تأملات في قصيدة فرات اسبر -كما يمرُّ الماءُ من فم ِالحَجر-
حميد كشكولي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8255 - 2025 / 2 / 16 - 12:07
المحور:
الادب والفن
الضَّوءُ يُشبهني في اِنكساري
عينُ الناظر ِلا تراه.
النَّفْسُ لا تتوازن
أحياناً
تَعلُو
أحياناً
تدنو
وتتدحرجُ،
ظَمْأى والماءُ في فم النبعِ عذبٌ.
مذ ولدتُ بالزيت تباركت
أضخُّ في قلبي نورَ الحياة،
وأقاومُ الظلمةَ بالحبِّ
وأرى وجهيَ شعاع َ نورٍ
وأسقطُ في حضن الوردة مبتلةً بالضوء.
لي ثقلُ الضّوء،
لي سرعتهُ
وكلّما شعاع هَبَّ في قامتي
نذرتُ يوماً للصوم ويوماً للموت.
أسقي الغرابَ وأسقي الحَمَام
وأمرُّ في الدنّيا،
كما يمرُّ الماءُ من فمِ الحجر.
ينبع الماء كجزء أزلي من الطبيعة ويحمل في طياته معاني سامية ترتبط بمفاهيم مثل الخلق والموت، والطهارة، والبعث والإثمار. هذا العنصر الطبيعي الذي شكل ركيزة للإبداع منذ القدم حظي بمكانة مميزة في معتقدات الشعوب القديمة، حيث رأوا فيه رمزًا للحياة الأبدية من خلال قصص الأبطال الذين عبروا الماء واكتسبوا الخلود، واعتبروه مقدسًا إلى حد تصويره في هيئة آلهة، غالبًا نساءً يحرسن الخضرة، والحياة، وأسرار البعث. يدفعنا ذلك إلى بحث أهمية العودة إلى رمزية الماء وأبعاده التاريخية، مع تسليط الضوء على ظهوره في أشعار اثنين من أبرز الشعراء المعاصرين.
تُسلط قصيدة "الضوء يشبهني في انكساري" وكأنها حلم، للشاعرة فرات إسبر الضوء على جوانب عميقة من النفس الإنسانية من خلال أسلوب مليء بالرمزية والصور الفنية المؤثرة. تبدأ الشاعرة بتشبيه الضوء بنفسها في حالة الانكسار، مما يعكس بوضوح إحساساً بالضعف الداخلي أو الاضطراب نتيجة تحديات حياتية قد تكون خفية أو ظاهرة. هذا المدخل يمهد لفكرة جوهرية تطرحها القصيدة وهي البحث عن التوازن النفسي، حيث تصف النفس الإنسانية المتأرجحة بين الأضداد: العلو والانخفاض، الظمأ والشبع، رغم وجود مصادر الوفرة كالماء العذب، في صورة تستبطن صراعاً داخلياً يعايشه الكثيرون.
تغوص القصيدة في أبعاد رمزية عميقة، حيث يظهر الزيت كمعادل للبركة والاستدامة، والنور كرمز للحياة المستمرة، فيما يتخذ الحب دور القوة المقاومة للعتمة بكل أشكالها. وتبرز الشاعرة استعدادها للتضحية من خلال إظهار نوع من التكريس والتقديس للحياة، سواء بذكر النذر بالصوم أو القبول بالموت كامتداد للحياة وليس كنهاية لها. تحمل هذه الإشارات تمثيلاً واضحاً لقوة الإيمان والصمود رغم قساوة الظروف المحيطة.
المسامحة تشكل موضوعاً بارزاً في ثنايا القصيدة أيضاً، حيث تسقي الشاعرة كائنيْن متناقضيْن في رمزيتهما، الغراب والحمام. الأول قد يحمل دلالة على الموت أو الظلام، بينما يشير الثاني إلى السلام والنقاء. ومن خلال هذه الثنائية، تُظهر الشاعرة قولاً وفعلاً فلسفة قائمة على العطاء غير المشروط، والذي يدعم الجانب الإنساني النقي.
تنتهي القصيدة بإحدى أكثر اللوحات تعبيراً، حيث تصف الماء وهو يتدفق من فم الحجر، مشيرة بذلك إلى فكرة الاستمرارية والتجدد رغم العوائق والصلابة المحيطة. يمنح هذا المشهد النهاية نوعاً من الأمل والتفاؤل الذي يعكس قدرة الحياة على الانبعاث من جديد حتى في أحلك الظروف. والحجر يرمز هنا إلى الصلابة والمقاومة والإباء,
تعكس القصيدة بشكل أساسي ثنائية الضعف والقوة التي تشكل محوراً مهماً من تجربة الإنسان. فهي، كالشاعرة، ترى الانكسار كجزء من الضوء ذاته وليس مجرد حالة عارضة له، ولكن بالمقابل تؤمن بدور الحب كمواجهة للظلام. تحافظ النصوص على تركيز واضح على ضرورة تحقيق الاتزان النفسي برغم التأرجح بين المشاعر المتضاربة التي تفرضها الحياة. هنا تظهر رؤية الشاعرة العميقة التي تدمج التضحية بالعطاء كجزء جوهري من فلسفتها الحياتية.
أما الصور الفنية المستخدمة فتظهر تنوعاً غنياً يضفي جمالاً فريداً على النص. يبدأ ذلك من التشبيه الأساسي "الضوء يشبهني في انكساري" ليصل إلى استخدام الرموز المتعددة مثل الزيت للدلالة على البركة، والنور رمزاً للأمل، والماء الذي يُعبر عن التجدد، والحجر للإشارة إلى التحديات والعقبات. ويبرز الاستخدام المستمر للأفعال المضارعة مثل "تعلو"، "تدنو"، و"تتدحرج"، ليعبر عن حالة مستمرة من القلق الداخلي والحركة النفسية الدائمة.
تتميز لغة القصيدة بأسلوب بسيط يسهل فهمه، ولكنه عميق في معانيه، إذ تستعين الشاعرة بتكرار بعض الكلمات المفتاحية مثل "الضوء" و"الحجر" و"النبع ” لتسليط الضوء على محاور ارتكاز النص وأفكاره الجوهرية بشكل مُركز ومباشر. تنوع الصور الفنية والإيقاع الداخلي الناتج عنها يضمن تأثيراً بالغا في نفس القارئ، مما يمنح النص جمالاً خاصاً وعمقاً يستحق التأمل.
يمكن اعتبار القصيدة انعكاساً لرؤية الشاعرة الفريدة عن الحياة وصراعاتها المستمرة، إذ دمجت فيها عناصر الضعف والقوة بحساسية فنية عالية. تناول الشاعرة لمفهوم التوازن النفسي برموزه وصوره يجعل النص أشبه برحلة تأملية تدعو القارئ للتفكير بكيفية مواجهة التقلبات النفسية والظروف المحيطة بأسلوب يدعم الصمود والتقدم نحو الأفضل دون أن يفقد الذات قدرتها على التجدد والاستمرار.