرور الزمن. وإن التسويق والنشر يلعبان دورًا حاسمًا في تحديد مدى وصول العمل الأدبي إلى الجمهور، وبالتالي في تحقيق قيمة تجارية له.

يؤثر النقد الأدبي بشكل كبير على تقييم العمل الأدبي، وقد يساهم في رفع قيمته الفنية والتجارية. و تؤثر الظروف الاجتماعية والثقافية التي ينتج فيها العمل الأدبي على تقييمه، وقد يؤدي إلى ارتفاع أو انخفاض قيمته التجارية.

تختلف القيمة التجارية بين الأنواع الأدبية المختلفة، فمثلاً الروايات الرومانسية تجذب جمهورًا أوسع من الروايات الفلسفية.
إن العمل الأدبي الذي يتمتع بقيمة فنية عالية قد يجذب جمهورًا مثقفًا ومهتمًا بالأدب الجيد، مما يساهم في تحقيق مبيعات جيدة على المدى الطويل. وقد يدفع الكاتب في بعض الحالات، إلى التركيز على إرضاء الجمهور وتحقيق مبيعات عالية، مما قد يؤثر سلبًا على الجودة الفنية لعمله.

ومن الصعب تحديد القيمة الفنية للعمل الأدبي بشكل موضوعي، حيث تتأثر هذه القيمة بالذوق الشخصي لكل قارئ، وبالتيارات النقدية السائدة. كما تتغير قيمته بمرور الزمن، وقد يكتسب قيمة فنية أعلى بعد مرور سنوات.

إن العلاقة بين القيمة الفنية والقيمة التجارية للعمل الأدبي معقدة ومتغيرة، ولا يمكن تحديدها بقاعدة واحدة ثابتة. فهناك العديد من العوامل التي تؤثر على هذه العلاقة، وتتفاعل مع بعضها البعض بشكل ديناميكي. ومن المهم أن ندرك أن القيمة الفنية ليست هي العامل الوحيد الذي يحدد نجاح العمل الأدبي تجاريًا، وأن هناك عوامل أخرى، مثل الجوائز، تلعب دورًا هامًا في هذا الصدد.

تُعتبر الجوائز الأدبية بمثابة ختم جودة، فهي تشير إلى أن لجنة تحكيم من الخبراء قد قرأت العمل وتأكدت من جودته الفنية والأدبية. هذا الاعتراف يزيد من ثقة القراء في العمل الأدبي، ويشجعهم على شرائه وقراءته.

وعندما يفوز عمل أدبي بجائزة مرموقة، فإنه يحصل على تغطية إعلامية واسعة، مما يساهم في تسويقه بشكل مجاني. تظهر الأخبار المتعلقة بفوز العمل بالجائزة في الصحف والمجلات والتلفزيون ومواقع الإنترنت، مما يزيد من وعي الجمهور به. فبعد فوز العمل الأدبي بجائزة، يشهد عادة زيادة كبيرة في المبيعات، وذلك لأن القراء يميلون إلى شراء الكتب الحائزة على جوائز، ويرغبون في قراءة الأعمال التي يعتبرها النقاد والخبراء الأفضل.

وعندما يفوز الكاتب بجائزة أدبية، ترتفع مكانته الأدبية ويصبح أكثر شهرة، مما يزيد من رغبة الناشرين في نشر أعماله المستقبلية، ويشجع القراء على متابعة أعماله. وقد تساعد الجوائز الأدبية في فتح أسواق جديدة للعمل الأدبي، حيث يتم ترجمته إلى لغات أخرى ونشره في دول مختلفة.

ولكن، يجب أن نلاحظ أن تأثير الجوائز الأدبية ليس مطلقًا، فهناك عوامل أخرى تؤثر على نجاح العمل الأدبي تجاريًا، مثل نوع الجائزة حيث تختلف أهمية الجوائز الأدبية باختلافها، فالجوائز العالمية الكبرى لها تأثير أكبر من الجوائز المحلية. وقد تكون بعض الأنواع الأدبية أكثر جاذبية للجمهور من غيرها، مما يؤثر على مدى استفادة العمل من الجائزة.
وإنه حتى بعد الفوز بجائزة، يحتاج العمل الأدبي إلى استراتيجية تسويق جيدة لضمان استمرارية نجاحه. وفي النهاية، يبقى قرار الشراء بيد القارئ، وقد لا يوافق الجميع على اختيار لجنة التحكيم.

يمكن القول إن الجوائز الأدبية تلعب دورًا مهمًا في تعزيز مكانة العمل الأدبي وزيادة مبيعاته، ولكنها ليست العامل الوحيد الذي يحدد نجاح العمل تجاريًا.

ومن ناحية أخرى، قد يبدو من الصعب تحديد معايير موضوعية لتقييم شيء يعتمد بشكل كبير على الذوق الشخصي والإبداع الفردي. فما يعجب قارئًا قد لا يعجب قارئًا آخر، وما يعتبر عبقرية في عصر ما قد لا يعتبر كذلك في عصر آخر.

و هناك بعض العوامل التي غالبًا ما تُذكر عند تقييم الأعمال الأدبية، وهي تشمل:
• الأصالة والإبداع: قدرة الكاتب على تقديم رؤى جديدة ومبتكرة، وتطوير أساليب سردية فريدة.
• العمق الفكري: مدى قدرة العمل الأدبي على طرح أسئلة مهمة واستكشاف قضايا جوهرية في الحياة.
• الأثر الثقافي: مدى تأثير العمل الأدبي على الثقافة والأدب بشكل عام، وهل أصبح مرجعًا لأجيال لاحقة.
• اللغة والأسلوب: مدى تمكن الكاتب من استخدام اللغة بشكل فني وجمالي، وقدرته على خلق عالم أدبي متكامل.
• البنية السردية: مدى قوة البنية السردية للعمل الأدبي، وقدرته على جذب القارئ وإبقائه مشغولًا.

ولكن هذه العوامل تبقى نسبية، وتعتمد على تقييم النقاد والقراء، وتتأثر بالعوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية.

ومما يصعّب من تحديد معايير موضوعية هو أن الأذواق الأدبية والمعايير النقدية تتغير مع مرور الزمن، ما يجعل تقييم عمل أدبي من عصر مختلف أمرًا شاقا. وإن الثقافات تختلف في تقديرها للأدب، وقد يكون ما يعتبر عبقرية في ثقافة ما يعتبر عاديًا في ثقافة أخرى. كما يختلف الذوق الأدبي من شخص لآخر، ولا يمكن إنكار دور العامل الشخصي في تقييم الأعمال الأدبية.

يمكن القول إن العصر الحالي يشهد ازدهارًا غير مسبوق في الإنتاج الأدبي. فمع تطور التكنولوجيا وسهولة الوصول إلى الكتب، ازداد عدد القراء بشكل كبير، مما شجع الكثيرين على الكتابة والنشر. وظهرت منصات نشر ذاتية عديدة، مما سمح للكتاب بنشر أعمالهم بسهولة دون الحاجة إلى ناشر تقليدي. وساهم التواصل الاجتماعي في خلق مجتمعات للقراءة والكتابة، مما شجع على تبادل الأفكار والآراء وتقديم الدعم للكتاب المبتدئين. وازداد الاهتمام بالتعليم والثقافة، مما زاد من عدد الأشخاص القادرين على الكتابة بشكل احترافي. وأصبح العالم أكثر تواصلًا، مما أدى إلى تنوع في الأصوات والأفكار في الأدب.