لماذا نشأ الشعر قبل النثر؟


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8086 - 2024 / 8 / 31 - 12:31
المحور: الادب والفن     

يرجع السبب الرئيسي في نشأة الشعر قبل النثر إلى طبيعة الإنسان البدائية وحاجاته الأساسية. وقد كان الشعر وسيلة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس القوية، وحفظ التاريخ والتقاليد، وتسهيل عملية الحفظ والتذكر في مجتمعات شفهية لا تعتمد على الكتابة.
الانسان البدائي لم تكن لديه وسيلة الشعر للتعبير عن المشاعر القوية مثل الفرح، والحزن، والخوف، والغضب سوى الشعر والرقص. وإن هذه المشاعر هي جزء أساسي من التجربة الإنسانية، وكان الشعر أداة فعالة للتعبير عنها بطريقة مؤثرة وجذابة. ففي المجتمعات البدائية، كان الشعر وسيلة لحفظ التاريخ والتقاليد ونقلها للأجيال القادمة. كانت القصائد الشعرية تحكي قصص الأبطال والأحداث الهامة، وتنقل القيم والمعتقدات الثقافية.
وإن الشعر يتميز بإيقاعه وقوافيه، مما يسهل عملية حفظه وتذكره. كانت هذه الميزة مهمة جدًا في المجتمعات التي لم تتوفر فيها الكتابة، حيث كان الاعتماد على الذاكرة البشرية لحفظ المعلومات. كما كان الشعر يلعب دورًا اجتماعيًا هامًا. كان يستخدم في الاحتفالات والمناسبات الخاصة، وكان وسيلة للتواصل والتعبير عن الانتماء إلى مجموعة اجتماعية.
بينما النثر يتطلب مستوى أعلى من التفكير التجريدي والتحليل، وهو أكثر ملاءمة للتعبير عن الأفكار المعقدة والنقدية. بينما الشعر يركز على الجانب العاطفي والإبداعي في اللغة.
اللغة في الأساس لها طبيعة موسيقية، والشعر يستغل هذه الطبيعة بشكل كامل. وقد كان الشعر وسيلة فعالة للتواصل مع مجموعة كبيرة من الناس في نفس الوقت. وقد تطورت اللغة تدريجيًا من شكلها البدائي إلى شكلها الحالي، والشعر كان جزءًا من هذه العملية.

نشأة الشعر قبل النثر، إذن، هي نتيجة طبيعية لتطور اللغة والإنسان. فقد كان وسيلة للتعبير عن الذات والتواصل مع الآخرين وحفظ التراث الثقافي. ومع تطور المجتمعات وظهور الكتابة، تطور النثر ليصبح وسيلة للتعبير عن أفكار أكثر تعقيدًا.

ثمة علاقة بين الحاجة إلى البقاء والتطور اللغوي في المجتمعات البدائية حيث تطورت لغة خاصة بالتعرف على آثار الحيوانات، وتحديد الاتجاهات، والتنقل في البيئات المعقدة. فتطورت لغة الصيد لتشمل مصطلحات دقيقة لأدوات الصيد، الحيوانات، الأساليب، والإشارات التي تدل على وجود الفريسة. كما تطورت لغة إشارات وحركات سريعة للتعبير عن الخطر، وتوجيه الانتباه، وتنسيق الحركة.
لقد ساهمت اللغة في تقسيم المهام بين أفراد القبيلة، وتنسيق الجهود. وكانت وسيلة للمناقشة والتداول، والوصول إلى قرارات حاسمة في مواجهة التحديات. و ساهمت في نقل الخبرات والمعارف المتراكمة عبر الأجيال، مما ساعد على استمرار المجتمع.
و مع تطور المجتمعات وتوسع نطاق التفاعلات الاجتماعية، تطورت اللغة لتشمل مفاهيم أكثر تعقيدًا وعلاقات اجتماعية أوسع. فظهرت لغات خاصة بالدين، والفلسفة، والفن، وغيرها من المجالات.
ولم تكن اللغة مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت أداة أساسية للبقاء والتطور. لقد لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل المجتمعات البشرية، ونقل الحضارات عبر الأجيال.
السخرية الودية كانت وسيلة لتقوية الروابط بين أفراد المجموعة، والتعبير عن الانتماء إليها إذ كانت القصائد الغنائية تهدف إلى إضفاء الطابع الشخصي على كل فرد، وتذكيره بدوره في المجموعة. ومن خلال القصائد، كانت تنتقل الحكايات والتقاليد من جيل إلى آخر، مما يعزز الهوية الجماعية.
وقد كانت اللغة وسيلة للتعبير عن الفكاهة والخيال، وتطوير مهارات الارتجال ، إذ كانت القصائد الغنائية فرصة للتلاعب بالكلمات والمعاني، وخلق صور شعرية بديعة. فأصبحت اللغة وسيلة للتعبير عن مجموعة واسعة من المشاعر، من السخرية إلى الإعجاب، ومن الحزن إلى الفرح.
ومن خلال القصائد، كانت تنتقل المعرفة حول الحياة البرية، والتاريخ، والقيم الاجتماعية وتساعد على تنمية الذاكرة، وحفظ المعلومات المهمة وتساهم في تطوير اللغة، وإضافة كلمات وعبارات جديدة.
لقد كانت القصائد الغنائية أكثر من مجرد وسيلة للتسلية، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والثقافية في المجتمعات البدائية. وقد لعبت دورًا حاسمًا في بناء الهوية الجماعية، ونقل القيم والتقاليد، وتطوير اللغة.
دور النثر في الحضارة
نشأ النثر لتلبية الاحتياجات الإدارية للمجتمعات الكبيرة. و كان تدوين القوانين والمراسيم ضروريًا للحفاظ على النظام وإدارة الشؤون. كما صنع النثر وسيلة واضحة وموجزة للتواصل، مما سهل الإدارة وتسجيل السجلات.
رأى الحكماء الهنود أن الشعر يقدم فهمًا أعمق للحقيقة وذلك لكونه يحتوي على حقائق جوهرية تتجاوز المعلومات المجردة. والأهم هو أن الشعر يستحضر العواطف، ويلهم التأمل الروحي، ويربط الأفراد بمعنى أوسع.
إن تعلم اللغة وتطويرها ليسا مقتصرين على المجتمعات الكبيرة أو التاريخ الطويل، بل هما قدرتان فطريتان لدى الإنسان.
وإن للبشر قدرة على ابتكار لغة جديدة تمامًا، كما حدث مع الأطفال الصم الأورغوايين.
وإن المجتمعات البدائية التي كانت تعتمد على الصيد وجمع الثمار كانت تمتلك تقاليد شفوية غنية، حيث كانت القصص والأغاني وسيلة لنقل المعرفة والتاريخ.