صناعة الاستشهاد


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8314 - 2025 / 4 / 16 - 04:55
المحور: قضايا ثقافية     

صناعة الاستشهاد ليست مجرد أسلوب لتكريم الموتى، بل تُعتبر وسيلة فعّالة للسيطرة على الأحياء. إن تحويل المتوفين إلى رموز خالدة في الذاكرة والخطاب الرسمي يمنحهم تأثيرًا على الأحياء، وذلك من خلال التحكم في المعايير والرموز والذاكرة. هذه السيطرة ليست ذات طابع مادي مباشر، بل تعمل على المستوى الأيديولوجي والثقافي، فتؤثر في تشكيل القيم والمعتقدات.

يعد الاستشهاد سياسة متلاحقة ومنظمة تسعى لتحقيق قمع بنوعيه، الصامت والظاهر. تؤدي هذه السياسة إلى الخنوع، والطاعة الإجبارية، واحتكار الذاكرة لصالح السلطة، مما يقضي على أي فرص للتغيير أو التعبير عن تعددية الرأي.
في إيران، يتم التعامل مع تقديس الموت كمشروع دولة ممنهج، مستند إلى مفهوم "خطاب الولاية"، وذلك في إطار السعي لتحقيق أهداف سياسية واضحة.

يهدف النظام من خلال سرد قصص الشهداء إلى خلق صورة "البطل" الذي يمثل قيم الدولة ويعزز شرعية أفعالها العنيفة، ويعمل كذلك على تشجيع الإخلاص والولاء بين المواطنين. يُنظر إلى الموت كنقطة انطلاق لولاء دائم، حيث يتم تحويله من نهاية لحياة الفرد إلى بداية التزام مستمر مع السلطة ورفض للآخرين.
استخدام الموت والذاكرة كأدوات للسيطرة ليس بجديد في الدراسات الاجتماعية والسياسية.
وتندرج هذه الأفكار ضمن مفاهيم مثل:
- الذّاكرة الجماعية: كيف تُشكل المجتمعات ذاكرتها الجماعية وكيف تُستخدم لتعزيز هوية المجتمع وقيمه.
- الأيديولوجيا: توظيف مجموعة محددة من الأفكار لتعزيز شرعية أرضيات السلطة.
- الهيمنة الثقافية: كيفية فرض الطبقات الحاكمة قيمها على المجتمع من دون استخدام القوة المباشرة.

تأتي هذه الممارسات من خلال تجسيد التضحيات البطولية للحرب الإيرانية العراقية وغيرها من الأحداث لإنشاء نموذج المواطن المثالي الذي يُضحّي بحياته من أجل "الوطن"، و"الثورة"، و"الإسلام" وفق تفسير النظام، ما يُولّد ضغوطًا اجتماعية ونفسية على الأفراد للامتثال. إذ يَخشى الأشخاص أن يُنظر إليهم على أنهم غير وطنيين أو بعيدين عن القيم السامية التي يمثّلها الشهداء.

إنّ مفهوم الاستشهاد يهيئ بيئة للقمع بنوعيه: حيث يعتمد القمع الناعم على التلاعب بالقيم والمعتقدات والذاكرة لصنع ثقافة الطاعة والتبجيل مع تهميش الأصوات المعارضة بتجاهلها أو وصمها بالعار، بينما يتمثل القمع الخشن في اللجوء للعنف المباشر والاعتقالات والقوانين القمعية لكبت المعارضين وفرض السيطرة.

إن تخليد الموتى لا يكون دائمًا عملاً بريئًا، بل قد يتعدى ذلك ليصبح مشروعًا أوسع يسعى لتشكيل المجتمع وتجهيزه للولاء الأعمى والطاعة غير المشروطة، مانعًا التفكير النقدي والمعارضة.

تستطيع الأنظمة الدكتاتورية استغلال حتى أعظم القيم الدينية والوطنية لأهداف سياسية وانتفاعية بحتة. يُعد ابتكار مصطلح "شهيد الغضب" من قبل صدام حسين مثالاً واضحًا على كيفية التلاعب بالرموز والقيم لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية. هؤلاء الضحايا تخلص منهم الدكتاتور لكن كان لهم عشائر وعوائل قوية ذات نفوذ في المجتمع.

لم يكن "شهداء الغضب" شهداء بالمعنى المتعارف عليه (التضحية بالنفس لأجل قضية نبيلة أو الدفاع عن الوطن ضد عدوان خارجي)، بل كانوا ضحايا لقرارات إعدام صدرت عن الدكتاتور نفسه. ورغم ذلك، سعى صدام حسين إلى استغلال موتهم لخدمة مصالحه السياسية، حيث قام بتوزيع الأموال على عائلات الضحايا ومنحهم لقب "شهداء الغضب"، في محاولة لامتصاص غضب العائلات وكسب ولائها أو إسكاتها على الأقل.

يمثل هذا الفعل محاولة لتزوير التاريخ والذاكرة الجماعية، إذ يتم تقديمهم كـ "شهداء" بدلاً من اعتبارهم ضحايا لقمع النظام، ما يضفي طابع القدسية الزائفة على موتهم ويشوه السبب الحقيقي وراء فقدانهم لحياتهم. قد تكون الظروف الاقتصادية الصعبة قد دفعت بعض العائلات إلى قبول هذا الوضع وغض النظر عن الحقيقة حول مصير أبنائهم، مسلطين الضوء على كيفية استغلال الأنظمة القمعية للوضع الاقتصادي الصعب.

العبارة "فكسبهم ونسوا أولادهم" تتسم بالقوة والتأثير، مشيرة إلى أن الامتيازات المادية والاعتراف الشكلي بالشهادة قد غطى على الألم الحقيقي والفقدان، وربما أحدث نوعاً من التواطؤ الصامت مع النظام الذي تسبب في قتل أحبائهم.

يجسد ما فعله صدام حسين النموذج الأوسع لـ "صناعة الاستشهاد"، والذي يمثل محاولة من السلطات للسيطرة على السردية وتوجيه المشاعر واستغلال الموت لتحقيق أهداف سياسية. الفرق الرئيسي هو أن صدام كان أكثر وضوحًا وصراحة في خلق المصطلح نفسه، بينما قد تكون "صناعة الاستشهاد" في سياقات أخرى عملية أكثر تعقيداً وتداخلًا مع القيم الثقافية والدينية.

تمثل قصة "شهداء الغضب" تذكيرًا مخيفاً بكيفية انحدار الأنظمة الدكتاتورية إلى مستويات دنيئة من التلاعب الأخلاقي والإنساني، حتى في تعاملها مع الموت والفقدان. وتؤكد على أهمية الوعي النقدي وفضح مثل هذه الممارسات للحفاظ على الحقيقة والذاكرة الحقيقية للضحايا.

رغم المقولة "الميت لا يتكلم"، إلا أن تأثير الميت يستمر من خلال ذكراه وأولئك الذين يتذكرونه. الأفعال والكلمات والمبادئ التي تركها وراءه تبقى حية في قلوب وعقول الأقرباء والمعارف، ويمكن أن تلهم أو تحذر أو تثير الحنين. بقاء ذكراه يعتمد على الأحياء الذين يحملونها وينقلونها للأجيال اللاحقة عبر القصص والصور والكتابات والعادات.

قد يتحدث الميت أيضاً من خلال ما تركه من ممتلكات أو أعمال فنية أو مؤلفات علمية، أو حتى مؤسسات أسسها. القرارات التي اتخذها خلال حياته يمكن أن تستمر في التأثير على مجريات الأمور بعد وفاته. وقد يصبح رمزًا لقضية أو فترة معينة أو لقيمة إنسانية عليا.

في سياق النقاش حول "صناعة الاستشهاد"، تصبح هذه الفكرة أكثر أهمية؛ إذ يعمد النظام الذي يصنع "شهيدًا" إلى تأطير شخصيته وتاريخ حياته للترويج لأجندته السياسية، من خلال تضخيم نواحٍ معينة وتجاهل أخرى.

إن صوت الميت لا يُسمع جسديًا، بل يأتي صوت أعمق وأكثر ديمومة: صوت تأثيره الذي يتردد في الذاكرة الجماعية والفردية، والذي ينقله الأحياء من جيل إلى جيل. إنها مسؤولية الأحياء للحفاظ على هذه الذكرى ونقلها دون تلاعب أو تشويه.


مالمو
2025-04-15