دور الفرد في التاريخ، ترامب وبوتين نموذجاً


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8303 - 2025 / 4 / 5 - 15:26
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

لم ينكر ماركس دور الأفراد في مسار التاريخ، ولكنه شدّد على أن أفعالهم تخضع لقيود القوى الاجتماعية والاقتصادية السائدة. الأفراد قادرون على إحداث تأثير في الأحداث التاريخية، لكن ذلك التأثير يظل محكوماً بالظروف التاريخية والمادية التي تفرضها اللحظة الزمنية. كما قال ماركس، الأفراد هم "صناع التاريخ"، ولكنهم لا يصنعونه بحرية مطلقة، بل في إطار الشروط التي تواجههم.

الشباب، وأنا كنت واحداً منهم، يمتلكون بطبيعتهم طاقة متدفقة وحماساً جارفاً، إلى جانب رغبة صادقة في تحقيق العدالة وإحداث التغيير. هذا الحماس قد يدفعهم أحياناً إلى الانجذاب نحو أفكار جذرية كالماركسية، أو الانضمام إلى حركات معارضة، بوصفها أدوات لتحقيق تلك الأهداف النبيلة أو الغير النبيلة والانتهازية.

لكن غالباً ما يفتقر الشباب إلى الخبرة التي تمكنهم من فهم تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي. يؤدي هذا أحياناً إلى تبسيط الأمور وتصوّر أن التغيير يسير بيسر، مع التغافل عن العوائق والتحديات القائمة. وقد يكون فهمهم لبعض النظريات، مثل الماركسية، سطحياً ومشوّشاً، ما يجعل آراءهم متأثرة بالطابع العاطفي أكثر منه الواقعي. ومع مرور الوقت، ومن خلال التجارب واكتساب الخبرة، تتطور وجهات نظرهم لتصبح أكثر نضجاً وواقعية.

قد يكتشفون مع الزمن أن التغيير الحقيقي يتطلب عملاً مستداماً وتضحيات جمّة، مما يدفع البعض منهم إلى التخلي عن توجهاتهم المتطرفة أو المنفعلة. تتردد كثيراً العبارة التي تقول: إذا لم يكن الشباب يساريين في شبابهم فهم بلا قلب، وإذا ظلوا كذلك بعد نضوجهم فهم بلا عقل.

ومع ذلك، يظل دور الشباب محورياً في أي مجتمع. هم قوة دافعة للتقدم والإصلاح، لذا من المهم أن يتم توجيه طاقتهم وحماسهم بشكل بنّاء. توفير المعرفة والمهارات لهم يصبح أولوية لتحقيق تطلعاتهم بشكل إيجابي. كما يجب أن يحصلوا على فرص حقيقية للمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، مع الإنصات الجاد لأفكارهم وآرائهم.

إن طاقة الشباب وطموحهم يمثلان رصيداً ثميناً لأي أمة، ولكن هذا الرصيد يجب الاستثمار فيه بحكمة، من خلال تهيئتهم بالمعرفة اللازمة وتجهيزهم بخبرات تساعدهم على إحداث التغيير المنشود بشكل فعّال وبعيد عن الإحباط.

ومما يُلاحظ في كثير من الأحيان هو اندفاع الشباب نحو الإعجاب غير المشروط بقائد أو زعيم يرونه بطلاً قادراً على تحقيق الطموحات الوطنية والأهداف المصيرية وسط ضجيج الواقع المضطرب. ولكن سرعان ما يخيب أملهم في هذا البطل عندما تصطدم أحلامهم بحقيقة الواقع. وسرعان ما يبحثون عن بطل جديد ليحل محله، وهكذا تتكرر هذه الدورة وكأنها جزء من مسار حياتهم ومنهج تعاملهم مع الواقع المتغير.
رؤية ماركس لدور الفرد في سيرورة التاريخ تقوم على الإقرار بأهمية الأفراد، دون التغاضي عن القيود التي تفرضها القوى الاجتماعية والاقتصادية على أفعالهم. فالأفراد، حسب ماركس، يشكلون جزءًا من الفعل التاريخي، لكن ضمن شروط وظروف مادية وتاريخية معينة لا يمكنهم تجاهلها.

يمكن تناول دور شخصيات مؤثرة مثل بوتين وترامب من منظور ماركسي أكثر شمولية، والذي يأخذ بعين الاعتبار تأثيرهم الشخصي إلى جانب القوى الاجتماعية والاقتصادية الأوسع التي تحيط بهم. على سبيل المثال، يمكن تفسير تدخل بوتين في سوريا على أنه كان جزء من استراتيجية روسيا للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وكانت خطوة مترابطة مع مصالح روسيا الاقتصادية والعسكرية. الصراع السوري، من منظور ماركسي، كان يُمكن قراءته كصراع طبقي حيث مثل نظام الأسد طبقة حاكمة مدعومة خارجيًا، بينما عكست المعارضة مساعي طبقات اجتماعية أخرى لإحداث تغيير.

دور بوتين كقائد قوي كان حاسمًا في رسم السياسات الروسية في سوريا واليوم كذلك في حرب اكرانيا وعلاقاته مع الرئيس الأمريكي ترامب ومباحثات وقف الحرب . قراراته، مثل الدفع بالقوة العسكرية لدعم نظام الأسد، تركت أثرًا عميقًا على مسار الحرب. لكن هذه القرارات لا يمكن فصلها عن الأهداف الروسية الأوسع المتمثلة في الحفاظ على وجودها العسكري ومصالحها الاستراتيجية. وحين ضعفت قوى المعارضة وانتهت الحرب تقريبًا بانتصار نظام الأسد بمساعدة روسيا، استمر دور بوتين مرهونًا بالحفاظ على التوازن التاريخي والاقتصادي الذي يُحرك المصالح الوطنية الروسية. ولكن رغم ذلك فقد سقط النظام البعثي الأسدي رغم أنف بوتين.

بالمثل، يمكن فهم صعود ترامب إلى السلطة كمحصلة لتحولات اقتصادية واجتماعية أوسع داخل الولايات المتحدة، كالاستياء الشعبي المتزايد من آثار العولمة وتصاعد التفاوت في التوزيع الاقتصادي. سياسات ترامب، مثل تعزيز الحمائية التجارية، تعكس ردة فعل لمصالح شرائح معينة داخل المجتمع الأمريكي. بشخصيته الكاريزمية وأسلوبه الشعبوي، تمكن ترامب من استخدام هذا الاستياء لتشكيل سياسات أمريكية ذات تأثير مباشر على الصعيدين الداخلي والدولي. رغم ذلك، لا يمكن النظر إلى قراراته الكبرى، مثل الانسحاب من الاتفاقيات الدولية أو السياسات المعادية للعولمة، بمعزل عن القوى الاجتماعية والاقتصادية التي سهّلت صعوده.

من هذا المنطلق الماركسي، يمكن النظر إلى بوتين وترامب كأفراد ذوي تأثير كبير، لكن تأثيرهم يظل محكومًا بالسياقات التاريخية والبُنى الاجتماعية والاقتصادية الأكبر التي يعملون ضمنها. ولذا فإن فهم أدوارهم يتطلب التوازن بين إرادتهم الشخصية والقوى الأوسع المُحركة للتاريخ.
كان كارل ماركس يمتلك تصورًا عميقًا ومعقدًا لدور الفرد في تشكيل التاريخ، حيث رأى أن الأفراد جزء من القوى الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي تحكم المجتمعات، ومع ذلك يمكنهم أيضًا أن يكونوا عناصر فاعلة تؤثر في مجريات الأحداث.

وفقًا لنظرية ماركس، ينتمي الأفراد إلى طبقات اجتماعية متنوعة، مثل البروليتاريا والبرجوازية وما بينهما، ويشاركون في الصراع الطبقي الذي يُعتبر القوة الدافعة الرئيسة للتاريخ. وعلى الرغم من هذا الإطار العام للصراع، فإن الأفراد، من خلال المشاركة في العمل والنضال، يستطيعون إحداث تأثير ملموس داخل هذه الديناميكية الاجتماعية والاقتصادية.

لقد ركّز ماركس كثيرًا على مفهوم "الوعي الطبقي"، وهو إدراك الأفراد لمصالحهم كأعضاء في طبقة معينة. وعندما يكتسب الأفراد هذا الوعي، فإنهم يستطيعون أن يصبحوا عوامل تغيير حقيقية لظروفهم الاجتماعية والاقتصادية من خلال تبني التنظيم والعمل الجماعي.

وكان العمل بالنسبة لماركس عنصرًا جوهريًا في تأسيس المجتمعات. العمل والإنتاج، وفقًا لرؤيته، ليسا مجرد وسائل معيشة، بل أدوات تُساهم في تشكيل العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ما يؤدي بدوره إلى تطور المجتمعات وتأثيرها على أنماط الحياة الإنسانية.