في رحلة البحث عن الذات - متعدد الثقافات 4-
لمى محمد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8077 - 2024 / 8 / 22 - 00:13
المحور:
الادب والفن
في رحلاتي الأخيرة إلى نيويورك، فلوريدا، أوهايو، شيكاغو، ألباكركي و دبي قابلت أطباء كثر، معظهم من خيرة الأطباء في العالم إن لم يكونوا - في مجالاتهم- الأفضل على الإطلاق، لكن غالبيتهم لم يكونوا سعداء، بل وبدا الهم عليهم كعشرين سنة مضافة فوق تجاعيد الروح و موت نبرة الصوت…
مما لا شك فيه أن الطواقم الطبية تعاني حول العالم - في الغرب قبل الشرق- ، كيف لا و النظام الطبي يرزح تحت وطأة الصوابية السياسية كما هو حال الأدب الإعلام و حتى الصحافة….
وما يزيد الطين بلة بالنسبة للأطباء المغتربين: العنصرية غير المباشرة التي تأكل فرصهم كما تأكل النار ياسمينة دمشقية نجت من الحرب.
في أحد مؤتمرات الطب النفسي الأخيرة، شهدت الحوار التالي بين مجموعة من الأطباء المغتربين:
-أريد أن أذهب لأعمل في السعودية، السعودية اليوم هي دبي منذ عشرين سنة، انفجار حضاري وانفتاح ثقافي، حتماً سينتصر.. إذا اجتمع العلم، المال و التحرر تُبنَى الحضارات الرائعة.
-أضعت نصف عمرك هنا، وتضيع النصف الآخر تبحث عن وطن جديد؟
-أنا لا أبحث عن وطن، أبحث عن كرامة أطفالي، ما رأيك دكتورة؟ ما رأي الطب النفسي؟
-أنت يا رفيق، كما كلنا تبحث عن راحة البال.
الطمأنينة الشعور الأسمى و الأغلى والذي لا يقبل الشراء بالمال ولا بالعيال، الطمأنينة شعور مستقل منذ وجدت المفردة في القرن الرابع عشر!
وإذا أخذنا الطب النفسي ( الأمريكي) في رحلة تحليلية لنرى ما الذي حدث في القرن الرابع عشر لتبدأ كلمة الطمأنينة الانكليزية (Tranquility) بأخذ أبعادها، سنعرف أن المجاعة الكبرى غزت أوروبا فيه ( 1315-1317)، حرب المئة عام بين فرنسا و انكلترا كانت فيه…
وبعد ابتلاء الجوع والحرب، غزا الموت الأسود ( الطاعون) أوروبا ليقتل نصف سكانها…
ما خلفه الموت الأسود كان مذهلاً، فمن جهة ابتعد الناس عن الولاء المطلق للكنيسة، فماذا يفعل التعصب الديني إن هجم الوباء والمرض؟
رأى الناس بأم أعينهم المرض يتفق مع الموت عليهم، ورأوا العلم السلاح الأقوى ليعقلوها ويتوكلوا، فرموا بمفاهيم دينية حاربت الدين والعلم لعقود…
و من جهة أخرى أرادت النفس البشرية شماعة لتعلق عليها مصابها، فكانت الأقليات و خاصة الأقلية اليهودية الشماعة الأمثل، وبدأ عصر اضطهاد الأقليات مرحلة جديدة.
وستسألون يا دكتورة أين اكانت الطمأنينة في بلداننا العربية حينها؟
وأقول لكم في ذلك القرن وبعده بقرون حكمت الامبراطورية العثمانية أغلب الدول العربية.. و أرست أول احتلال مشترك للعرب واليهود، بل وفتحت الأبواب على مصراعيها لقيام دولة جديدة!
وبدلاً أن نتعلم من التاريخ، ونعرف أن الدين ما هو إلا قماش “ بشت” الملوك والخلفاء، ساهم “ متثاقفونا” في تعزيز التعصب الديني وبالتالي سلطة التدين، فاستمرت الحروب، المجاعات ورحلات الأمراض للقتل المجاني…
هكذا ظللنا نهاجر يم الشرق والغرب في رحلات ظاهرها للبحث عن “ الذات”، بينما جوهرها البحث عن راحة البال…
**************
نسمع كل يوم عن طرق كثيرة لمعرفة الذات، لكن صدقني لن تستطيع أن تعرف نفسك عن طريق التأمل، التدين، أو القراءة وحسب…
معرفة الذات تبدأ من:
أولاً غربلة الأخطاء، ضع ما قاله عنك الآخرين في “ مصفاة” عقلك وتصور نفسك مكان الآخر، عندها ستدرك خطأك و خطأ الآخر معاً.. وعندها فقط تكتسب صفة العدالة الضرورية لمعرفة الذات الحقة…
وثانياً : ليعلو صوتك، لتسبح عكس التيار إن اقتضى الأمر.. السائد غالباً خطأ، ليعلو صوتك بكل جديد و مختلف، بكل ما لا يجرؤ غيرك على قوله، من سلبيات النظام الطبي إلى عهر الأنظمة السياسية..
وإن كنت في مكان قايض صوتك مقابل المادة -أياً كانت- فغادر، اصرخ وغادر، أو غادر، ثم اصرخْ.. أنت لست حورية ماء ولا ثور مربوط بدولاب محراث لايراه!
لا تقتل نفسك ببطء.
في رحلاتي الأخيرة إلى نيويورك، فلوريدا، أوهايو، شيكاغو، ألباكركي و دبي قابلت أطباء كثر، معظهم من خيرة الأطباء في العالم إن لم يكونوا - في مجالاتهم- الأفضل على الإطلاق، لكن غالبيتهم لم يكونوا سعداء، بل وبدا الهم عليهم كعشرين سنة مضافة فوق تجاعيد الروح و موت نبرة الصوت…
أراهم جميعاً في أمكنة أفضل، أراهم أسياد المكان والزمان.. والسيد في عرف العلم حر.. حر.. حر.
يتبع…