حرب أكتوبر 1973 بين الأمانة والخيانة‏


مشعل يسار
الحوار المتمدن - العدد: 7805 - 2023 / 11 / 24 - 04:49
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

تواطؤ السويس‏

تتضمن هذه المقالة بعض ما جاء في مذكرة سرية للدبلوماسي السوفيتي الراحل فلاديمير فينوغرادوف ‏حول حيثيات حرب أكتوبر 1973 نشرها لاحقاً الكاتب إسرائيل شامير. وهو كاتب يساري من أصول يهودية، ‏له مقالات كثيرة في الصحف اليسارية الروسية. ‏
لقد تبين أن حرب 1973 بين إسرائيل وجيرانها العرب، بخلاف ما نسمعه كثيرا من الإعلام العربي ‏المطبّل للبطولات المجترحة في عهد السادات، كانت مجرد مسرحية، كناية عن إخراج ماهر مبني على ‏سيناريو أميركي‏‎.‎
وهذا ما اتضح من مضمون المذكرة السرية التي تم الكشف عنها منذ قرابة 15 عاما للدبلوماسي ‏فينوغرادوف. وقد كان فينوغرادوف سفيراً للاتحاد السوفييتي في القاهرة في أثناء الحرب، وقضى كل وقته مع ‏الرئيس السادات وجنرالات هيئة الأركان العامة، وحافظ على اتصالات مستمرة مع موسكو، واجتمع مع ‏صانع السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر. ومن الواضح أنه قام بإعداد مذكرته لنقلها إلى المكتب ‏السياسي والحكومة في يناير 1975، بعد وقت قصير من عودته من منصبه كسفير في مصر‎.‎
ويترتب عن المذكرة التي تم العثور عليها أن حكام مصر وإسرائيل والولايات المتحدة قد دخلوا في ‏مؤامرة موصوفة عام 1973. فقد دبروا ونفذوا "حرب أكتوبر" – التي يسميها اليهود "حرب يوم الغفران"، ‏ويسميها العرب "حرب رمضان".‏
خلال الحرب تلك، خان حاكم مصر المستبد نائب الرئيس عبد الناصر سابقا أنور السادات حليفه ‏العسكري سوريا فحكم على جيشها بالدمار، وسمح للدبابات الإسرائيلية بالدخول إلى قلب مصر، وعرّض ‏جيشه المصري نفسه للهجوم المعادي – وكل ذلك من أجل تكوين صداقة مع أمريكا. أما غولدا مائير التي ‏أحبها اليهود كثيرًا، فلم تتوان عن دفع ألفين ونصف من أفضل جنودها إلى الموت المؤكد في السويس وفي ‏معارك الدبابات في "المزرعة الصينية" من أجل تلك المسرحية "المربحة" للوطن القومي اليهود المصطنع‎.‎
ونتيجة لذلك، حقق الأمريكيون نصراً كبيراً، حيث جاؤوا بقوة إلى الشرق الأوسط، ولم يكن لهم وجود ‏هناك من قبل، ولا يزالون إلى اليوم يروعون ويهتكون عيش شعوبه بحروبهم و"ربيعهم العبري" و"فوضاهم ‏البناءة" وينهبون ثرواته دون وازع. لقد أصبحوا الوسيط الوحيد في جميع المفاوضات، وأطاحوا بالاتحاد ‏السوفييتي، و"أنقذوا" إسرائيل، و"أنقذوا" مصر السادات - وكل هذا بخطوة معقدة واحدة. الاتحاد السوفييتي، ‏الذي كان يحمي مصر في السابق من الغارات الجوية الإسرائيلية وأعاد بناء الجيش المصري بعد الهزيمة في ‏‏"حرب الأيام الستة" عام 1967، واستثمر أموالاً ضخمة وقدم خبراته في إنشاء قطاعي الصناعة وتوليد ‏الطاقة المصريين، وخاطر بخوض صراع مع الولايات المتحدة، خسر مصر في طرفة عين، وبمرور الوقت، ‏خسر كل ما تبقى من الشرق الأوسط الصديق لروسيا ولم يبق له إلا سوريا، التي أصبحت الآن مدمرة ‏بتمويل من قبل ملوك النفط في الخليج وأتباعهم‎.‎

الرواية المعهودة لحرب 1973 هي كما يلي. الرئيس السادات، مع الرئيس السوري حافظ الأسد، ‏استعدا وهاجما "فجأة" إسرائيل التي كانت في استراحة يوم الغفران ولم تكن تتوقع ضربة عسكرية، وكان ‏نصف الجيش الإسرائيلي في إجازة. وقد تمكنا من تحقيق بعض النجاح، ولكن بعد ذلك، وبهجمة جريئة، ‏اخترق الجنرال الإسرائيلي أرييل شارون بسحر ساحر الخط الأمامي، ليجد نفسه في عمق مؤخرة العدو، ‏ويقطع طرق إمداد الجيش الثالث (الواقف على الضفة الشرقية للسويس). فحاصر السويس وهدد القاهرة. في ‏ظل هذه الظروف اتخذ مجلس الأمن قراراً بوقف إطلاق النار، ومن ثم بدأت المفاوضات وانتهت الأمور في ‏حديقة البيت الأبيض‎.‎
ولكن القصة الحقيقية، وفقا لمذكرة فينوغرادوف، كانت مختلفة تماما. فالرئيس السادات أخطر ‏الولايات المتحدة مسبقا بوقت الهجوم، فأعطوه الضوء الأخضر. وهنا أظهر السادات امتنانه مقدمًا وطرد ‏المستشارين العسكريين السوفييت من مصر. أما الأميركيون فأخطروا إسرائيل واتفقوا مع القيادة الإسرائيلية – ‏غولدا مائير وموشيه ديان – على كشف الجبهة في قناة السويس والسماح للسادات بالاستيلاء على القناة. ‏ووعد السادات الأمريكيين بأن قواته لن تتقدم قيد أنملة بعد السيطرة على القناة، بل ستبقى على ضفافها. ‏وهكذا، وبنتيجة الحرب، كان يُفترض أن تنشأ حدود جديدة بين مصر وإسرائيل. وكانت هذه الحدود ستمر ‏عبر الممرات الجبلية لمتلا وجدّي، وكانت قناة السويس ستعود بالكامل إلى مصر. وكان هذا مفيداً للغاية ‏لإسرائيل، فمع فتح قناة السويس وتشغيلها، سيختفي خطر الهجوم المصري من الجنوب. في النهاية، كانت ‏إسرائيل مستعدة، قبل عام من الحرب، للتخلي عن قناة السويس دون قتال، لكن مصر لم توافق آنذاك‏‎.‎
اتفق الرئيس السادات على موعد الهجوم مع الرئيس السوري، لكن الموعد النهائي حدده بنفسه. وعبثا ‏طلب منه السوريون تأخير بدء الحرب بضعة أيام - كانوا بحاجة إلى إفراغ خزانات النفط بالقرب من مدينة ‏حمص. فرفض السادات، وأشعلت الطائرات الإسرائيلية النار في الخزانات. وكان أحد أهداف إسرائيل هو ‏تدمير الجيش السوري. ولذلك ألقى الإسرائيليون كل قواتهم شمالاً في مواجهة سوريا. فيما عبر الجيش ‏المصري، رغم أنه أكبر وأقوى بكثير من الجيش السوري، القناة وتوقف عندها. ولم يتحرك قدماً رغم الطلبات ‏السورية الملحاحة. وبأمر من السادات، أوقف الجيش المصري هجومه، فسمح لإسرائيل باستفراد السوريين‏‎.‎
وبعد أن تغلب الإسرائيليون على الجيش السوري، نقلوا قواتهم إلى الجبهة الجنوبية. وهنا مرة أخرى ‏أظهر السادات نفسه كخائن حقيقي. أراد العاهل الأردني الملك حسين ضرب إسرائيل وقطع التواصل بين ‏جنوبها وشمالها؛ فوافق الأسد على ذلك على الفور. لكن السادات كان ضد ذلك. وبشتى الحجج الواهية، منع ‏الأردن من دخول الحرب وعرّض جيشه المصري نفسه للهجوم الإسرائيلي. علاوة على ذلك، ترك - على ‏الرغم من إلحاح فينوغرادوف والمستشارين العسكريين - فجوة أربعين كيلومترًا في موقع تمركز قواته. ومن ‏خلال هذه الفجوة - بالقرب من البحيرات المُرّة - بدأت دبابات الجنرال شارون في اختراق الساحل الأفريقي، ‏أولاً بمساعدة الزوارق المائية، ثم عبر السد الذي بناه خبراء المتفجرات الإسرائيليون. وعلى الرغم من انكشاف ‏أمر هذا الاختراق، لم يسمح السادات لقواته بالقضاء عليه في المهد. فرفض التحرك ضد شارون، وهكذا ‏ظهر رأس جسر إسرائيلي قوي على الساحل الأفريقي، ثم وجد الجيش المصري نفسه محاصراً‎.‎
وجاء في ملحق المذكرة الذي أضافه فينوغرادوف: “في مارس 1975، كنت في رحلة عمل في ‏الأردن. فدعاني رئيس الوزراء ووزير الخارجية والمغتربين زيد الرفاعي إلى منزله لتناول طعام الفطور. وكان ‏هناك أيضاً عم رئيس الوزراء عضو مجلس الأعيان عبد المنعم الرفاعي، والأمين العام لوزارة الخارجية حسن ‏إبراهيم، بالإضافة إلى سفيرنا أليكسي فورونين وزميلي السكرتير الثالث في السفارة ألكسندر كالوغين‎. .‎
فجأة سأل الرفاعي: «هل تعلم أن الرئيس السوري الأسد على قناعة راسخة بأن الاختراق الإسرائيلي ‏للضفة الغربية لقناة السويس في نهاية أعمال القتال في أكتوبر عام 1973 تم بموافقة السادات؟"‏
ابتلعت ريقي وحدقت في وجه رئيس الوزراء. هل يعقل أنهم قرأوا أفكاري؟ أظهرت له أني في حيرة ‏من أمري، بل أكثر من ذلك – أني أقابل بالرفض الكامل مثل هذه الفكرة، لكنني سألت الرفاعي: "إنه أمر ‏غير واضح، أمر لا يصدق - ولكن حتى لو اعترفنا بمثل هذا الاحتمال، فلماذا احتاجه السادات؟‎"‎
‎"‎كيف لماذا؟ - سأل الرفاعي. – الأسد متأكد من أن هذا هو الحال بالفعل. والسبب هو أنه كان من ‏الضروري إعطاء كيسنجر سبباً لـ«التدخل»، ذريعةً لتنفيذ خطته البعيدة المدى، خطة «فصل القوات وإدخال ‏الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط».‏
لم أجب على شيء، ولم أؤيد الحديث والغوص في هذا الموضوع...‏
وقال الرفاعي شيئا آخر أيضا. عندما بدأ القتال وظهر نجاح غير متوقع، توجه العاهل الأردني ‏الملك حسين على الفور إلى مصر وسوريا باقتراح بدء عمليات عسكرية بمجرد وصول القوات المصرية إلى ‏الممرات في سيناء واستيلاء القوات السورية على مرتفعات الجولان. وقد أعطى الرئيس السوري الأسد موافقته ‏على الفور، في حين كان السادات يرسل برقيات كل يوم، يصر فيها على عدم اتخاذ الأردن أي إجراء وعدم ‏القيام بأي تحرك. وهو، بحسب الملك الحسين، كان يتوسل إلى الأردنيين ألا يتحركوا، ويجادل ويبرهن بكل ‏الطرق الممكنة أن احتلال إسرائيل ولو ”شبراً واحداً” على الضفة الشرقية لنهر الأردن سيكون له أثر سلبي ‏أكثر من احتلالهم لسيناء بأكملها! وأخبرني الملك حسين أن الأردن، في ضوء رد الفعل هذا، لم تتحرك ‏بالطبع، وكما تبين فيما بعد، فعلت الصح. فالأردنيون أيضاً اشتبهوا في أن السادات متورط في لعبة غير ‏شريفة‎.‎
وقال الأسد في حديث مع زيد الرفاعي إنه لن يسمح لمصر بـ”استخدام” سوريا مرة أخرى، كما فعلت ‏من قبل بأن بدأت العمليات العسكرية، ثم قامت خلالها بوقف إطلاق النار من دون الاتفاق مع سوريا، ثم ‏بعقد مؤتمر جنيف انضمت إليه، ثم بادرت إلى الخروج منه، فالدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل عبر ‏الوساطة الأمريكية، الخ. يا له من تقييم! وهو يتفق مع ما اعتقدته أنا أيضًا‎ ..."‎

تعريف
كان فلاديمير فينوغرادوف سفير الاتحاد السوفياتي في القاهرة خلال حرب 73، ثم الرئيس المشارك ‏لمؤتمر جنيف للسلام في الشرق الأوسط، ونائب وزير الخارجية السوفياتي. وشهد فينوغرادوف العديد من ‏الصفحات التاريخية المثيرة للاهتمام. سوى العلاقات مع اليابان في ما بعد الحرب، اليابان التي لم يكن أحد ‏آنذاك يتوقع أن تكون لها تلك القوة والنفوذ في المستقبل؛ وفي عهده اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، وكان ‏يعرف الشاه، وتحدث مع آية الله الخميني عدة مرات، وأبلغه بدخول القوات السوفيتية إلى أفغانستان، ونجا ‏من غارة على السفارة. إن روايته عن الثورة الإسلامية في إيران كشاهد عيان، تلك التي اكتشفت أيضًا في ‏أرشيفاته، ستظل تجذب إليها القارئ والمحلل‎.‎
وتعتبر مذكرة فينوغرادوف أول وثيقة جدية تصدر عن مشارك في الأحداث لديه المعلومات الكاملة ‏عنها. وهناك بين مذكرات فينوغرادوف العديد من الملاحظات التي تجعل من الممكن فك رموز تاريخ ‏الاختراق الأمريكي للشرق الأوسط وتاريخ سقوط مصر – التي باتت فقيرة، تمزقها التناقضات الداخلية، ‏وتحكمها طغمة عسكرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بـ"الحرب الزائفة»، حرب" عام 1973‏‎.‎