جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثالث والأربعون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8136 - 2024 / 10 / 20 - 23:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لكن هذه العبارة (الوجود-في-العالم والوجود المنفتح مكونان للحقيقة) تتلقى معنى ليس على الإطلاق هو المعنى الوارد في "الوجود والزمان". إنها تعني أن الإنسان مصدر الحقيقة على نحو صوري، إذا كان لا بد من وجود الحق، كائن كاشف، أي موجود غير منطو على نفسه، قادر على أن يكون ذاته وخارج ذاته في نفس الوقت بالقرب من... بمعنى آخر، التضاعف الأنطولوجي المكون للحقيقة يفترض وجود الموجود المنفتح ek-sistant. إلا أن تلك العبارة اصبح باطلة إذا ألمحت إلى أن الإنسان يخلق محتوى العبارات الحقيقية التي يتلفظ بها. كان "الوجود والزمان" في هذه النقطة أكثر راديكالية. علمنا هذا الكتاب الأول لهايدجر أن خلق الحقيقة انطوي على إنشاء المعنى وهو (الإنشاء) مرتبط بإسقاطات الدازاين وقبل أن يسحب هذا الإسقاط --- وعليه وحده ان يسحب - الموجود من الفوضى الأصلية. ذلك ما يدل على أن هايدجر لم يفلت من قبضة الفلسفة الكانطية حول المعرفة. لم يعد هذا هو الحال بالنسبة إلى كتابه عن ماهية الحقيقة. الموجود منظور إلبه هنا في ذاته. فكرة الوجود التي كانت تتستهدف بالأخص خاصية الدازاين التي تجعله ينطرح أمام ذاته، وفي الوقت نفسه، يؤول الأشياء، يعين الآن هذه الخاصية الأخرى --- مختلفة بعض الشيء على نحو صوري - التي وفقا لها يكون الدازاين دائما بالقرب من الأشياء، التي تكتسب في حد ذاتها دلالة.
ويبقى الوجود والفهم مترادفين. لكن الحد المشترك الذي به يكون هذ الترادف مضمونا، ليس هو الإسقاط بقدر ما هو الانفتاح تجاه الموجود. بدون شك، ليست فكرة الإسقاط الغائبة من الناحية الحرفية، لاغية تماما من الناحية الذهنيه. لكنها تابعة لفكرة الامتثال للموجود، ل"ترك-الوجود-يوجد": لا تعبر عن ذاتها إلا بالمعنى الذي يقال فيه إن كل شخص لا يصل إلا إلى الحقائق التي ينفتح عليها
بمبادرته، أو حسب الاصطلاح الجديد، بسلوكه. بل سوف نؤكد أن التفكير الحالي يبرر بشكل أفضل الفرضية التي طرحها بالفعل "الوجود والزمان"، والتي مفادها أن الدازاين يشكل الحقيقة من خلال فعله الكاشف، وهي الجملة التي بقيت ذات مرة مشوبة بغموض لا يمكن تجاوزه.
أما الأطروحة التي تحدد حقيقة وجودنا بالقدرة على جعل الحقيقة ممكنة، يتم تأكيدها ولكنها تأخذ أيضا معنى مختلفا بعض الشيء. ذلك أن اكتشاف الوجود من حيث هو كذلك وفي كليته يرتبط بشكل مباشر ب"اتركه-يوجد"، يحصر داخل حدود معينة ميلنا إلى جعل الموجود الخاص، الذي يربطنا به الفعل النفعي، مقياس كل الوجود. يحدث هكذأ أننا لا نشرع في الكشف عن الموجود كما هو وفي كليته إلا بقدر ما نضع أنفسنا على مسافة من الكائن الخاص. ندرك إذن أن القدرة على إثبات الحقيقة، على التموقع خارج الذات وقريبا من الموجود من حيث هو كذلك وفي كليته، هي في نفس الوقت ضامنة لحقيقة وجودنا الخاص، الذي هو بالتحديد الوجود المنفتح. من الآن يستطيع هايدجر أن يقول بشكل لا لبس فيه أن هناك حقيقة لأننا نكون حقا ما نكونه.
الخاصية الاكثر إثارة هي أنه (الفعل اليومي) يسعى، دون تحقيق سعيه بالكامل، إلى نسيان هذه العلاقة من خلال ترك نفسه تخضع بالمطلق لكلية الموجود الخاص إلى درجة الضياع في تحديداته. عقوبة ذلك هي أن الدازاين اليومي سوف يفتقر حتى إلى المعنى "الحقيقي" للموجود الخاص نفسه، طالما أن الأخير لا يسمح لنفسه بأن تنكشف إلا من خلال اعتبار علاقته الداخلية بالموجود من حيث هو كذلك وفي كليته. لذلك نفهم مرة أخرى لماذا الأصالة، التي هي الآن "ترك -الموجود-يوجد" من حيث هو كذلك وفي كليته، تظل دائما شرطا لا غنى عنه للاتحجب. يتشكل المقابل الجوهري للحقيقة من اللاحقيقة، وبالتالي يتبين، إذا جاز لنا أن نقول، انه مشترك في الجوهر مع الحقيقة الأساسية نفسها. إذا لم تكن هناك من حقيقة سوى في وجود الموجود وإذا كان وجود الموجود لا يُدرك إلا في المعارضة الداخلية للموجود الخاص والموجود من حيث هو كلية، فإن أي لاتحجب لأحد الطرفين لا ينفصل عن انحجاب الآخر، وبالتالي عن لاحقيقة. وهكذا اختتم "الوجود والزمان" دراسة الحقيقة: "التأويل الوجودي والأنطولوجي لظاهرة الحقيقة يعلمنا أن (1) الحقيقة بالمعنى الأكثر أصالة موجودة في التداخل-الكاشف للدازاين، الذي يجلب للموجود الدنيوي إمكان أن يكون مكشوفا. (2) الدازاين موجود أصلا وفي نفس الوقت في الحقيقة وفي اللاحقيقة. وهذا ما يثبته كتاب "في ماهية الحقيقة". لكن الدازاين ذاته مستوعب ومؤول من منظور أكثر عمقا، تحديداً في علاقته بالوجود. "ترك-الموجود-يوجد" يتوقف على انفتاح الدازاين، وهذا الانفتاح بتوقف على العلاقة التي يقيمها الأخير مع الوجود. إنما الطريقة التي يظهر بها الوجود للإنسان هي ما يحدد إمكان انفتاح الأخير على هذا الموجود أو ذاك بهذه الطريقة أو تلك. لقد رأينا بالفعل أنه تم التفكير في الأليثيا كنقيض للإختفاء، أي كلاتحجب.
واللامتحجب - أي أن الموجود - كان، دائما وفي كل مكان، يُختبر باعتباره "ذلك الذي يظهر"، باعتباره الحاضر الخالص والبسيط، دون النظر أبدا إلى علاقته بالليثي (lèthè) والاختفاء. هناك إذن مفارقة أكيدة. ولكن، بحسب هايدجر، إنما بالضبط التوازي بين هاتين النقطتين غير المتناسقتين، هو الذي يثير، من خلال الدهشة التي يحدثها، السؤال الحاسم: لماذا هذا الاحتجاب للاحتجاب؟ لأن ما يظهر وينعطى باستمرار كحاضر يفترض بالضرورة ما يختفي ولم يعد حاضرا، أي أنه يفترض هذا الآخر لكل موجود لا يمكن أن يتلقى أي اسم آخر غير اسم الوجود.ىذلك لأن الوجود لا ينعطي إلا على شكل انسحاب؛ الأفضل من ذلك: الوجود ليس شيئا آخر سوى هذا الانسحاب. الانسحاب هو الطريقة التي ينشر بها الوجود جوهره، أي يرتسم كحضور. لهذا قدمنا تأويلا لشذرة من كتاب الميتافيزيقا لأرسطو الذي فهم فيها الوجود وأوله على أنه حضور ثابت. أرسطو الذي اكتشف العلاقة بين سؤال الحقيقة وسؤال الوجود، لم يتساءل، كما أكد جان گيش، لماذا تكون الحقيقة هي التحديد الاكثر صحة الوجود. ومن هنا ضرورة أن يطرح هايدجر هذا السؤال: ماذا يعني "الوجود" حتى يمكن أن تكون الحقيقة مفهومة باعتبارها سمة الوجود؟ يسلط هذا السؤال الضوء على العلاقة التي تطرقنا إليها بين الوجود والحقيقة.
(يتبع)
نفس المرجع