اتحاد الجسد والروح في شعر فروغ فرخزاد


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8241 - 2025 / 2 / 2 - 02:49
المحور: الادب والفن     

نافذة للرؤية،
نافذة للاستماع،
ونافذة مثل فوهة بئر تلمس نهايتها قلب الأرض،
وتشرع في وجه اتساع هذا الحنان المكرر ذي اللون الأزرق المائي.

نافذة تملأ أيادي التوحد الناعمة
بالعطايا الليلية لعطور النجوم الكريمة،
ويمكن من هناك استضافة الشمس في غربة الأزهار الشمعدانية.
نافذة واحدة تكفيني،
أنا آتية من ديار الدمى،
من ظلال الأشجار الورقية في بستان كتاب مصوّر،
من المواسم اليابسة لتجارب الحبّ والصداقة العقيمة في أزقة البراءة الترابية.
أنا قادمة من سنوات نضوج حروف الأبجدية الكالحة وراء طاولات المدرسة المسلولة،
من لحظة استطاع فيها الأولاد أن يخطّوا على اللوح كلامَ الصخر،
ورفرفت الزرازير مغادرةً الشجرة المعمّرة.

أنا آتي من بين جذور النباتات آكلة اللحوم،
ولا يزال دماغي تملؤه أصوات وحشة فراشةٍ كانوا صلبوها بدبوس في دفتر.

حين كانت ثقتي تتدلى من حبل العدالة الواهن،
وكانوا ينهشون قلب قناديلي في كل أنحاء المدينة،
عندما كانوا يعصبون عيون عشقي الطفولية بمنديل القانون الداكن،
ومن صدغي رغباتي المضطربتين تتدفق نافورات الدم،
وحينما لم تعد حياتي شيئا سوى دقات الساعة الجدارية،
أدركتُ أنه يجب ويجب ويجب أن أعشق بجنون.

نافذة واحدة تكفيني،
نافذة في لحظة الوعي والرؤية والسكينة.
والآن فقد بسقت شتلة الجوز حيث تشرح الجدارَ لأوراقها اليانعة.
سل المرآة من هو منقذك،
أليست الأرض التي ترتعش تحت قدميك، أكثر توحدا منك؟
هل جاء الرسل برسالة الخراب إلى عصرنا؟
وهل أن هذه التفجيرات المتعاقبة، والغيوم السامّة، هي دويّ الآيات المقدسة؟
فيا صديقي!
ويا أخي!
ويا قريبي!
عندما تصل القمر، دوّن تاريخ مجزرة الورود!
إنّ الأحلام دوما تسقط من علوّ سذاجتها، وتموت.
إنني أشمّ الشبذر رباعي الأوراق النامي على قبر المفاهيم القديمة،
فهل ترى أن امرأة استحالت إلى تراب في كفن الانتظار والبراءة، كانت شبابي؟
وهل سوف أتسلق ثانية مدرجات فضولي إلى الأعالي،
لكي ألقي سلاما على الإله الطيّب الذي يتمشى على سطح البيت؟
أشعر أن الزمن قد مضى،
أشعر أن اللحظة هي حظي من أوراق التاريخ.
أشعر أن الطاولةَ هي تناءٍ زائف بين ضفائري وأيادي هذا الغريب الكئيب.
قلْ لي،
وما الذي يبتغيه منك شخص يهبك حنان جسد مفعم بالحيوية, سوى إدراك الشعور بالحياة؟
قلْ شيئا!
إنني بجنب النافذة،
تربطني صلة بالشمس.
…………
- من ترجمتي عن أصلها بالفارسية
فروغ فرخزاد* شاعرة عظيمة، ولكنها كانت أيضًا إنساناَ يبحث عن شيء ما. لم تكن تبحث عن السعادة أو الحب أو أي شيء ملموس، ولكنها كانت تبحث عن شيء أعمق وأكثر تجريدًا.
شعرها يعكس هذا البحث. شعرها ليس عن شيء محدد، ولكنه عن المشاعر والأفكار التي كانت تراودها أثناء بحثها. شعرها هو مرآة لروحها.
وإننا قد لا نعرف بالضبط ما الذي كانت تبحث عنه فروغ فرخزاد. هذا لأنها كانت تبحث عن شيء شخصي جدًا وخاص بها. ولكن هذا لا يعني أن بحثها لم يكن مهمًا أو ذا معنى.
بحثها عن شيء ما هو ما جعلها شاعرة عظيمة. بحثها هو ما جعل شعرها مؤثرًا وملهمًا إذ إننا جميعًا نبحث عن شيء ما في حياتنا. قد لا نعرف بالضبط ما هو هذا الشيء، ولكننا نستمر في البحث عنه. هذا البحث هو ما يجعلنا بشرًا.
فروغ فرخزاد كانت إنساناً يبحث عن شيء ما، وشعرها هو شهادة على هذا البحث.
فروغ لم تؤمن بروحٍ منفصلة عن الجسد، وهذا يظهر بوضوح في تركيزها على الجسد كمركز للتجارب والأحاسيس. هي لم تنظر إلى الجسد كقيد أو سجن للروح، بل كأداة تعبير ووسيلة لاكتشاف العالم.
فروغ، كراقصةٍ، استكشفت كلماتها، حالاتٍ مختلفة من الحياة، من الحب إلى الموت، ومن الفرح إلى الحزن، وسجلت هذه التجارب بصدقٍ وعمقٍ في شعرها.
هي لم تسعَ إلى هدفٍ مُحدّد أو غايةٍ نهائية، بل كانت رحلتها رحلة بحثٍ مستمر، تماماً كفعل الراقصة الذي لا يتوقف عند حركةٍ واحدة، بل يستمر في استكشاف إمكانيات الجسد وتعبيراته.
فروغ، في شعرها، لم تُقدّم لنا إجابات جاهزة أو حلولاً نهائية، بل تركتنا مع أسئلتها وتساؤلاتها، تدعونا إلى التفكير والتأمل في الحياة. هي لم تكن شاعرةً تُقدّم لنا دروساً أو مواعظ، بل كانت رفيقة دربٍ في رحلة البحث عن المعنى والجمال.
كل هذا الضعف واليأس اليومي، لم تكن قادرة على تصديق أن هذا الجسد المادي هو وعاء لشيء كبير كهذا الذي نسميه الحب، ولهذا السبب كانت تبحث فقط. تدور حول هذا الوعاء، حتى تجد ربما طريقًا إلى تلك الحقيقة الغامضة. الحقيقة التي يمكن الشعور بعظمتها. ربما أرادت إيجاد علاقة بين الجسد وذاك المفهوم العظيم. ربما أرادت الوصول إلى تلك الحقيقة التي كانت في نظر الشعراء قبليها، وحتى نحن، تُعبّر عنها بالروح والحب الصوفي.
فروغ فرخزاد لم تبحث عن الحب بمعناه التقليدي السائد في الأدب. بحثها كان أعمق وأكثر تعقيداً، فهي لم تكن تسعى وراء مجهول مطلق، بل كانت تحاول فهم العلاقة بين الجسد المادي والروح أو الحب بمعناه الكوني الأسمى.
هي لم تستطع أن تختزل هذا الحب في الجسد المادي وحده، بل كانت تبحث عن رابطة أعمق، عن حقيقة غامضة تتجاوز حدود الجسد.
فروغ، برغم واقعيتها وصراحتها في التعبير عن الجسد وتفاصيله، لم تغفل عن البعد الروحي والإنساني. هي كانت تسعى إلى فهم العلاقة بين هذين البعدين، وكيف يمكن للحب أن يتجلى فيهما معاً.
قد يكون بحثها هذا "كونياً"، بمعنى أنه يتجاوز حدود التجربة الشخصية ليشمل تساؤلات الوجود الإنساني عن الحب، الروح، والمعنى. هي لم تكن تبحث عن إجابات جاهزة، بل كانت تسعى إلى فهم أعمق لهذه المفاهيم، وهذا ما يظهر بوضوح في شعرها.
فروغ لم تكن شاعرة حب تقليدية، بل كانت مفكرةً وجوديةً تستكشف أعماق الذات الإنسانية وعلاقتها بالعالم. بحثها عن الحب كان جزءاً من هذا الاستكشاف، وهو بحثٌ لا يزال صداه يتردد فينا حتى اليوم.
فروغ، كالمسافر الذي يجوب الصحراء، لم تكن تسعى إلى هدفٍ مُعين أو غايةٍ نهائية، بل كانت رحلتها نفسها هي الهدف. هي لم تكن تبحث عن إجابات جاهزة أو حلول نهائية، بل كانت تسعى إلى فهم أعمق لذاتها وللعالم من حولها.
تماماً كالمشي في الصحراء، الذي قد لا يكون له هدف واضح، ولكنه في حد ذاته تجربة غنية ومثيرة، كذلك كان بحث فروغ عن الحب والحقيقة. هو لم يكن مجرد وسيلة للوصول إلى غاية معينة، بل كان تجربة وجودية عميقة، تُمكّنها من اكتشاف جوانب جديدة من ذاتها ومن العالم.
فكرة "الرحلة بلا وجهة" هي مفتاح لفهم شعر فروغ. هي لم تكن تسعى إلى هدف محدد أو غاية نهائية، بل كانت رحلتها نفسها هي الهدف. هذه الرحلة، رغم أنها قد تبدو بلا وجهة محددة، إلا أنها مليئة بالإبداع والإلهام.
فروغ كانت قادرة على أن ترى الجمال في أبسط الأشياء، في امرأة تحمل سلة وتتجه للتسوق، في تفاصيل صغيرة قد لا يراها الآخرون. هي كانت تمتلك عين الفنان التي ترى ما وراء الظاهر، وتكتشف الجمال في كل ما هو عادي ومألوف.
ربما كان لرحلة فروغ أن تكون أكثر تحديداً لو أنها وصلت إلى هدف معين، ولكن في المقابل، أليس في هذه الرحلة المفتوحة، التي لا تنتهي، سحرٌ خاص؟ أليس في هذا البحث المستمر عن المعنى والجمال، قيمةٌ بحد ذاتها؟
أعتقد أن فروغ اختارت أن تكون رحلتها مفتوحة، لأنها كانت تؤمن بأن الحياة نفسها هي رحلة لا نهاية لها. هي لم تكن تسعى إلى إجابات نهائية، بل كانت تسعى إلى فهم أعمق لذاتها وللعالم من حولها.
رحلة فروغ، بكل ما فيها من إبداع وإلهام، تستحق أن تُعاش وتُتأمل. هي رحلةٌ تعلمنا أن ننظر إلى العالم بعيون جديدة، وأن نكتشف الجمال في كل ما هو بسيط وعادي
فروغ، في شعرها، لم تُقدّم لنا إجابات أو حلول، بل تركتنا مع أسئلتها وتساؤلاتها، تدعونا إلى التفكير والتأمل في الحياة والحب والوجود. هي لم تكن شاعرةً تُقدّم لنا دروساً أو مواعظ، بل كانت رفيقة دربٍ في رحلة البحث عن المعنى والجمال.


*فروغ فرخزاد (5 يناير 1935 ـ 14 فبراير 1967): من أشهر الشاعرات الإيرانيات.. أصدرت أول ديوان لها عام 1955 بعنوان (الأسير) فجذبت الانتباه والرفض من مجتمعها كمطلقة تحمل أفكارًا نسوية جدلية.. من دواوينها الأخرى: الجدار ـ الثورة ـ ميلاد جديد.. توفيت في حادث سيارة وهي في عمر 32 عامًا.. ونشر لها بعد وفاتها قصيدة “لنؤمن ببداية موسم البرد” وتعد أقوى القصائد في الشعر الفارسي الحديث.

مالمو
2025-02-01