الجامعي والنّاقد محمد نجيب العمامي يغادرنا


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7901 - 2024 / 2 / 28 - 00:49
المحور: الادب والفن     

وهذا نجم آخر يأفَل، ونار وقّادة تنطفئ، وطاقة خلاّقة تتهاوى سريعا أمام سطوة الموت الغشوم.
سبعة عقود قضّاها محمد نجيب العمامي (1953-2024) بين المكناسي وصفاقس وتونس حيث درَس، والمعاهد الثّانويّة بصفاقس و كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة و جامعة القصيم بالمملكة العربيّة السّعوديّة حيث درّس، عقود خُتمت بموت زُؤام أذهل أحبّته وأصدقاءه وفاجأ من تناهى إلى سمعه خبر رحيله يوم الجمعة 18 فيفري 2024. سبعة عقود تقسّمت بين الدّراسة والتّدريس والنّضال النّقابي في الثّانوي وفي الجامعة، والشّغف بالبحث حتّى استحال هاجسا يتلبّسه في حلّه وترحاله، وأفنى سنوات من عمره وهو معتكف في محرابه يقرأ ويجادل ويكتب ويُضيف. وتلك آثاره تدلّ على أنّه كان قارئا جيّدا، وبحاثّة لايني، ومترجما دقيقا، وناقدا حصيفا اطّلع على مناهج النّقد الأدبي الحديثة فتمثّلها كأفضل ما يكون التّمثّل، وطبّقها فأجاد تطبيقها حتّى أضحت مؤلّفاته مراجع يعتدّ بها. وأنّى لباحث في السّرد العربي الاستغناء عن كتب من نحو:
1)-الرّاوي في السّرد العربي المعاصر-رواية الثّمانينات في تونس (2001)
2)-في الوصف بين النّظريّة والنّصّ السّردي(2005)
3)-بحوث في السّرد العربي (2005)
4)-تحليل الخطاب السّردي- وجهة النّظر والبعد الحجاجي (2009)
5)-الذّاتيّة في الخطاب السّردي (2011).
وليس بوسعنا أن ننسى المقالات الغزيرة الّتي لا تزال موزّعة بين مظانّ المجلاّت من نحو"الموقف الأدبي" (سوريا)، و"الآداب"(لبنان)، و"قصص" (تونس)، أو المشاركة بمقالات في مؤلّفات جماعية مثل"العالم الحكائي في "الدّراويش يعودون إلى المنفى" ضمن"حداثة التّماسات تماسّ الحداثات في القصّة والرّواية لدى إبراهيم الدّرغوثي" (تونس 2000)، أو"في العلاقة بين الرّواية والمسرح" ضمن"تداخل الأنواع الأدبيّة" (إربد، الأردن 2009).
أمّا تضلّعه من التّرجمة فتجلوه إسهاماته في "معجم السّرديّات" (2010)، وفي" الرّاوي-مدخل إلى النّظريّة السّرديّة" لسلفي باترون(2017).
وقد مكّنه إلمامه بمناهج النّقد الأدبي الحديثة ونشاطه الدّؤوب ورغبته في الإضافة والإفادة من المشاركة في النّدوات الأدبيّة الّتي كانت تعقد في كليات الآداب بتونس(سوسة، القيروان، صفاقس، وحدة الدّراسات السّردية بمنوبة)، أو في جامعات وكلّيات عربيّة مثل الجامعة اللّبنانيّة(بيروت)، أو جامعة اليرموك، إربد(الأردن)، أو جامعة وهران، سكيكدة (الجزائر)، أو كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة ظهر المهراز، فاس(المغرب الأقصى).
التحق نجيب إذن بكوكبة من أساتذة العربيّة الأكْفاء و الموزّعين بين كلّيات تونس المختلفة لم تتجاوز أعمار أغلبهم العقد السّابع نذروا حياتهم للدّرس والبحث، وإغناء المكتبة التّونسيّة والعربيّة بمؤلّفات تؤصّل الثّقافة العربية في زمن الحداثة، وتقطع صلتها بمناهج بالية حكمت عليها بالهامشيّة والتّهميش، وتثبت قدرتها على تمثّل مناهج أفرزتها أوضاع ثقافيّة مغايرة للسّائد العربي، وعلى الإفادة منها أيّما إفادة.
غادرونا والكثير منهم لئن "اشتعلت رؤوسهم شيبا فإنّهم لم يبلغوا من الكبر عِتِيّا"، ولئن "وهن العظم منهم فإنّهم لم يتوكّؤوا على عِصِيّ"، لم تكلّ أبصارهم ولم تجفّ قرائحهم بل اختطفهم الموت في غفلة منهم ومنّا.
والموت لولا الغدر المتأصّل في طبعه لما طعن أجسادا هشّة أضنتها "مهنة الشّؤم"، وأرهقنها أمراض متوارثة عن فترات الصّبا وأيّام العوز والخصاصة لمّا كان أغلب أصحابها تلاميذ يقطعون مسافات طويلة للالتحاق بمدرسة نائية أيّام القّر والحرّ، غذاؤهم جَرْذَقة مُجَمّرة لاتُزيل سَغَبهم، ولباسهم أطمار رثّة لا تقيهم لسع البرد القارس ولفح الهجيرة الحارق. وعندما يتفاعل الطّارف مع التّالد يتضاعف الوهن الّذي ييسّر السّبيل ل"هادم اللّذات" فيفترس هذه الأجساد المتعبة في زمن وجيز. فهل من باب الصّدفة أن يكون موت أغلب هؤلاء الأساتذة فجأة؟
غيّب الموت الصّديق العزيز نجيب يوم الجمعة 18/2/2024 ودُفن يوم الأحد 18/2/2024 بمقبرة مدينة أكودة وقد سُجِّي جثمانه بعلمي تونس وفلسطين، وأحاط به أقرباؤه وأصدقاؤه وزملاؤه، وأبّنه صديقه وزميله الدكتور محمد القاضي مؤسّس وحدة الدّراسات السّرديّة بكلية الآداب والفنون والإنسانيّات بمنّوبة الّتي كان نجيب أحد مؤسّسيها أيضا. وقد كانت لحظة التّأبين مؤثّرة ومَهيبة لأكثر من سبب:
أ-عدّد الأستاذ القاضي مآثر الفقيد الّتي لا تُعدّ ولا تُحصى، وذكر الكتب الّتي ألّفها، واستعرض الأنشطة الأدبيّة والنّدوات العلميّة الّتي أشرف عليها أو شارك فيها، وأشاد بنضاله النّقابي في زمن عزّ فيه تحمّل المسؤوليّة النّقابيّة، وعرّج على نجاحه من حيث هو ربّ أسرة، وتوقّف عند الإضافة الّتي قدّمها بجامعة القصيم بالمملكة العربية السعوديّة، وأثنى على قيمته العلميّة بين زملائه وتقدير السّعوديّين له والانطباع الطيّب الّذي تركه في نفوسهم.
ب-كان جثمانه ملفوفا بعلم فلسطين. وكيف لايكون ذلك كذلك وقد غادرنا الرّاحل في لحظة عصيبة يتعرّض فيها الشّعب الفلسطيني لإبادة جماعيّة واجهتها المقاومة الفلسطينيّة ببسالة نادرة رغم قسوة آلة القمع الصّهيونيّة الرّهيبة الّتي تُسندها، بلا قيد ولا شرط، القوى الامبرياليّة وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة والحكومة البريطانيّة. وفلسطين عزيزة على مثقّف تقدّميّ مثل نجيب الّذي كرّس الكثير من وقته وجهده لخدمة الثّقافة المناهضة للاستعمار بكلّ أشكاله، وآمن بحق الشعوب المضطهدة في تقرير مصائرها وفي مقدّمتها الشّعب الفلسطيني.
ج-أمّا علم تونس فيعني أنّ نجيب لم يكن أستاذا مغمورا لا يتجاوز اسمه حدود كلّيته، ولا فردا نكرة لا يعرفه إلاّ من تحلّق حوله بل يعني أنّه شخصيّة وطنيّة خدمت البلاد من مواقع مختلفة ولم يكن له ولاء إلاّ للوطن. عاش عزيزا ومات كريما. لم يكن يتلوّن كما يفعل المثقّفون/ الحرابي، ولم يطرق أبواب أولياء نعمته لتحقيق مآرب خاصّة، ولم يتملّق سادة القوم كما تفعل "رهوط" من أشباه المثقّفين تجمّل القبيح وتقبّح الجميل، تَزِين السّوآت وتَشين الحسنات. وما أكثرهم زمن الردّة !
لروحك، يا نجيب، الدّعة والسّكينة، ولزوجتك وأبنائك وعائلتك والأحبّة والأصدقاء الصّبر والسّلوان.