العالم عند منعطف خطير: خارطة الطريق إلى العبودية الرقمية الجديدة... جاهزة (الجزء الأول)
مشعل يسار
الحوار المتمدن
-
العدد: 7478 - 2022 / 12 / 30 - 23:37
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
أقدم لقراء الحوار المتمدن ترجمة لمقالة مسهبة للمؤرخ الروسي المعروف أندريه فورسوف* حول النظام العالمي الجديد الذي ترنو إليه "الدولة العميقة" والذي يتمثل في تحويل المجتمع البشري إلى عبودية قديمة-جديدة. والمقالة في ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول
العالم يتغير، إنه يتلوى ويلوي مفاصله - وروسيا تتغير معه. روسيا تعمل على تغيير العالم، وإن كان هذا بدرجة أقل مما يقوم هو بتغييرها. هذا أمر مفهوم: فالكل يحدد العنصر (الجزء) أكثر مما يحدد العنصر (الجزء) الكل. لذلك، من المنطقي أن ننظر أولاً وقبل كل شيء إلى اتجاهات تطور العالم الحديث.
إن تدمير الاتحاد السوفياتي وما تبعه من نهب لاحقاً لبلدان الكتلة الاشتراكية سابقاً، ولا سيما روسيا، جعل من الممكن تأجيل الأزمة العالمية المزدوجة (أعوام 1988 و 1993-1994) التي تنبأ بها المحللون الأميركيون (M. Gell-Man، R. Collins ، B. Bonner) والسوفييت (P. Kuznetsov ، V. Krylov) والتي كادت تنهي الرأسمالية كنظام. لكن فقط تأجيلها. فقد تم إهداء الرأسمالية 17 عامًا إضافية من قبل الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية، بدعمهما النواة المحتضرة لنظام رأس المال بالخامات الرخيصة والعمالة الرخيصة (بفضل الأخيرة، بات العالم يزخر بالخردة الصينية الرخيصة).
ومع ذلك، في عام 2008، حلت الأزمة المؤجلة إلى حين - ولا يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك. إليكم ما كتبه جيريمي جرانثام Jeremy Grantham ، المؤسس المشارك الأسطوري للشركة الاستثمارية GMO(بوسطن، الولايات المتحدة الأمريكية) حول هذا: "أدت أزمة عام 2008 إلى الإفراط في تشبيع الاقتصادات الغربية بكميات ضخمة من المال لم تكن مدعومة بأي شيء على الإطلاق باستثناء إطلاق الوعود بأن السعادة والازدهار الشاملين سوف يحلان في المستقبل - ويمكن تسمية هذا النموذج بمطبعة المال المجنونة. وكانت النتيجة أن كل الأموال غير المضمونة (غير المغطاة، وهذا على النقيض من أزمة الثلاثينيات) ذهبت مباشرة إلى أسواق الأسهم. في الثلاثينيات من القرن الماضي، اعتمدت الأسهم على المبيعات والأداء المالي للشركات. الآن – كان الاعتماد فقط على العروض الجميلة. هذا اولاً. وثانيًا، الرأسمالية في شكلها السابق قد ماتت نهائيًا بلا عودة“.
في عام 2008، انفجرت أكبر فقاعة مالية في التاريخ، وتم تضخيمها على حساب الاقتصاد الحقيقي ("المادي") لجوهر ومركز نظام رأس المال، وتم إيلاء مهمة التعويض عن هذا الضرر إلى روسيا ورخص المواد الخام منها وإلى الصين ورخص العمالة فيها. وقد ضمن هذا للجماعات الحاكمة في البلدين موقعها في "السنوات السمان" ("سنوات الشبع") في تطور الاقتصاد العالمي عند تخوم القرنين العشرين والحادي والعشرين. ومع ذلك، كان التعويض هذا جزئيًا ومؤقتًا، وفي عام 2008 لم يعد كافيًا. وإني أتفق مع أولئك الذين يعتقدون أن محاولات تمويه الأزمة النظامية بردها إلى مشاكل الرهون العقارية العالية المخاطر ونقص السيولة قد باءت بالفشل. وسأضيف إلى ذلك أنه لا ينبغي لنا أن نتحدث فقط عن أزمة النظام، فأزمة النظام بدأت في مطلع السبعينيات والثمانينيات، بل عن مرحلتها النهائية.
الطبقة الحاكمة في العالم - "سادة التاريخ" الحقيقيون (ب. دزرائيلي)، وموظفوها وكتبتها الرفيعو المستوى (من رؤساء، ورؤساء وزراء لدول ما بعد الغرب post-west التي يفترض ويزعم أنها ذات سيادة)، و"مراكز الفكر"(think tanks) الخاصة بهم - أدركت بوضوح هذه الحقيقة وتصرفت إزاءها بأفضل ما في وسعها.
يعتقد البعض أن النخبة العالمية ليست سوى هياكل فوق وطنية للتنسيق والحوكمة العالمية مثل نادي بيلدربرغ أو، في أسوأ الأحوال، مثل نادي روما واللجنة الثلاثية شبه الميتين ميتة ربهما بعد أن كانا نشطين ذات يوم. ويضيفون إليها أيضًا آل روتشيلد وآل روكفلر الكلّيي الجبروت. بالنسبة للعائلتين الأخيرتين، لا بد من القول إنهما ليستا كليتي القدرة. فهذه العائلات التي تحولت أصلا إلى تسلسلات غير هرمية heterarchy، هي مجرد عنصر، وإن كان هذا عنصرًا مهمًا للغاية واستعراضياً بشكل متعمد، مجرد جزء من كلٍّ أكثر تعقيدًا. أما الهياكل فوق الوطنية للتنسيق والحوكمة العالميين، فليست، على الرغم من أهميتها، ذوات فاعلة (هي في أحسن الأحوال، ذوات فاعلة من الصف الثاني) بقدر ما هي أدوات ومنصات - locus standi и field of employment ذات مكانة معيارية ومجال للتوظيف. يمكنها اتخاذ قرارات معينة لكن أساس هذه القرارات هو الاتفاقات التي تم التوصل إليها مسبقًا (أو النزاعات) بين المجموعات الرئيسية للنخبة العالمية، في بيئتها، أوساطها.
تتكون النخبة العالمية الحالية في شكلها المبسط من أربع مجموعات كبيرة، أربع "مربعات": 1) المجموعة الملكية وجزء من العائلات الأرستقراطية في أوروبا الغربية والوسطى، على رأسها العائلتان الملكيتان البريطانية والهولندية. بالطبع، لا آل وندسور ولا ممثلو الأورانج House of Orange (آل أوراني-ناساو) يستطيعون منافسة السلالات القديمة حقًا المتمثلة في أحفادهم الـميروفنجيين Merovingians والروريك ـ Rurikovichs، والجنغيزيين ـ Genghisides، ومع ذلك، كما يقولون، ليس بالإمكان أكثر مما كان! أو ("من الموجود جود")؛
2) الفاتيكان والرهبنات الدينية الكاثوليكية (الدينية والعسكرية والاستخباراتية) وأرستقراطية شمال إيطاليا وجنوب ألمانيا وإسبانيا واسكتلندا المرتبطة بهم ارتباطًا وثيقًا؛
3) عائلات أهل المال والمصرفيين والصناعيين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، أي الأنجلوسفير- (Anglosphere) العائلات الأنجلو أمريكية والأمريكو إنجليزية؛
4) الجاليات - اليهودية والأرمنية واللبنانية.
مع ظهور السوق العالمية ككل متكامل بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، والرأسمالية كنظام عالمي، والدولة (state) كشكل من أشكال تنظيمها، وبالتالي نشوء الحدود بين الدول، كانت هناك حاجة لدى المجموعات الأربع، أولاً، إلى منصات مغلقة من أجل تنسيق المصالح وتنظيم النزاعات على المستوى فوق الوطني؛ ثانيًا، إلى أدوات لتحقيق مصالحهم فوق الوطنية هذه، بحكم التعريف. ووجب أن تكون كل من هذه المنصات والأدوات فوق الوطنية والمغلقة، مثابة شيء يشبه البنى التأمرية الخفية. وهذا ليس ما يسمى نظرية المؤامرة بأي حال من الأحوال، إنه الاقتصاد السياسي المشفر للرأسمالية Cryptopolitical economy. المراحل الرئيسية في تطور الرأسمالية كنظام تشكّل لخدمة امز لطبقة الحاكمة في شمال الأطلسي هي في نفس الوقت مراحل تكوين الهياكل المغلقة الجديدة فوق الوطنية (الماسونية، المتنورين، جمعية رودس ميلنر Rhodes–Milner Society ، سييكل Siècle، Cercle، نادي الجُزر، نادي بيلدربرغ).
ممثلو كل النخبة العالمية بكل مجموعاتها الأربع موجودون بشكل أو بآخر، بشكل مباشر أو غير مباشر، بشكل علني أو سري، في معظم الهياكل فوق الوطنية، ومنذ القرن العشرين - في جميعها تقريبًا. كمثال محدد: كان كل من عائلة روتشيلد وعائلة روكفلر حاضراً في نادي روما وفي اللجنة الثلاثية، ناهيك بممثلي جاليات الشتات. وفي المجلس الحالي للرأسمالية الشاملة inclusive capitalism مع الفاتيكان هناك الفاتيكان وآل روتشيلد والمؤسسات والشركات. غالبًا ما تعبر الهياكل فوق الوطنية عن مصالح قوى متوازي أضلاعٍ عالمي يصوغونها من خلاله، وهذا بالطبع لا يستبعد تحركهم النشط في موقف معين. وبالمثل، وإن لم يكن بنسب متساوية، توجد أربع مجموعات من أهل العولمة في جميع "طوابق" الاقتصاد العالمي المتكامل عموديًا ("الطابق العلوي" يتشكل من الأكسستيين أو البالغين السؤدد - من كلمة access الإنجليزية أي البلوغ، الوصول(، وهم تحديداً الـBig Tech"" أي أهل التكنولوجيا الراقية؛ الطابق" التالي - صناديق إدارة رؤوس الأموال؛ "الطابق الثالث" – أهل المال أو الممولون financialists الذين يكسبون المال من فراغ؛ “الطابق الرابع" - شركات المجمع الصناعي العسكري، الصناعة الكيميائية، الطاقة؛ "الطابق" الخامس - الصناعة والمقصود القطاع الذي جعل أمريكا عظيمة بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن الماضي والذي وعد ترامب برفقة أمريكا بإحيائه؛ وتحت هذا الطابق هناك "طابق" الزراعة، ونحن نتحدث هنا بشكل أساسي ليس عن المزارع الخاصة، بل عن نموذج الشركات الزراعية المختصة بالزراعات المعدلة وراثيًا GMO مثل مجموعة "مونسانتو" (”Monsanto").
في مرحلة احتدام الصراعات في القرن العشرين، عندما بدأت الديناميكيات العسكرية والسياسية للرأسمالية تهيمن على النظرة الاقتصادية الضيقة، باتت النخبة العالمية، بالإضافة إلى البنى المنغلقة على نفسها، بحاجة إلى بنى فوق وطنية مفتوحة كعصبة الأمم، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي وغيرها مع بيروقراطياتها فوق الوطنية والطفيلية بشكل متزايد في عصر خبراء المال والنزعة المالية financialism، وكذلك إلى بنى شبه مغلقة كنادي روما، واللجنة الثلاثية. وأضحت الأزمة النظامية الحالية لنظام رأس المال في مرحلتها النهائية انعطافًا غير متوقع في التاريخ وفي العلاقات بين الدول والهياكل فوق الوطنية المغلقة.
نظرًا إلى أن الرأسمالية، بعد أن استنفدت إمكانياتها التاريخية، لم تعد قادرة على أن تضمن السلطة والمكانة والربح للنخبة العالمية، وافتضح أمر السياسات المالية كـ"فقاعة" عمرها قصير وجوهرها خبيث وعواقبها غير حميدة، بدأت النخبة العالمية في التفكيك التدريجي لـلنظام منذ منتصف السبعينيات. وساهمت النزعة المالية المتفشية ("صنع المال من فراغ") ونهب بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، وروسيا في المقام الأول، على وجه التحديد في التفكيك التدريجي وغير الملحوظ ظاهريًا لهذا النظام. وفي الوقت نفسه، أدرك قادة العولمة أن لا النهب ولا نفخ وتضخيم "الفقاعة" يمكن أن يدوم إلى الأبد. فالقدر لا يعطي شيئًا إلى الأبد (lat. nihil dat fortuna mancipio)، وبالتالي يجب تغيير الرأسمالية وإحلال نظام عالمي جديد محلها.
لقد أصبح واضحًا عند تخوم القرنين العشرين والحادي والعشرين ما الذي يمكن وينبغي أن يكون عليه هذا النظام، من حيث المبدأ (لصالح قوى العولمة، بالطبع، ومن وجهة نظرها). وبما أن العوامل الحاسمة في الإنتاج المادي أصبحت عوامل غير ملموسة مادياً – عوامل معلوماتية ("روحية") واجتماعية (الشبكات الاجتماعية)، فإن الاستيلاء عليها أصبح العنصر الرئيسي، وأصبحت هي – قوى العولمة - الأساس في تشكيل نظام جديد من علاقات الإنتاج، هي موضوع الاستيلاء، تقوننه فتجعله دستورا للعيش. وكما أكد ماركس، فإن موضوع التملك هو الذي يحدد الذات المتملِّكة، أي الطبقةَ السائدة.
لذا، فإن "القمة" الطبقية الجديدة الناشئة (النخبة، قادة المجتمع) تتألف من مالكي عوامل الإنتاج غير المادية باعتبارها العوامل الرئيسية والأولية. ومع ذلك، تبقى العوامل المادية في يديها مثابة عوامل ثانوية، كملكية عائدة لها. وتبقى عوامل الإنتاج المادية التي كانت رئيسية في الأنظمة السابقة (وسائل الإنتاج والقوى المنتحة)، كقاعدة عامة، مثابة عناصر ثانوية في أيدي أهل النظام الجديد، على الأقل في مرحلته المبكرة: كتملك العبد مع هيمنة ملكية الأرض في ظل الإقطاع، وتملك الأرض من قبل البرجوازية كمالكة لرأس المال في ظل الرأسمالية. أما في "القاعدة" من نظام ما بعد الرأسمالية الجديد، فلأجل أن تصبح عنصرًا ملائمًا في النظام الجديد لعلاقات الإنتاج، وموضوعًا جاهزًا للأشكال الجديدة من الاستغلال والحرمان من التملك، لا ينبغي أن تكون هناك أي عوامل إنتاج، سواء المادية منها أو غير المادية، في يدها كمالكة لها. بيد أن المشكلة تبقى، مع ذلك، في أن هناك في العالم الحديث، في جوهر نظام رأس المال بشكل أساسي، طبقة عريضة نوعًا ما هي الطبقة الوسطى (middle class، البزنس الصغير والمتوسط)، التي تبرز كمالك لعوامل الإنتاج المادية. وحصتها الإجمالية في الثروة العالمية ليست صغيرة على الإطلاق - فهناك إذن ما تستفيد منه وتدافع عنه.
* أندريه إيليتش فورسوف مؤرخ روسي، عالم اجتماع، داعية. مؤلف أكثر من 200 ورقة علمية، بما في ذلك تسع دراسات. في عام 2009 تم انتخابه أكاديميًا في أكاديمية العلوم الدولية (International Academy of Science). تتركز اهتماماته العلمية على منهجية البحث الاجتماعي والتاريخي، ونظرية وتاريخ النظم الاجتماعية المعقدة، وخصائص الذات التاريخية (الكيان التاريخي)، وظاهرة السلطة (والصراع العالمي على السلطة والمعلومات والإعلام والموارد)، والتاريخ الروسي، وتاريخ النظام الرأسمالي والمقارنات التاريخية بين الغرب وروسيا والشرق.
(يتبع)