الجامعة التّونسيّة بين مطرقة السّلفيّين وسندان النّهضة


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7374 - 2022 / 9 / 17 - 16:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

مـــــــــــــــقدّمة:

تعيش الجامعة التّونسيّة هذه الأيّام حالة ارتباك خطيرة لا مثيل لها وتتواتر الأخطار المحدقة بها وتتّسع رقعتها، وتتنوّع مضامينها وتتعدّد الأطراف المسؤولة عنها. ومن المؤسف والمؤلم في آن واحد هو أنّ رياح الثّورة لم تخلّصها من سلبيّات الماضي بل عقّدت أوضاعها وزادتها وهنا. ويتجلّى ذلك في أكثر من مستوى.

1 – الحرّيات الأكاديميّة في خطر:

يبدو أنّ وضع الحرّيات الأكاديميّة سيزداد سوءا إن لم تتظافر جهود الجامعيّين في التّصدّي للمتطفّلين على الجامعة والسّاعين إلى تغيير وظائفها وتطويعها لخدمة رؤية لا تمتّ بأيّ صلة إلى الواقع. ولكن قبل أن نستعرض بعض الأمثلة يجدر بنا أن نعرّف بهذه الحرّيات:
تضمّنت التّوصية الصّادرة عن اليونسكو بتاريخ 11 نوفمبر1997 تعريفا للحرّيات الأكاديميّة جاء فيه ما يلي:أ/على كلّ دولة أن تؤمّن ممارسة الحرّيات الأكاديميّة أي أن تؤمّن:ب/ حرية التّدريس والنّقاش بعيدا عن أيّ إكراه عقدي ج/حرية إنجاز البحوث وتوزيع نتائجها ونشرها د/ حقّ المدرّسين في التّعبير عن آرائهم بكلّ حرية بشأن المؤسّسة الّتي ينتمون إليها أو المنظومة الّتي يمارسون في نطاقها مهامّهم ه/حقّ المدرّسين في عدم الخضوع لرقابة المؤسّسة وفي المشاركة، بكلّ حريّة، في أنشطة المنظّمات المهنيّة أو المنظّمات الأكاديميّة الممثّلة والنّفاذ إلى المكتبات الّتي تمتلك توثيقا محيّنا وغير الخاضعة لأيّ رقابة أو عائق ذي طابع فكري...إلخ.
تلك هي أهمّ بنود هذه الوثيقة. فكيف تصرّف السّلفيّون مع الجامعة؟
يبدو أنّ التيّارات الدّينيّة المتطرّفة على عجل تريد أن تسابق الزّمن وتفرض تصوّرها على الجامعة لعلّها تحقّق مكاسب قد تثبّتها لاحقا. فقد استغلّت استقالة الحكومة وتخلّي وزارة الإشراف عن حماية المؤسّسات الجامعيّة من الأخطار المحدقة بها، وسعت إلى هتك الأعراف الجامعيّة وفرض سلطتها. فقد هاجمت يوم 15 نوفمبر 2011 مجموعة من الطّلبة الملتحين أحد أقسام المعهد العالي للفنون والحرف بالقيروان وهدّدت أستاذة بالقتل بسبب منسوجات للوحات ميكائيل أنجلو وطلبت منها الإعلان عن إسلامها بنطق الشّهادة متحجّجة بأنّ هذه اللّوحة تمسّ من عقيدتهم كطلبة. وفي 19 نوفمبر 2011 كُتبت على الجدار الخارجي لمبنى المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس رسالة تهديد للطّلبة بدعوى أنّهم كفرة. وفي 1/12/2011 ادّعى 30 شخصا أنّهم ينتمون إلى قطاع المحاماة واقتحموا مدرّج الفرنسيّة بالمعهد الأعلى لتقنيات الدّراسات في الإنسانيّات بقفصة ومنعوا أحد الأساتذة المحاضرين من تقديم محاضرة لفائدة طلبة اللّغة والآداب الفرنسيّة.
ويزداد الأمر خطورة عندما يشارك بعض الأساتذة في هذا الانفلات ويتجاوزون الدّور الّذي أوكل إليهم والمهمّة الّتي أنيطت بعهدتهم فيقوموا بالدّعاية المجانيّة والرّخيصة لحركة النّهضة. فقد أوردت جريدة"الصّباح الأسبوعي" بتاريخ 26/12/2011 في صفحتها التّاسعة نسخة مصوّرة من مادّة الامتحان الّتي قدّمتها أستاذة أو أستاذ الفرنسيّة إلى طلبة السّنة الثّانية بالمعهد التّحضيري للدّراسات الهندسيّة بالمنار يوم 12/12/2011 وموضوعها الثّناء على الانتخابات الّتي فازت فيها النّهضة، ودور الإسلام في تحقيق الدّيمقراطية ونجاح تونس في تحقيق أوّل ديمقراطيّة إسلاميّة في العالم العربي . ومن ثمّ أصبح الامتحان دعاية مجانيّة لحزب سياسي وحدث ما لم يحدث في عهد الزّين. ذلك أنّ مثل هذه الدّعاية المبتذلة تقع في المدارس الابتدائيّة والمعاهد الثّانويّة ولا تقع في الجامعة. والأمرّ والأدهى من كلّ ذلك مطالبة رضا بلحاج/حزب التّحرير في أحد البرامج التّلفزيّة بضرورة تغيير البرامج الّتي تدرّس في الجامعة.
وهكذا أصبحت مقاييس أخلاقيّة وعقديّة وإيديولوجيّة بعيدة عن الموضوعيّة تتحكّم في الدّرس وصار منطق الحلال والحرام والمباح والمحظور هو المنطق السّائد، وأضحت مصادرة الدّرس حينا والانسياق وراء التّعصّب الأعمى حينا آخر أمرا عاديّا، ولم يعد الأستاذ سيّد الفصل لارقيب عليه إلاّ ضميره ومصلحة الطّالب.
إنّ ما أتته هذه التيّارات الغريبة عن الواقع والعصر والجامعة هو أمر مناف لبنود اتفاقيّة اليونسكو، وهو تدخّل سافر في شؤون الهياكل المسيّرة للمؤسّسات الجامعيّة الّتي تسطّر برامج التّدريس وتقرّر المسائل الّتي تراها ملائمة للّحظة ولمستوى الطّلبة، والّتي تصدّت فيما مضى لكلّ من أراد أن يتدخّل في شؤون الجامعة. فهل يبدو زحف الظّلام متّجها نحو الجامعة؟

2 – استباحة حرمة الجامعة:

لقد تمّت استباحة حرمة الجامعة فيما مضى من قبل البوليس السّياسي والأمن الجامعي للتّضييق على النّشاط النّقابي، والوشاية بالمناضلين واعتقالهم والزّجّ بهم في السّجون كلّما حدثت تحرّكات طلاّبيّة أو تواترت الإضرابات. وما إن تمّ تركيز الأمن الجامعي حتّى رفع الطّلبة والأساتذة الجامعيّون شعار" لا دراسة مع الحراسة ولا تدريس مع البوليس". ومن مزايا الثّورة أنّها خلّصت الجامعة من هذا الجسم الغريب عنها. لكن هذه التيارات الدّينيّة المتطرّفة استغلّت مناخ الحريّة الّذي أصبح سائدا هناك فاقتحمت هذه الفضاءات وحاولت فرض سلطتها على الأساتذة والطّلبة وكأنّها تريد أن تعوّض الأمن الجامعيّ بجماعاتها. ففي سوسة اقتحم كلية الآداب يوم 6 أكتوبر جزّار بحيّ الرّياض وإمام جامع وعنصر من منظّمة" حرية وإنصاف" وجاؤوا جميعهم لنصرة طالبة منقّبة منعتها الإدارة من التّسجيل، وفي منّوبة اعتصمت في كلية الآداب والفنون والإنسانيّات مجموعة غريبة عن الكلية مدّعية أنّها جاءت لنصرة طالبة منقّبة مُنعت من إجراء الامتحان فعطّلت السّير العادي للدّروس وأهانت العميد وإطار التّدريس وأصبحت الآمر النّاهي بل أضافت إلى مطلب النّقاب مطالب أخرى من قبيل بناء مصلّى والفصل بين الطّلبة والطّالبات وتدريس الأستاذات الطّالبات والأساتذة الطّلبة. ولم تجد المنقّبات من حركة النّهضة إلاّ الدّعم الصّريح تارة والضّمني طورا والادّعاء بأنّ الحداثييّن هوّلوا المسألة على بساطتها.
لقد وتّرت هذه الأحداث الأجواء الجامعيّة وأشاعت حالة من القلق وقسّمت الطّلبة وألهتهم عن تحصيل المعرفة وازدادت الحياة الجامعيّة تعقيدا بمساهمة عناصر من النّهضة في هذا الارتباك بطريقة أخرى.

3 – الإدارة في خدمة النّهضة:

عندما تعمي المسؤوليّة بصيرة الإداريّين وتحجب عنهم الواقع يتمادون في غيّهم ويفضّلون مصلحتهم على مصلحة المؤسّسة خدمة لمآرب حزبيّة ضيّقة. وتقوم مديرة المعهد التّحضيري للدّراسات الهندسيّة ببنزرت شاهدا على ذلك. فقد وتّرت الأجواء داخل المؤسّسة وشقّت صفوف الطّلبة وأضاعت مصلحتهم فاضطرّ أساتذة المعهد إلى شنّ إضراب مفتو ح مطالبين باستقالتها من إدارة المعهد متّهمين إيّاها بعدم القدرة على التّسيير وتأليب العملة عليهم. ومن ثمّ تعطّلت الدّروس الأسبوع الأخير قبل العطلة، واستمالت المديرة الطّلبة الإسلاميّين إلى صفّها وراحت تجتمع بهم بحكم انتمائها إلى النّهضة ( انظر جريدة" الصّباح الأسبوعي" بتاريخ 26/12/2011 ص 15). إنّ مثل هذه النّماذج تشكّل خطرا على الجامعة .فهي عنصر فرقة وتشتيت وليست عنصر تجميع بل لاتحترم عامل الزّمالة ولاتفكّر في مصلحة الطّلبة.

خاتمــــــــــــــــة:

إنّ استعراضنا لهذه الأمثلة يؤكّد أنّ الجامعة التّونسيّة تمرّ بمنعرج خطير وتعيش فترة من أحلك فترات تاريخها، وتتجاذبها تيّارات غير مسؤولة قد تفقدها ما بقي لها من دور بعد أن أنهكتها سياسات العهد البائد وأفقدتها الكثير من إشعاعها، وإنّ الدّفاع عن الحرّيات الأكاديميّة وحمايتها من الممارسات الخرقاء والتّجاوزات الخطيرة وتحييدها عن التجاذبات المذهبيّة المضرّة بها من أوكد المهام الّتي تطرح على الأساتذة والمجالس العلميّة والهياكل النّقابيّة، وإنّ تكريس استقلاليّة الجامعة عن التيّارات السيّاسيّة وأساسا التيارات المتغلّفة بالدّين أمر ضروريّ الآن وقبل فوات الأوان.
2011