من الذاكرة: -الطّليعيّة- هي -الواقعيّة-


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7424 - 2022 / 11 / 6 - 10:00
المحور: الادب والفن     

لم يدّخر الكتّاب والأدباء والمثقّفون العرب جهدا لتطوير الأدب العربي وتحديث أشكاله ومضامينه حتّى يكون معبّرا عن التّحوّلات الّتي تشهدها مجتمعاتهم منذ أن استفاقوا على "أوجاع التّاريخ" وأصابتهم "صدمة الحضارة"، وحتّى يكون أيضا مستجيبا في آن لتطلّعات شعوبهم ومستشرفا مستقبلا أفضل.
لقد انخرط الكتّاب العرب في الحداثة منذ أن احتكّوا بالغرب واطّلعوا على ثقافته ونهلوا من معينها. فقلّدوا أجناسه الأدبيّة الحديثة (الرّواية والأقصوصة والسّيرة الذّاتيّة والمذكّرات...)، وتأثّروا بمدارسه الشّعريّة (الرّومنطيقيّة والشّعر الحديث وقصيدة النّثر...)، وحاكوا تيّاراته الفكريّة ( القوميّة/ اللّيبيراليّة/ الاشتراكيّة) . وبإيجاز بوسعنا أن نؤكّد أنّ التيارات الأدبيّة الغربيّة الشعريّة والنّثريّة على حدّ سواء كان لها صدى في المشهد الأدبي العربي مشرقا ومغربا كما كان لها منافحون عنها بلا هوادة. وتعكس الوثيقة الّتي نقدّمها إلى القرّاء والموسومة ب"الطّليعيّة" هي "الواقعيّة" التّوجّهات الّتي ميّزت المؤتمر الأوّل لرابطة الكتّاب العرب المنعقد في سوريا سنة 1954، كما تعكس نقاشاتُ الكتّاب ومداخلاتُهم وبياناتُهم المناخَ الثّقافي والأدبي الّذي كان سائدا في فترة الخمسينات. فعقد الخمسينات في الوطن العربي هو عقد الواقعيّة بامتياز إبداعا وتنظيرا. فقد ألّف عبد الرّحمان الشّرقاوي رواية" الأرض"( 1954)، وكتب حنّا مينه باكورة رواياته "المصابيح الزّرق" (1954)، ونشر نجيب محفوظ "الثّلاثيّة"( 1956/1957)، وأبدع يوسف إدريس أغلب أقاصيصه ورواياته في هذه الفترة:"أرخص ليالي"(1954)،"أليس كذلك" (1957)،"البطل"(1957)،"حادثة شرف" (1958)،"قصّةحبّ" (1957) و "الحرام"(1959).
وقد كان هذا الإبداع مرفودا بحركة نقديّة ثريّة. فقد بلورت مجلّة"النّقاد" (1950-1958) السّوريّة ومجلّة "الثّقافة الوطنيّة" (1952-1959) اللّبنانيّة وكتابُ "في الثّقافة المصريّة" (1955) لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس مفهوم الواقعيّة والأسس الّتي تقوم عليها وخصائص الواقعيّة الاشتراكيّة. وهكذا كان التّفاعل بين الإبداع والنّقد كبيرا والإنتاج غزيرا.
وكان مؤتمر "رابطة الكتّاب العرب" مناسبة لمناقشة مثل هذه المسائل وتعميق النّظر في قضايا الأدب وعلاقتها بواقع الاستعمار ودورها في تطوير وعي الشّعوب. ونقدّم إلى القارئ العربي هذه الوثيقة الّتي تعكس ما دار من نقاشات في مؤتمر هؤلاء الكتّاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"رابطة الكتّاب العرب" (1954)
"الطّليعيّة" هي "الواقعيّة"*
نشأت" رابطة الكتّاب العرب"( أيلول 1954) على أساس حلّ "رابطة الكتّاب السّوريين" (تأسّست 1951) و"أسرة الجيل الملهم" لنفسيهما، واندماجهما في رابطة أوسع أُطلق عليها اسم "رابطة الكتّاب العرب". فقد بادرت"رابطة الكتّاب السّوريين" بمناسبة مرور ثلاثة أعوام على تأسيسها بالتّعاون مع مجلّة "الثّقافة الوطنيّة" للدّعوة إلى عقد مؤتمر للكتّاب العرب في دمشق. واقترحت اللّجنة التّحضيريّة للمؤتمر(المنبثقة عن الاجتماع العام لرابطة الكتّاب السّوريّين والّذين كانوا ينشرون في مجلّة" الثّقافة الوطنيّة" جدول أعمال يركّز جانبه الأدبي على قضايا ومشكلات ما سمّي ب"الأدب الجديد"، وشملت ورقة العمل التّحضيريّة ما يلي:
1 - قضيّة الأدب الجديد وتحديد معنى الجماليّة والواقعيّة فيه (الشّكل والمضمون).
2 - موقف الأدباء من التيّارات الفكريّة المختلفة.
3 - النّقد الأدبي ومهمّته في تطوير الأدب وإشراك الجماهير فيه.
وفي 9-11 أيلول 1954 افتتح المؤتمر جلساته في مقرّ" الجمعيّة السّوريّة للفنون" بقاعة الشّيخ أحمد عارف الزّين ( صاحب مجلّة"العرفان" والرّئيس السّابق لفرع عصبة العمل القومي في لبنان).
كانت"لجنة الأدب الجديد" إحدى اللّجان الأساسيّة للمؤتمر( تألّفت من غائب طعمة فرمان، علي سعيد، شوقي بغدادي، أحمد أبو سعد، سعيد حورانيّة، رضوان الشّهال، فاتح المدرّس، صميم الشّريف). وقد عالج المؤتمر عامّة، و"لجنة الأدب الجديد" خاصّة إشكاليّة المحتوى الاجتماعي ل"الأدب الجديد" في ضوء المعايير السّائدة لمفهوم "الواقعيّة" في الخمسينات. وتعكس مقرّرات المؤتمر في مجال"الأدب الجديد" ذلك تماما. ونقتطف من هذه المقرّرات مايلي:
" الأدب الصّحيح كما نفهمه، تجربة اجتماعيّة مكثّفة في فرد موهوب تصوّر بيئته من خلال ذاته وتشارك في حياة شعبه وتطويرها في سبيل مجتمع أحسن. ولمّا كان لابدّ للأثر الأدبي النّاجح من عنصر ذاتيّ يعطيه طابعه الخاصّ فإنّ الحريّة كانت ولاتزال ضروريّة لتنقيح مواهبه وإكساب أثره الجمال المنشود. ومع ذلك فالأدب لاحياد فيه. فهو إمّا أن يكون مع القوى الّتي تحتضر وتضمحلّ في المجتمع وإمّا أن يقف إلى جانب العناصر المقابلة الجديدة الّتي تولد وتنمو. وفي الأدب لاينفصل المضمون عن الشّكل، فهما كلّ واحد، والمضمون المتطوّرإلى أحسن هو الّذي يبدع بطبيعته شكله الجديد". "وهذا المفهوم يقودنا إلى أن نؤمن أنّ الأسلوب الّذي يثبت به الأدب الجديد يجب أن يقترب أكثر مما يمكن من الواقع الّذي نعيشه".
لقد حاول "مؤتمر الكتّاب العرب" أن يناقش إشكاليّة الصّراع ما بين القديم والحديث على أساس المحتوى الاجتماعي للأدب، ورأى بصوت إحسان سركيس ( عضو المؤتمر) أنّ المهمّات الاجتماعيّة والوطنيّة الملحّة لحركة التّحرّر العربيّة تضع إشكاليّة الصّراع مابين القديم والحديث في سياق مختلف عن شكلها السّابق. ويشير إحسان سركيس إلى ذلك بقوله:
" لئن اُستعيدت لدينا فكرة القديم والحديث، فما هي بالمعركة الأزليّة الّتي اعتادوا أن يحصروها في دائرة لاتخرج عن نطاق المساجلة الشّخصيّة والعداوات التّافهة.. إنّنا اليوم إزاء معركة جديدة وضعتها الحياة وضعا جديدا".
كان مفهوما"أدب الطّليعة" و"الأدب الجديد" السّائدين في مداخلات المؤتمر يعنيان على وجه محدّد" الأدب الواقعي"- كما كانت الواقعيّة مفهومة في الخمسينات- ف"الأدب" هنا سلاح اجتماعي تستخدمه "الفئات الاجتماعيّة التّقدّمية- في صراعها ضدّ "الفئات الرّجعيّة المنهارة". وليس" الأدب الجديد" و"الطّليعي" في المحصّلة سوى" الأدب الواقعي" لاغير.
وتعبّر كلمة مصر في"مؤتمر الكتّاب العرب" الّتي كتبها عبد الرّحمان الشّرقاوي (ألقيت بالنّيابة) عن التّصوّر العامّ لرابطة الكتّاب العرب للعوامل الاجتماعيّة الّتي أنتجت ظاهرة" الأدب الجديد" أو "الوافعيّة" بما هي المعبّر الأكمل عن "الجديد" في فهم أعضاء الرّابطة ونورد من هذه الكلمة ما يلي:
"...في هذا الصّراع الطّويل الّذي عرفت مصر، ولد دائما الأدب الّذي يقف إلى جانب الشّعب. وفي هذا الصّراع الّذي اتّخذ طابعا جديدا في السّنوات الأخيرة ولد الأدب الجديد والفكر الجديد، وهما الأدب والفكر اللّذان أردتم أن يجتمعا إليكم هذا اليوم.
وأدبنا الجديد هونتاج للمعركة الفكريّة والسّياسيّة المتّصلة في بلادنا منذ أمد طويل.هذا الأدب الجديد قد وصل إلى مرحلة من التّقدّم والنّضوج.
تحكّمت الوظيفة الاجتماعيّة المباشرة للأدب إلى حدّ بعيد بطريقة فهم "مؤتمر الكتّاب العرب" ل( الطّليعة/الجديد/ الواقعيّة" وهي مفاهيم متداخلة في وعي المؤتمر")- ورأى المؤتمر أنّ طبيعة الأدب المقرّرة على أساس ذلك هي "الواقعيّة".غير أنّ فاعليّة الأدب وقيمته محدودتان هنا في إطار وظيفته الاجتماعيّة- السّياسيّة المباشرة.عبّر عن ذلك محمّد إبراهيم دكروب سكرتير تحرير مجلّة" الثّقافة الوطنيّة" بقوله:
"كانت جبهة الشّارع تصارع الاستعمار ثمّ كانت جبهة ثانية يخوض فيها أدباء الطّليعة معركة أخرى هي معركة الأدب الجديد: بدأت في مصر بين أدباء الطّليعة وأدباء القديم الّذين جمدوا فتنكّر أكثرهم لدوره الكبير الّذي أدّاه في المرحلة الماضية للأدب، وحاول البعض منهم أن يقف في وجه التّطوّر دون وعي أنّ العجلة الكبرى لاتقف مهما وُضعت أمامها العراقيل... وبدا واضحا أنّ أدب اليوم هو أدب الفئة التّقدّميّة الواعية الّتي ارتبط نبض إبداعها بحركة الجماهير. فإذا إمكاناتها تتصاعد مع تصاعد هذه الحركة الجبّارة".
وقد ورد في رسالة "كتّاب مصر الأحرار" إبّان الديكتاتوريّة العسكريّة المباشرة لحركة 23 تموز 1952 "الشّعبويّة" ما يشي صراحة بالمعنى السّياسي الأوضح لمفهوم "الأدب الجديد":
" إنّ معركة الأدب، بناء مقوّمات الأدب الجديد ونشره والدّفاع عنه هي جزء لا يتجزّأ من معركة الدّفاع عن حرّية شعوبنا وعن السّلام العالمي. معركتنا ضدّ الاستعمار وأذنابه وصنائعه العسكريّين والمدنيّين. هذا هو المفهوم والمضمون الجديد للأدب عندنا وفي كلّ مكان".
تميّزت بحوث "المؤتمر" بالاحتفاليّة، ونستثني منها بحث " غائب طعمة فرمان" الّذي بقدر ما كان أسير المعايير السّائدة لمفهومي "الواقعيّة" و"الجديد" في الخمسينات فإنّه حاول أن يفهمهما على نحو عميق مشبع بالاستيعاب النّظري لمفهوم "الواقعيّة"نفسه كوحدة نظريّة مستقلّة نسبيّا عن المفاهيم الإيديولوجيّة المباشرة.
حمل بحث غائب طعمة فرمان عنوان" قضايا الأدب الجديد"، ويرادف "الأدب الجديد" هنا ما يسمّيه فرمان ب"الواقعيّة الحديثة".
ونقتطف من هذا البحث الفقرات التّالية:
" إنّ الشّيئين الأساسيّين في الأثر الفنّي هما "المضمون و الشّكل أو كما يسمّى في بعض الأحيان "الواقعيّة" و"الجماليّة". والمضمون مجموعة متداخلة من العواطف والميول والانطباعات والأفكار والإيحاءات متّخذة مظهرا تدركه الحواسّ يُسمّى "الشّكل" وهو الهيكل الّذي يتجسّم فيه المضمون، إلاّ أنّ نقّاد المدرسة الواقعيّة الحديثة يعترفون سلفا بأنّ هذا التّقسيم للإنتاج الأدبي نظريّ محض، وبأنّ الشّكل والمضمون في وحدة تامّة لا يمكن فصلهما إلاّ نظريّا. لهذا فقد هاجموا الشّكليين لأنّهم فصلوا بين المضمون والشّكل، واهتمّوا بالشّكل أكثر من اهتمامهم بالمضمون وكأنّ الشّكل يستطيع أن يمحو خطايا المضمون، ويذيب رجعيّته".
"وتشير الواقعيّة الحديثة إلى مظهرين من مظاهر ارتباط الشّكل بالمضمون: أوّ لهما أنّ الأشكال تتطوّر بتطوّر الأفكار والعواطف أو بتطوّر الحيز الزّمني والتّاريخي لمجتمع ما. فالكاتب حين يجد مضمونا جديدا أو واقعا جديدا يحسّ بضرورة تطوير شكل تعبيره لاستيعاب هذا المضمون، يبتدئ بمحاولات لتغيير الشّكل".
" المشكلة الّتي تصادف الأديب في أكثر الأحيان هي عدم إصلاحيّة الأشكال القديمة لإظهار المضمون الجديد، ومن هنا يبدأ التّجديد في الأشكال الفنية وفي أساليب التّعبير.
" فالمضمون هو الّذي يحدّد الشّكل باختيار شكل آخر ملائم له، ولا يجري ذلك بطريقة ميكانيكيّة موضوعة... فإنّ اختيار الشّكل الملائم للمضمون جزء أساسيّ من عمليّة الخلق الفنّي، أي أنّه يرجع إلى إمكانيّة الكاتب، وقابليّته على خلق شكل يخدم مضمونه وينسجم معه..."
" أمّا المظهر الثّاني لارتباط المضمون بالشّكل فهو أنّ اللّفظ ليس شكلا فقط ولكنّه مضمون أيضا لما يوحيه للسّامع أو للقارئ من فكر أو شعور أو انطباع أو إيحاء. وحين يصبح اللّفظ شكلا فنيّا أي داخل عمل فني فإنّ مضمونه يتوضّح ويتحدّد بوضع اللّفظ اللّغوي".
" القصصيّون الّذين يلجؤون إلى بثّ أفكار مجرّدة بصورة دعاية مكشوفة أو تحيّز واضح لايمكن أن توصف كتاباتهم بأنّها فنّ، فإنّ إدراك الحقائق الاجتماعيّة شيء ووضع رواية فنية تهدي القارئ بصورة غير مباشرة إلى مثل هذه الحقائق شيء آخر... وكلّ تحيّز في رواية ما يأتي بصورة حماس مقحم يكون عندذاك بمثابة ورم يصيب التّركيب الفنّيّ للرّواية".

المصادر: وثائق وبحوث "مؤتمر الكتّاب العرب"
مجلّة "الثّقافة الوطنيّة"، العدد 64 ،15 ت 1954.
إبراهيم العثماني (تقديم وإعادة نشر)

* أخذنا هذه الوثيقة من "قضايا وشهادات"، كتاب ثقافي دوري، عدد3 شتاء/1991، مؤسّسة عيبال للدّراسات والنّشر، قبرص/ نيقوسيا ص ص 226-229.