سوريا إلى أين؟ - متعدد الثقافات 14-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 8202 - 2024 / 12 / 25 - 00:12
المحور: الادب والفن     

تسألني صديقتي الأمريكية راشيل المختصة في التاريخ العربي:
-هل حقاً ستضعون شبيه زيل نسكي رئيساً بعد أن كان عضواً في د ا ع ش.
-لا أعرف، هذا ما يقرره الشعب السوري.
-هل تحاولون تحويله إلى مسيحكم المخلص؟ طلبوني البارحة لأحلل لهم الوضع السوري، قلت لهم: لا أثق بشخص يرى في النساء مواطناً درجة ثانية، فأجابوني:
-ولا نحن، لكننا يحب أن نكون أذكى من تحويله إلى بطل قومي، لقد حصد محصولاً زرعته المعارضة في سنوات طويلة.. سينتهي هذا المحصول إن ظهرت أجندة مخالفة لما يظهره، عندها فقط نستطيع أن نتصرف.
-لا أعرف يا راشيل، أرى الموضوع أعقد بكثير من هذا، لكن الطمأنينة تملؤني.
لا أعرف لماذا كل هذا الاطمئنان، ثقتي بالسوريين كبيرة، وثقتي بالشباب السوري أكبر.
عندما عملتُ كطبيبة جلد في مشافي دمشق، عملتُ في قسم الحروق في مشفى المواساة.
كان عندي مريضة اسمها شام، طفلة جميلة في الخامسة، احترق جسدها بالحليب المغلي.. بينما بقي وجهها يطل كملائكة في صباحات محبة بعد خصام..
اعتقدت المسكينة شام أنها تستطيع أن تصب لنفسها الحليب وسكبت الوعاء المغلي على جسدها الصغير، فاحترق أكثر من نصف جسمها..
كانت تمسك يدي بيدها الصغيرة، فأحس قلبي صغر ودخل كوة من النار..
الجميع قال: لا أمل..
إلا أنا، في قلبي كان هناك اطمئنان عظيم.. قلت لهم:
-الحرق مازال أقل انتشاراً من كلمة مستحيل، لنحاول.. قلت لأهلها لا تقتربوا منها كثيراً، فتنشروا الجراثيم من حولها، لكن غنوا لها.. حدثوها..
سمعتُ والدها يوماً يغني:
"يا شام يا حلوة الحلوات
ويش عاد تسوين لقلب أبوك
هسع تجي أمك تغني وتقول
القلب أنت يا شام والروح"
كان حدسي صحيحاً، نجت شام..
لكن ما يجب أن نعرفه، أنها نجت بعد دعم غير مسبوق من جميع أفراد الطاقم الطبي أطباء و ممرضين، بعد عمليات كثيرة.. وعلاجات طويلة.
لو فقدتُ الأمل في ذلك اليوم، ربما لفقد من حولي الأمل أيضاً.
ما من نفع لتخيل السيناريوهات السوريّة البائسة،
يكمن الشر كله في التسويق -من دون أن تدري- لحرب قبائل- تأكل أولادك قبل غيرهم.
عندما يقولون لك: أحرقت فصائلٌ متزمتة شجرة الميلاد في السقيلبية في سوريا، رد فوراً أنه أعيد إعمار الشجرة من قبل السوريين وأخذوا الجناة إلى المحاكمة.
عندما تسمع خبراً طائفياً تأكد منه، لا تكن أداة الشبيحة، الدواعش و الطائفيين في محاولتهم إذلال الجميع كما سيتم ذلهم.
لم يترك النظام البائد للسوريين أي حلّ غير ما كان، لذلك الرهان اليوم ليس على " لو"، بل على قدرتنا على البقاء متوحدين وكلنا أمل بالشعب الطيب الجميل..
طنجرة الحليب المغلي انسكبت، هذا واقع حال، اليوم دعوا المؤهلين في جميع المجالات، يعملوا ليشفوا حروقنا.
**********

خرجتُ من سوريا في عام 2009 في قلبي أحلام كثيرة وآمال بالحصول على وطن!
كانت المطارات في سوريا تعمل بكل طاقتها، الكهرباء متوفرة، الماء متوفر، القضية الأساس التي ثار من أجلها السوريون، لم تكن بقسمها الأكبر ماديّة.
ما لم يكن موجوداً في سوريا هو:
حرية الرأي، المساواة، العدالة، تكريم من يستحق وكف يد (الحراميّة).. وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
لم يكن في سوريا كيان معارضة مستقلة وما نفع البلاد بلا معارضة قويّة من قلب البلد، تصحح الأخطاء وتسلط الضوء على النواقص؟
لم يكن في سوريا كلمة حرة، كان جزاء التفكير المختلف هو الاعتقال، تشويه السمعة أو الاختفاء..
لم يكن في سوريا حق تقرير الحزب ولا الولاء..
كان الولاء مقتصراً فقط على الأسد الأخرس و من لف حوله انتفاعاً أو خوفاً، والحزب كان ذاته البعثي الصداميّ بكل ذيوله وشعاراته منتهية الصلاحية.
الشرفاء من السوريين ينتظرون ما أرادته هذه الثورة، ما لم يكن موجوداً في سوريا.. وهذا يتطلب أن نسمع بعضنا، وألا نكرر الأخطاء التي دمرت البلاد.
البلد في حالة نقاهة، ولذلك تكون الحكمة واجبة، الصبر والعمل واجب أي سوريّ اليوم.

أما ما ثار من أجله السوريون، فأمانة في أعناقنا جميعاً.

اعملْ، ساعدْ، تجاهلْ، شجعْ البسطاء على السلام.
‎قاربْ بين الأخوة، لا تسمح للتصرفات الصبيانية غير الناضجة بأكل قطعٍ من وطنك، وزرع نار جديدة..
‎رأيت بعينك ماذا فعل صدام وما فعلت الطوائف بعده في العراق الحبيب سابقاً.
‎انزعْ الإطار الضيق الذي وضعوه حولك لأجيال..
‎أنتَ هو ملخص: عملك، كفاحك، مرونتك النفسية، تعاملك مع الآخرين، وأحلامك.
‎أنتَ أكبر من أيّ مسمى آخر إن كانت رسالتك نبيلة على هذه الأرض...

أنتم تتشاركون في كثير جداً أكثر بكثير مما فيه تختلفون.

**********

لقد رأى نظام الأسد الأخرس في العلمانية والروحانية دماراً لمكستباته في الوطن، فشوه المفاهيم وعمل على إدخال الأديان في كل وأي مفصل في الدولة.. ثم زرع مفهوم الأفضلية بين كل معتقد على حدة، هكذا ضمن السيطرة على عقول البسطاء لعقود.
لا يريد المتأسلم دولة روحانيّة، لأنه يؤمن بفوقيته وأفضليته عن غيره، تماماً كما يؤمن المتحزب طائفياً بذلك، وكما يعتقد الداعشي ذلك.. لكل طائفة شبيحتها وداعشيوها.
في الدولة الروحانية تبقى الأديان ملجأ مريديها، لكنها خارج مفاصل الدولة وخارج القانون العادل الساري و المطبق على الجميع بغض النظر عن الأطر.
فيما يحاول الأمريكي (العلماني بحكم القانون) بناء حضارة على كواكب أخرى.. نسعى نحن لتقصير طرق العودة إلى ركب الحضارة.
وبينما تحاول السعوديّة أن تفصل الدين عن الدولة -كما فعلت تركيا وماليزيا سابقاً-، نرى الشعوب الضعيفة تهرب من العلمانية والروحانيّة، فتعتقد أن بلداً مكوناً من 60٪ على الأقل موزاييك من جميع المعتقدات، سيقبل بحكم المتزمتين الذين في أكثر تقدير لا يتجاوزون 40٪.
ترى أمريكا اليوم في سوريا سعودية جديدة، ستعود إلى الانفتاح آجلاً أم عاجلاً في زمن الفضاء الافتراضي.
والسوريون أذكياء كفاية ليختصروا على أنفسهم الطريق الطويلة وينهوا العناء الذي بدأ منذ أعوام طويلة.
وأكتب للتاريخ -نبوءتي تصدق- بعد سنوات من اليوم ستصبح العلمانية هدف وواجب.. الروحانيّة صفة النجاح والإبداع و اللباس مجرد عادة..
الهدف اليوم ألّا تدفعوا باهظ الأثمان في طريق الحضارة.
اللهم إني أعمل وسأعمل عملاً مخلصاً من القلب لكل الناس.
اللهم أنرْ دروب الأطفال أينما كانوا، بالعقل، بالعلم وبالحب، لتعمر الأوطان، فتتنفس الأديان.

كل عام وأنتم بألف أمل.. ميلاد مجيد..
"باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون معاملتكم.
إذا لطمك أحد على خدك، فقدم له الخد الآخر أيضاً.. وإذا أخذ أحدهم معطفك، فدعه يأخذ قميصك أيضاً.
أعطِ كل من يطلب منك وإذا أخذ أحدهم مالك، فلا تطالب باسترجاعه. وكما تحب أن يعاملك الآخرون، هكذا عليك أن تعاملهم". إنجيل لوقا-6

يتبع…