الاستيلاء على الأراضي
مشعل يسار
الحوار المتمدن
-
العدد: 7492 - 2023 / 1 / 15 - 12:34
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
مشاريع غيتس الخضراء وملامح إقطاعية جديدة
قبل بضعة أشهر، هزت هولندا موجة احتجاجات من قبل المزارعين وسط تمرير مشروع قانون للحد من انبعاثات أكسيد النيتروز (أكسيد الأزوت)، كان من المفترض أن يقلل من استخدام الأسمدة الاصطناعية. لكن ما كان يمكن أن يؤدي هذا إلا إلى انخفاض في حجم المنتجات في المقام الأول. آنذاك حققت الاعتراضات الشعبية، وإن مؤقتاً، النتيجة المرجوة منها، إذ استقال وزير الزراعة والطبيعة وجودة الغذاء في هولندا، هينك ستاغاوفر، وتم تأجيل اعتماد الإصلاحات هذه إلى أجل غير مسمى. لكن انتصار الإرادة الشعبية لم يدم طويلا، فها هو البرلمان الهولندي ومعه البرلمان الأوروبي يستعدان لتوجيه ضربة أخرى.
ففي منتصف نوفمبر، قررت الحكومة الهولندية الوفاء بالتزاماتها البيئية تجاه الاتحاد الأوروبي بطريقة مختلفة تمامًا: قررت الدولة تقليل كمية الانبعاثات في الغلاف الجوي في ثلاثة آلاف مزرعة. ووفقا لمجلس الوزراء، تم اختيار المزارع إياها وفقا لمبدأ من هو بينها أكبر ملوث للبيئة. وإذا فشل ملاك الأراضي في المستقبل القريب في التعامل مع المهام التي حددتها الدولة، فسيتم شراء ممتلكاتهم، بدايةً على أساس طوعي، ثم على أساس إلزامي. هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها "الولايات العامة" (كما يسمى البرلمان في هذه الدولة) مثل خطط المصادرة المتطرفة هذه التي تم ذكرها للتو في خطة خفض الإنتاج الزراعي بنسبة 30٪ بحلول عام 2030.
يبدو من الغريب بمكان أن نلحظ مثل هذا الإلحاح على اتخاذ قرار كهذا على خلفية أزمة الغذاء والاقتصاد المتزايدة في أوروبا. فقد ارتفعت، على سبيل المثال، أسعار الدقيق في فرنسا المجاورة بأكثر من 30٪، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي بمعدل 16٪. في الوقت نفسه، يشير الموقع الإلكتروني للمجلس الأوروبي إلى أن من غير المتوقع حدوث نقص في المواد الغذائية في الدول الأوروبية، حيث أن القطاع الزراعي راسخ في أوروبا. من الصعب أن نتخيل كيف قد لا تنشأ أزمة الغذاء عندما سيضطر أكبر ثلاثة آلاف منتج زراعي في الدولة الزراعية الرئيسية في أوروبا إلى التحول إلى الأسمدة العضوية، مما يقلل الغلة بنحو 20 ٪، أو يتم شراؤها بالكامل على أساس طوعي- إلزامي. من المرجح أن تؤدي خطوة البيروقراطية الأوروبية هذه إلى تعليق عمل المزارع تمامًا، وسيؤثر هذا القرار ليس فقط على سلة الخبز في أهراءات أوروبا - هولندا، ولكن أيضًا على ألمانيا، حيث يوجد قانون مماثل بشأن انتقال 30 ٪ من المزارع إلى الأسمدة العضوية يحاول البرلمان حاليًا تكييفه مع الحقائق المحلية.
بالطبع، يعزو البرلمانيون في بروكسل هذا الاستعجال إلى الكارثة البيئية التي تقترب باستمرار، ولكن يمكن للمرء هنا العثور على اهتمام أكثر براغماتية وراء كل هذا. فعلى الرغم من أن هولندا هي أكبر مصدر للمواد الغذائية في أوروبا، تحتل الولايات المتحدة مركز الصدارة في العالم. ويبدو أن الوضع في القارة الأميركية هو أقل اعتمادًا على السياسيين الخضر وذوي الياقات الزرق من الموظفين الجاثمين فوق الحكومات، لكن يتعرض للهجوم هناك فيالوقت نفسه رمز افتخار المناطق النائية الأمريكية، المزارع الخاص.
ففي الوقت الحالي، أصبحت ملكية الأراضي في أمريكا أكثر فأكثر حكرا على الأغنياء وحقاً مكتسبا لهم. فقد ارتفعت قيمة الأراضي الزراعية هذا العام بمتوسط 12.4٪ في الولايات المتحدة، وسجلت أعلى زيادة في قيمتها في ولاية ساوث داكوتا - بنسبة تصل إلى 18.7٪. ووصل سعر شراء الفدان الواحد من الأراضي إلى مستوى قياسي منذ أزمة عام 1970. بالإضافة إلى ذلك، وفقًا لمسح أجري بين المزارعين الشباب، كان البحث عن أرض زراعية بسعر معقول هو التحدي الرئيسي في عام 2022. هذا علما ان الزراعة في أمريكا تعتمد أصلا اعتمادا كبيرا على ملاك الأراضي الأثرياء: فقد تم تأجير 40٪ من الأراضي الصالحة للزراعة من قبل مالكيها الذين لا يعتبرون الزراعة نشاطهم الرئيسي، بالإضافة إلى ذلك، يباع 0.1٪ فقط من الأراضي في الولايات المتحدة في السنة لأغراض تجديد البذار.
هناك عدة أسباب لارتفاع أسعار الأراضي الصالحة للزراعة واهتمام الأغنياء بامتلاكها. أولاً، غياب الدعم لصغار المزارعين (أي المنافسين) عند شراء الأراضي، ثانيًا، الزيادة الكبيرة في الطلب في الولايات المتحدة على كل من المنتجات الغذائية والزراعية الأخرى، خاصة على خلفية أزمة الغذاء المستمرة . ثالثًا، بالنسبة لملاك الأراضي الكبار تحديدًا، هناك ميزة إضافية تتمثل في عدد كبير من المدفوعات من جانب الدولة، والتي تمت إضافة الدعم المالي إليها أثناء حرب ترامب التجارية مع الصين وأثناء الوباء - أولاً بمقدار 23 مليارًا، ثم بمقدار 45 ملياراً. لذا، في حين أن الأخبار التي أفادت بأن أحد أغنى رجال العالم، بيل غيتس، هو أيضًا أكبر مالك للأراضي في الولايات المتحدة، كانت مفاجئة في البداية، إلا أنه تم التعامل معها على أنها مجرد استثمار آخر من استثمارات هذا الرجل الثري.
ومع ذلك، فإن هذه الاستثمارات كانت تنبعث منها منذ البداية رائحة أعمال مشبوهة. على سبيل المثال، أصبح هذا الاستحواذ معروفًا ليس لأن بيل غيتس نفسه أو ممثليه شاركوا في المزادات، بل فقط بسبب تحقيق صحفي ظهر وتبين فيه أن الملياردير اشترى أرضًا من خلال شركات وسيطة صغيرة. ففي عام 2021، أفادت NBC أن غيتس يمتلك ما يقرب من 1090 كيلومترًا مربعًا من الأراضي (عُشر مساحة لبنان تقريبا وثلاثة أضعاف مساحة قطاع غزة في فلسطين). علاوة على ذلك، اشتريت قطع الأرض نيابة عنه سرا لعدة سنوات، ولولا همة الصحافيين الدقيقين، لبقي هذا سرا دفيناً. هناك العديد من التفسيرات، وكلها مرتبطة بشكل مباشر بشخصية غيتس، فهو "مقاتل" نشط ضد تغير المناخ، وأحد أشهر مؤيدي التطعيم (بزنس وأكثر من بزنس، ليصب في خانة المالتوسية والشوابية!)، وأحد أغنى وأقوى مؤيدي الأيديولوجية النيوليبرالية.
ثمة من رأى في مالك الأرض الجديد هذا منقذاً للبيئة، وثمة آخرون استندوا إلى آرائه التكنوقراطية ليعتبروه منقذاً للصناعات الزراعية من خلال إدخال تقنيات جديدة في آليات الإنتاج. ولكن بالنظر إلى أن مجلس الشيوخ الأمريكي أعرب في 6 ديسمبر عن قلقه بشأن التخلف التكنولوجي للزراعة الأمريكية ليس فقط عن الصين، ولكن أيضًا عن البرازيل، فإن أي اختراق في آليات الإنتاج لم يتحقق هناك. وفي المجالات البيئية أيضًا، لم يحصل أي تقدم – وهذا ما يمكن للمرء أن يقوله على وجه اليقين، حيث لا مؤسسة بيل وميليندا غيتس نفسها، ولا وسائل الصحافة التقدمية العديدة، السخية جدًا في الإشادة حتى بأكثر النجاحات تواضعًا، لم تقل كلمة واحدة عن هذا الفشل. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن إحدى المقالات الأخيرة على موقع مؤسسة بيل غيتس "الخيرية" مخصصة لوجوب منح النساء المزيد من الفرص لإدارة الزراعة في جنوب آسيا، وإحدى الحجج في هذه المقالة هي أنه "يجب أن يوثق بالنساء وحسب". لكن لم ترد أنباء عن أي إصلاحات جنسانية أو عن رفع عتبة الثقة بالنساء في المؤسسات الإنتاجية للمصلح والمناضل إياه من أجل حقوق سائقات الجرارات وراشّات البذار والدارسات الحاصدات.
وجدير بالذكر أيضًا العمل الخيري لبيل غيتس، حيث أن أحد مشاريعه يتضمن الزراعة، ولكن هذه المرة في إفريقيا وجنوب آسيا. فقد أغدقت معظم الصحف المديح على إرساله المبالغ الطائلة إلى هذه المناطق، لكن وسائل الإعلام لا تفصح عن أية تفاصيل حول ما الذي يتم بالضبط إنفاق هذه الأموال عليه.
فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أدت مشاريعه الخضراء إلى تدمير الموائل (بيئات العيش) على نطاق واسع، وزيادة استخدام المبيدات الحشرية، وتقليل تنوع المحاصيل الغذائية. بالإضافة إلى ذلك، قدمت بعض الدراسات أدلة على أن تدخل المؤسسة الخيرية لم يساعد المزارع الصغيرة على الإطلاق. وتشير بعض الدراسات إلى أن هذا أدى بالناس إلى الجوع، أو على الأقل إلى سوء التغذية.
ما نجحت فيه مؤسسة غيتس، وفقًا للباحثين، هو زيادة سيطرة الأمم المتحدة كمنظمة خيرية وتمهيد الطريق لرجال الأعمال الأجانب، ومعظمهم أمريكان. وفي الوقت نفسه، تتعرض المؤسسة لانتقادات ليس فقط من قبل الباحثين الغربيين، ولكن أيضًا من قبل شعوب إفريقيا. هكذا، كتب منسق "التحالف من أجل الاستقلال الغذائي لأفريقيا" أن رجال الأعمال هؤلاء لا يفكرون في التطوير والتغيير الزراعي في أفريقيا، بل في إنشاء سوق لهم هم. هذه الكلمات تؤكدها حقيقة أن مؤسسة غيتس تنتهج سياسة شراء الأسمدة والبذور الغربية فقط، وتشجع الأفارقة أيضًا على القيام بذلك بحجة أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها زراعة ما يكفي الحاجة من المنتجات الزراعية.
لا يُمكن النظر إلى بيل غيتس هنا على أنه فرد ذو مبادرة منعزل تماماً، كما أنه ليس مؤيدًا قويًا للأجندة الخضراء أو للمساواة بين الجنسين. فنشاط غيتس ليس سوى الأذكى في سلسلة مظاهر اتجاه رهيب جديد. إذ تتم محاربة أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة في قاعات البرلمانات التي تمرر قوانين قاتلة وفي كتالوجات المورّدين التي ترفع باستمرار أسعار المعدات والمواد الخام الحيوية. ولطالما تركزت الأراضي والموارد المخصصة للإنتاج بشكل مطرد في أيدي قلة قليلة، ولكن في العامين الماضيين أصبحت هذه العملية صريحة وسريعة للغاية بحيث لا يمكن تجاهلها أو نسبها إلى مبادرة رواد الأعمال. أضف إلى ذلك حقيقة أن العديد من البلدان في "العالم المتحضر"بدأ يتخذ منذ فترة طويلة قوانين ضد الزراعة الغذائية، حتى في حاكورة المنزل، والحصيلة لوحة تحمل ملامح إقطاعية جديدة.
المصدر: جريدة "زافترا" – ترجمة مقالة كيريل أوتيوشيف