الابداع والمنفى


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8158 - 2024 / 11 / 11 - 00:48
المحور: الادب والفن     

يظهر الإبداع والمنفى كمسارين متصلين بشكل وثيق ضمن تاريخ الإنسانية الطويل، وكأنهما وجهان لعملة واحدة. وإن كانت السياسة غالبًا ما تتحرك في مسارات تُقيّد الروح وتفرض قوانينها الصارمة، فالفن والشعر يبحران في اتجاهات متمردة وحرة تتجاوز تلك الحدود.
وعلى مر العصور، وجد عدد كبير من كبار الفنانين والكتّاب أنفسهم يُجبرون على ترك أوطانهم بفعل الاضطهاد أو الظروف القاسية التي جعلت المنفى خيارهم الوحيد. ورغم قسوة هذا الطريق، كان المنفى سببًا في ولادة بعض من أروع النتاجات الأدبية التي أضاءت سماء الفكر الإنساني وأعادت تشكيل مفهوم الإبداع ذاته.
حينما غادر صامويل بيكيت وطنه ايرلندا واستقر في فرنسا، كتب هناك تحفته المسرحية "في انتظار غودو"، باللغة الفرنسية، في نقلة إبداعية أثبتت عبقريته الفريدة. واستوحى أنطوان دو سانت إكزوبيري عمله الخالد "الأمير الصغير" من منفاه في الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة صعود الفاشية إلى قمة المشهد السياسي في أوروبا. اضطر إلى اللجوء بعيدًا عن وطنه، وهناك استعاد خياله الطفولي وسرده العميق ليُقدّم رواية تجسّد أسرار البراءة والحكمة معًا. أما بوريس باسترناك، فقد عانى من وطأة الأيديولوجيات القمعية التي هيمنت على روسيا في حقبة الاتحاد السوفيتي، مما جعل روايته "دكتور زيفاغو" ترى النور أولاً خارج حدود وطنه.
يتجلى أثر النفي جليًا في الأعمال الأدبية لصامويل بيكيت وجيمس جويس، حيث انتهجا أسلوبًا يُعيد تعريف التراجيديا والوجودية. وتمتزج التراجيديا والكوميديا في رواياتهما ومسرحياتهما، في نسيج سردي مُتقن ينزع القارئ من مناطق الراحة الفكرية. أما الزمن، وهو عنصر روائي أساسي، فيتخذ شكلاً متدفقًا وعابرًا؛ لا أحداث ذروة ولا نهايات تقليدية، بل شريط زمني فالِت، كأن الحياة نفسها تُعرض أمامنا كغبار يتسرب بلا هوادة بين أصابع الشيخوخة والذاكرة. وفي هذا السياق، كثيرًا ما نجد أنفسنا نزداد وعيًا بسخرية الوجود ومآلاته المحتومة، وسط شعور يشبه التناغم المرّ بين الحياة والموت.
أما شخصيات بيكيت وجويس فهي باستمرار انعكاس للبشرية المُجهدة والمنزوعة من المثالية؛ لا بطولة خارقة ولا جمال ممتاز، بل وجوه تعيش على هوامش المجتمع . ويصبح الفقر، الشيخوخة، والتشرد عناصر مهيمنة تُبرز العزلة الداخلية والنفسية للإنسان المعاصر. الشخصيات البطولية التقليدية خفتت لتُفسح المجال لـ "البطل المضاد"، وهو إنسان عادي، هشّ وأحيانًا ما يبدو مكسورًا، لكنه يحمل في داخله حقيقة جوهرية تناسب عصر الحداثة وما بعده.
كتب جيمس جويس روايته الشهيرة "يوليسيس" أثناء منفاه المديد في باريس، حيث أعاد صياغة ملحمة "الأوديسة" لهوميروس بروح العصر الحديث. في هذه الرواية، تحوّل البطل الكلاسيكي أوليس الرحّال الشجاع إلى ليوبولد بلوم، رجل دبلن العادي الذي تجري مغامرته خلال ست عشرة ساعة فقط داخل المدينة ذاتها. لكن هذا الاختزال المكاني والزماني كان مليئًا بالتناقضات والمتاهات النفسية. بلوم يتنقل بين أحياء دبلن المزدحمة، ويعبر الزحام الجسدي بينما يضيع داخليًا في زخم أفكاره وذكرياته وماضيه.
أما شخصيات بيكيت وجويس، فهي أبعد ما تكون عن الصور البطولية المألوفة في الأعمال الأدبية. فلا يحملون الجمال النمطي ولا يجسدون شجاعة خارقة أو ولاءً راسخًا؛ إذ تسقط في عصرهما، الأقنعة الأخلاقية وتتلاشى أساطير البطولة لتفسح المجال لتجسيد الواقع العاري. لقد اختارا شخصيات هامشية ومنزوعة البريق؛ كبار السن، مشردين، وأشخاص غالبًا ما ينساهم المجتمع.
إن الشخصيات التي يقدمها بيكيت هم دائمًا البطل المضاد، أولئك الذين تُسلَّط الأضواء عليهم ليس لإلهام الناس أو إبهارهم، بل للتذكير بإنسانيتهم المجرّدة.
كتب جيمس جويس روايته الشهيرة "أوليس" أثناء فترة نفيه في باريس، حيث جسّد فيها نظرة حديثة لرواية "الأوديسة" لهوميروس. فإن كان أوليس في ملحمة هوميروس يمضي في رحلات طويلة وشاقة بينما تنتظر زوجته الوفية عودته بصبر مع ابنهما الصغير، فإن ليوبولد بلوم، بطل "أوليس" القرن العشرين، يعيش رحلة مغايرة تمامًا تمتد فقط لست عشرة ساعة. لكن المفارقة هي غياب فكرة الوفاء عن حياة زوجته خلال هذه الساعات القليلة.
رحلة بلوم ليست إلا تجوالًا محدودًا داخل مدينة دبلن، يتنقل من طرفها إلى الآخر، يلتقي أناسًا هنا وهناك أو يمر بجانب معارفه دون أن يوليهم انتباهًا حقيقيًا. وبينما يبدو حركيًا في الخارج، يغوص في داخله عبر ذكريات ماضيه مستعرضًا طفولته ومحطات حياته حتى اللحظة الراهنة. كل شيء في الرواية مُصغّر ومكثف، وكأن جويس أراد أن يحوّل الملحمة الكلاسيكية إلى رؤية حديثة تعكس تعقيد النفس البشرية وتفاصيل اليومي البسيط.
وفي تقاطعات التاريخ والدين والأدب، كان المنفى دومًا منبع الحزن والإبداع على حد سواء. يُروى أن الله، بعد معصية آدم وحواء، جعلهما يتركان الجنة ليقتحما الأرض المجهولة بصراعاتها وآلامها. وحين اشتعل الغضب لدى قابيل وقتل أخاه هابيل، نظّم آدم أول قصيدة حزينة* تعبر عن لوعة الفقد والأسى. المنفى هنا ليس فقط جغرافيا، بل حالة وجودية واغتراب عميق عن الأصل.
وفي الوثائق التاريخية، تُعتبر انخيدوانا أو إنهدوانا** أول شاعرة معروفة في التاريخ. كانت كاهنة من سلالة الأكديين وُلدت قبل حوالي 2300 عام قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين. كتبت قصائد تمجّد الإلهة إنانا والسيدة ذات القلب الكبير. ورغم مكانتها، تعرضت للنفي أثناء فترة حكم شقيقها.
فيكتور هوغو، الكاتب الفرنسي الشهير، كتب رائعته "البؤساء" أثناء منفاه في جزيرة غيرنزي، وهي جزيرة صغيرة في القنال الإنجليزي قبالة ساحل نورماندي . فقد عاش هوغو في غيرنزي لمدة 15 عامًا أثناء وجوده في المنفى من فرنسا. وقد أطلق على الجزيرة اسم "صخرة الضيافة والحرية"، وكان منزله هناك يُعرف باسم Hauteville House..
ويمكن استعراض أمثلة عديدة، لكن يكفي القول إن العديد من أبرز الأعمال الأدبية العالمية وُلدت من الحرية التي منحها المنفى لفنانين قضوا فترة من حياتهم وأبدعوا هناك. ويبقى السؤال؛ "ماذا أبدع كتابنا وفنانونا في منافيهم"، قاسياً؟
https://eljewahir.com/node/24979*

**https://www.marefa.org/%D8%A5%D9%86%D9%87%D8%AF%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%A7

مالمو- السويد
2025-06-01