|
مشكلة المعرفة لدى ايدن حسين. (دحض المثالية)
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 5695 - 2017 / 11 / 11 - 16:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مشكلة المعرفة، باتفاق مؤرخي الفلسفة، مشكلة ضاربة في القدم، تمتد جذورها إلى السوفسطائيين الإغريق. ولعلنا نذكِّر ههنا بقول بروتاغوراس ذي الشهرة المدوية عبر العصور: „الإنسان مقياس الأشياء جميعاً". ونذكّر بما يتضمنه قوله من نفي معاند للحقيقة المطلقة؛ بحجة أن الناس مختلفون في إحساساتهم من حيث إن لإحساساتهم درجاتٍ متفاوتة في القوة والضعف: فما يحس به فرد منا من حرارة، قد لا يحس به فرد آخر، وما يسوغه فرد منا من رائحة أو طعام، ويراه من أجزاء الطبيعة والصناعة، قد لا يسوغه فرد آخر كما يسوغه هو، ولا يراه كما يراه هو - وهذا مذهب العندية، فما عندك هو حقيقة صائبة بالإضافة إليك، وما هو عندي حقيقة صائبة بالإضافة إلي، فأما الحقيقة المجردة المستقلة عنك وعني، فلتذهب إلى حيث ألقَتْ...- فينشأ من هذا الاستدلال أن الحواس خادعة لا تنقل لنا بصدق حقيقة الأشياء الخارجية التي تماسها وتصطدم بها، وإنما هي ناقلة لصورة هذه الأشياء وحسب، كما تبدو صورتها لها – للحواس - في مرآتها الخاصة، إذ لو قد كانت الأشياء في واقعها، لها حقيقة ثابتة صادقة، فما الذي يجعل الإحساسات تختلف فيها من فرد إلى فرد؟ ولقد أضاف غورغياس السوفسطائي، فيما نقل عنه من كتابه (اللاوجود) حجة جديدة أشد صعوبة – في رأيي - من حجج بروتاغوراس كلها، حجة تنفي إمكان معرفة حقيقة العالم الخارجي، جاءت في صيغة البرهان: إنها حجة اللغة! فاللغة، كما هو معلوم ، تواطؤية، توافقية، رموزٌ تواضعَ عليها البشر، ومحلها الذهن لا الواقع المادي خارج الذهن. فلما كانت اللغة، بما ترسمه من صور وأفكار ومعان عن الأشياء، لا يوجد بينها وبين ما هو خارج عن ذهن البشر، تماثل وتطابق - فإن لفظ السفينة، مثلاً، ليس هو السفينة كما هي في البحر. هذا اللفظ بما هو لغة أو من اللغة، لا يطابق بصورته الشكلية صورة السفينة، ولا تتطابق حروفه الصوتية مع الحروف المادية؛ أي الأجزاء التي تتألف منها السفينة - فأنى للغة، على هذا الاعتبار، أن تكون ناقلاً أميناً صادقاً لحقيقة السفينة المادية مثلما هي، السفينة، كذلك في الواقع؟ وربما كانت جذور مشكلة المعرفة، كما هو في رأي نفر من مؤرخي الفلسفة، ممتدة في الزمن إلى زمن أقدم شيئاً من زمن السوفسطائيين؛ إلى زمن فلاسفة ما يدعى بالمدرسة الإيلية، إلى ممثلها الكبير فارمنيدِس على وجه التحديد، هذا الذي ليس من الخطأ أن يعد أول فيلسوف يفكر في العالم من حيث إن للعالم مظهراً دائم الجريان – وهذا مذهب هيركليت - تفقهه الحواس ولكن فقهاً زائفاً لا يشتمل على الحقيقة الصادقة؛ وجوهراً غارقاً في سكينة أبدية منقطعة عن الحركة بتّةً لا يُدرك إلا بالعقل، وإن هذا الجوهر المدرك بالعقل، لهو الحقيقة الصادقة المطلقة في رأيه. إن تفريق فارمنيدِس بين العقل والحاس، بأي منهما تُستمد المعرفة، أبالأول أم بالثاني، هو الفكرة المدهشة الطريفة المستحدثة الصارخة التي سيتوسع فيها ديكارت، ويبني عليها بيركلي دعائم فلسفته المثالية، هذه الفلسفة التي سيتأثرها تلامذة بيركلي وشيعته المثاليون الذاتيون من بعده في العصور المتأخرة، أمثال: شوبنهاور، ماكس شتيرنر، فيشته، ليشيدوا بدورهم أبنية مدارسهم الفكرية الضخمة على أسسها. ومما يثير العجب أن مشكلة المعرفة، رغم تقادم العهد بها، لم تهرم! فلم تزل يتداولها المفكرون على اختلاف مشاربهم وأزمانهم، وتنوع اتجاهاتهم ومدارسهم الفلسفية من مادية ومثالية، وكذلك علماء الأعصاب والنفس التجريبيون في العصور الحديثة، فإنهم تداولوها ويتداولونها، كما يتداولها غير هؤلاء، وهم كثير: لاهوتيون، ناقدون، أدباء، فنانون كباراً وصغاراً، ويعالجونها في عصرنا، وكأنها لم تبرح بعد شرخ صباها! وحتى الكاتب الناقد ايدن حسين، فإنه ليأبى إلا أن يخوض في عمقها اللجيِّ، وأين؟ في (شعوذاته العلمية 2) وفي عقله صنّارة تفكير ولكنْ مثالية، يحدوه رجاء ضارع أن عسى أن يصطاد حقيقة جديدة لم يصطدها من قبله صائد! يهديها سخياً إلى قرائه في موقع الحوار المتمدن. فهل يا ترى وفّق الأستاذ إلى ما ارتجاه؟ الحق أنه وُفِّق، ولكن إلى حقيقةٍ – إن حق لها أن تكون حقيقة حقاً – تتمثل في استحالة العلم بما هو موجود علماً يقيناً بإطلاق. ويا لها من حقيقة! فإنه - وإن كان لا ينكر أن العلم قد أدرك الكثير من أمر المادة – ليقف وقفة اليائس أمام عائق المعرفة المتخيَّل من قبله. وقد أظهر يأسه هذا في (تاسوعته) في شعوذته العلمية التاسعة، أظهره في جملة فصيحة غاية الفصاحة تلخص ببلاغة معجبة رؤيته الوجودية بكلمات قليلة معدودة على الأصابع، ولكن ذات كثافة، بيّنة الدلالة، تغني عن مشقة البحث عن رؤيته ولملمة أجزائها الموزعة على مقالاته التسع، وها هي ذي: "الحقيقة... كل شيء هو معقد جداً بحيث إنه غير مفهوم أبداً. المادة وحدها استطاع العلماء إلى حد ما أن يفهموها، أن يفهموا أجزاءها وأجزاء أجزائها، أما جوهرها كنهها، فبقي وسيبقى سراً من الأسرار...“. فإذا سبر المرء غور جملته، وقع على قياس استدلالي مضمر خفي في ثناياها، لا يعجز عن الإبانة عنه في هذه الصورة اللفظية الشرطية الواضحة: إذا كان كل شيء يستحيل فهم جوهره، وإذا كانت المادة شيئاً، فالمادة إذن يستحيل فهم جوهرها. بيد أن هذا القياس الذي تمخضت عنه النتيجة أن المادة يستحيل فهم جوهرها؛ قد أهمل شرطاً ضرورياً لا بد منه لتكون هذه النتيجة سليمة مقنعة، هو أن تكون المقدمات التي تتمخض عنها النتيجة قبل ذلك سليمة معقولة لا خلل فيها! فلمَّا لم تكن المقدمة الأولى " كل شيء يستحيل فهم جوهره" سليمة معافاة؛ لأنه ثمة أشياء كثيرة قد أدرك العلم جوهرها: االذرة، الماء، الخلية، الطاعون، الدم، جسيم هيغز...إلخ. ولما كانت المادة في المقدمة الثانية، ليست شيئاً من مجموع الأشياء التي يتكون منها الوجود، بل هي كل شيء موجود، أي هي الوجود في كماله، حق القول ببطلان نتيجته. قد يكون السيد ايدن حسين هنا ظن بالمادة أنها الكتلة لا غير، وظن أن ثمة شيئاً آخر إلى جانبها منفصلا عنها، كما هو مفهوم من قوله: "المكان والزمان و الطاقة و الحركة و الجاذبية .. فهي أعقد بكثير من المادة". والحق أن مفهوم المادة يشمل الكتلة والطاقة والمكان والزمان والحركة والجاذبية، والروح إن شاء، معاً جميعاً في وحدة. ومن جهة المنطق الصرف أو الصوري، فإن المقدمة " كل شيء يستحيل فهم جوهره" تفترض منذ البداية استحالة معرفة جواهر الأشياء، وعلى هذا الافتراض، فلا بد أن تأتي النتيجة كما يريدها السيد حسين قسراً أن تأتي: (استحالة فهم جوهر المادة)؛ فكان بهذا أن صادر على المطلوب شيئاً؛ إذ إن المطلوب هو إثبات أن كل شيء يستحيل فهم جوهره، وقد جاء المطلوب هذا بعينه في النتيجة (المادة – وهي كل شيء - يستحيل فهم جوهرها) من دون إثبات. ولكن المتعقب لمنطق الكاتب في نصوصه، لا يعدم لديه حججاً على استحالة فهم كنه الأشياء، مثيرة للاهتمام تكاد أن تقنع السامع أو القارئ في الوهلة الأولى! من أبرزها حجتاه التاليتان: 1- "كيف لمخلوق مكون من المادة أو الطاقة أن يتعرف على كنه المادة أو الطاقة .. و كل أدوات و أجهزة قياسنا ليست إلا مادة و طاقة؟" 2- "أنا فقط أقول إن هناك حدوداً لنا جميعاً، لا نستطيع أن نتجاوزها مهما كنا و مهما أصبحنا. للدقة أقول: كنه المادة، و كنه الطاقة سر لا، ولن يستطيع أحد أن يكتشفه ولا حتى بعد مليارات السنين. كل ما فعله و يفعله العلماء أنهم يفككون المادة حالياً. و قد يفككون الطاقة في المستقبل .. سيتعرفون على الأجزاء .. على الأجزاء فقط .. أما كنه المادة و الطاقة .. أما كنه هذه الأجزاء .. فلا و لن يتوصلوا لها أبداً أبداً". وهكذا، فالمانع من فهم حقيقة المادة أو الطاقة، كما جاء في الحجة الأولى، هو أن البشر مكونون من مادة وطاقة، ويستخدمون أدوات وأجهزة قياس مصنوعة من مادة أو طاقة. فإذا سئل السيد حسين هنا، فممَّ ينبغي أن تتكون أجساد البشر، ليكون في مقدورهم فهم حقيقة الأشياء؟ مم ينبغي أن تكون أدوات وأجهزة القياس مصنوعة، ليصح بها فهم ما استغلق عليهم من أمر جوهر المادة أو الطاقة؟ أثمة أدوات وأجهزة قياس مصنوعة من غير المادة والطاقة، بها يمكن فهم أسرار المادة؟ فما عسى أن يكون جوابه؟ فإن قال: إنما المراد هنا أن فهم جوهر المادة والطاقة من بشر مكون من مادة وطاقة، وبأدوات مادية طاقية، محالٌ وبس، ولا حاجة لنا إلى افتراض وجود بشر، وأدوات مصنوعة من غير المادة والطاقة. وبلفظ آخر أكثر دقة: فلأن البشر مخلوقون من مادة وطاقة، فإنهم لهذا السبب ذاته لن يدركوا أبداً جوهر المادة. سئل: ولماذا هو محال؟ وكيف؟ ألا تقر بأن العلماء – وهم مصنوعون من مادة وطاقة - استطاعوا فهم أجزاء من المادة بمرور الزمن أو تساميه من عصر إلى عصر؟ „ المادة وحدها استطاع العلماء إلى حد ما أن يفهموها، أن يفهموا أجزاءها وأجزاء أجزائها، أما جوهرها كنهها، فبقي وسيبقى سراً من الأسرار" إذن فإن أمر فهم حقيقة المادة، منوط بالزمن خالق كل الموجودات، فلماذا تستبعد أثر الزمان في تطور عقل البشر، وازدياد معارفهم ونموها شيئاً فشيئاً؟ فلو لم تكن المعرفة ذات اتصال بالزمان، فكيف تفسر تصاعد الحركة العلمية بمنجزاتها التقنية من العصر الحجري إلى يومنا هذا؟ ثم كيف تستبعد أنْ ربما أتى زمن يتاح فيه للعلماء أن يحلوا فيه لغز جوهر المادة، كما حلوا لغز بعض أجزائها مثل لغز نشوء الكتلة؟ فأما المانع من فهم حقيقة المادة، من معرفة جوهرها، سرِّها، في الحجة الثانية، فليس شيئاً أكثر من بُغام. فلعمر الزمان! ما هي حقيقة المادة؟ ما هو جوهرها؟ ما سرُّها؟
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ياء ميم، ياء ميم الست مريم وصاحبها كريم
-
خالق الموجودات
-
مارس وفينوس
-
حَدُّ المادة وأصلها
-
صلوات حب على مدار العام 2
-
صلوات على مدار العام 1
-
في البدء كان الكلمة 2
-
في البدء كان الكلمة
-
رجع الكلام على ما تقدم من القول في المعنى
-
لاهوت التنزيه
-
مناظرة المسيحي والمسلم
-
قصة التحولات الفجائية 7
-
قصة التحولات الفجائية 6
-
قصة التحولات الفجائية 5
-
قصة التحولات الفجائية 4
-
قصة التحولات الفجائية 3
-
قصة التحولات الفجائية 2
-
قصة التحولات الفجائية
-
قضية الفعل (جَبَرَ) بين العقاد وجبران
-
ذهان رويدة سالم 4
المزيد.....
-
الشرطة الإسرائيلية تحذر من انهيار مبنى في حيفا أصيب بصاروخ أ
...
-
نتنياهو لسكان غزة: عليكم الاختيار بين الحياة والموت والدمار
...
-
مصر.. مساع متواصلة لضمان انتظام الكهرباء والسيسي يستعرض خطط
...
-
وزير الخارجية المصري لولي عهد الكويت: أمن الخليج جزء لا يتجز
...
-
دمشق.. بيدرسن يؤكد ضرورة وقف إطلاق النار في غزة ولبنان ومنع
...
-
المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: القوات الإسرائيلية تواصل انتها
...
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 360 عسكريا أوكرانيا على أطراف
...
-
في اليوم الـ415.. صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإس
...
-
بوريل: علينا أن نضغط على إسرائيل لوقف الحرب في الشرق الأوسط
...
-
ميقاتي متضامنا مع ميلوني: آمل ألا يؤثر الاعتداء على -اليونيف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|