العمل النّقابي في الجامعة التّونسيّة والإضافة النّوعيّة


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7336 - 2022 / 8 / 10 - 02:59
المحور: الحركة العمالية والنقابية     

مقـــــــــــدّمة:

إذا سلّمنا بأنّ العمل النّقابي، في أبسط أشكاله، هو الدّفاع عن العمّال بالفكر والسّاعد، والسّعي الدّؤوب إلى تحسين أوضاعهم الماديّة والمعنويّة، وإذا أقررنا بأنّ هذه المهمّة مشتركة بين جميع النّقابات مهما كانت طبيعة قياداتها وانتماءاتها الحزبيّة وخلفيّاتها الإيديولوجيّة ومواقفها السّياسيّة فإنّ ما يميّز نقابة عن نقابة ليس الالتزام بهذا الدّور البديهي وتكريسه الفعلي وإنّما تجاوزه وابتداع أشكال نضاليّة خلاّقة تجعلها نقابة متفرّدة ومثالا يُحتذى. وقد وُفّقت النّقابة العامّة للتّعليم العالي ثمّ الجامعة العامّة وهياكل القطاع في أن تزاوج، في لوائحها وبياناتها ومواقفها وممارساتها، بين ما هو مشترك وما هو متميّز. وثمّة تكمن الإضافة الّتي قدّمها العمل النّقابي في الجامعة إلى الحركة النّقابيّة في تونس. وهي إضافة متعدّدة الأوجه، جمّة الفوائد وغزيرة المنافع. وسنقتصر على ذكر البعض منها.
1-الإضراب الإداري:
التجأت الحركة النّقابيّة في تونس إلى توظيف أشكال نضاليّة مختلفة احتلّت الإضرابات بينها موقعا متميّزا فتنوّعت أشكالها واختلفت أحجامها وتباينت مُددُها منذ أن شنّ أساتذة التّعليم الثّانوي أوّل إضراب في الوظيفة العموميّة يوم 28جانفي 1975. ومنذ ذلك التّاريخ جرّبت الحركة النّقابيّة الإضرابات المهنيّة والإضرابات السّياسيّة، وزاوجت بين الإضرابات القانونيّة والإضرابات الفوريّة، وطوّرت ضروب الاحتجاج من حمل الشّارة الحمراء إلى الإضراب العام. لكنّ الإضراب الإداري ظلّ الاستثناء. فهو يُخيف النّقابيّين إخافته الأساتذة، ويثير خشية قيادة الاتّحاد إثارته خشية السّلطة الحاكمة. لذا يتهيّب البعض الخوض فيه ويُهوّل مضاعفاته، ويكتفي البعض الآخر بالتّهديد به دون أن يجرؤعلى تنفيذه.
وقد اضطرّ قطاع التّعليم العالي إليه اضطرارا في ماي 2005 لأوّل مرّة في تاريخ الحركة النقابيّة في تونس بعد أن استعصى على النّقابة العامّة حمل الوزارة على فتح باب التّفاوض الجدّي مع ممثّل الأساتذة الشّرعي، والاستجابة لمطالبهم المجمّدة منذ سنوات، والكفّ عن التّدخّل في شؤون القطاع واحترام استقلاليّة القرار النّقابي في الجامعة.
وتمثّل الإضراب الإداري في تطبيق جملة من الضّوابط حدّدتها النّقابة العامّة كما يلي:
1-عدم تسليم إصلاح الامتحان وجدول إسناد الأعداد
2-عدم تسليم أعداد المراقبة المستمرّة
3-عدم دعوة المشرفين على دروس الفرق البيداغوجيّة إلى الاجتماع أو الامتناع عن حضورها
4-عدم حضور اجتماعات رؤساء لجان الامتحانات
5- عدم المشاركة في مداولات لجان الامتحان في صورة انعقادها (النّقابة العامّة للتّعليم العالي والبحث العلمي: توضيح حول الإضراب الإداري- تونس في 11 ماي 2005).
أنجزأساتذة التّعليم العالي إذن ولأوّل مرّة إضرابا إداريّا والتزم بتنفيذه عدد معيّن منهم. فارتبك سير الامتحانات وظروف الإصلاح والنّتائج وميقات دورة التّدارك، ودفع وزارة الإشراف إلى خرق القوانين الّتي سنّتها هي بنفسها، وتبيّن أنّها مستعدّة لعدم احترام أيّ شيء وبذلك ذلّل هذا القطاع عقبة كأداء، وتجاوز مرحلة التّردّد، وكسّر حاجز الخوف وأضاف شكلا نضاليّا جديدا قد تتطلّب الظّروف استعماله مرّة أخرى. وقد تفتّق خيال وزارة الإشراف على حلّ عجيب غريب تمثّل في عقوبة جماعيّة أي خصم أجور 600 أستاذ تنكيلا بهم وتشفّيا منهم و"عبرة لمن يعتبر". وهي عقوبة تحدث لأوّل مرّة وتمثّل إضافة نوعيّة تُحسب للوزارة.
ولئن لم يُثن هذا الإضراب وزارة الإشراف عن التّراجع عن موقفها المتصلّب ولم يقنعها بالتّفاوض الجدّي فإنّ ممارسة هذا الشّكل النّضالي برهن على جرأة هذا القطاع وعلى قدرته على استنباط أشكال نضاليّة تستجيب للظّرف وتترجم تمسّك الأساتذة بمطالبهم.
وقد ينتقل البعض من الإضراب الجماعي إلى الإضراب الفردي عندما تنتفي لغة الحوار وتنسدّ الآفاق وتهون على الإنسان التّضحية.

2- الأستاذ رشيد الشّملي وإضراب الجوع:
يتطلّب إضراب الجوع الجرأة والإقدام والتّضحية. فليس كلّ إنسان قادرا على الدّخول في إضراب جوع ليوهّن صحّته، ويعرّض حياته للخطر ويلقي بنفسه إلى التّهلكة. والدّوافع الّتي تقود البعض إلى شنّ إضراب جوع قد تكون مهنيّة أو سيّاسيّة أو تضامنيّة.
إلاّ أنّ إضراب الأستاذ رشيد الشّملي المدرّس والباحث بكلية الصّيدلة بالمنستير فريد من نوعه بكلّ المقاييس. فهو أوّل إضراب يُشنّ في قطاع التّعليم العالي ويتّخذ هذا المنحى ويكتسب هذه الأبعاد. ذلك أنّ الأستاذ الشّملي لا يبتغي جزاء ولا شكورا. فقد أضرب حبّا للعمل وتفانيا في الإخلاص له. فهو يحبّ البلاد ويغار على طلبته غيرته على أبنائه، ويحرص على تلقينهم المعرفة حرصه على تدريبهم على البحث، ويناهض الجهل مناهضته التّفرّد باتّخاذ القرارات الاعتباطيّة.
لقد دفعته كلّ هذه القيم والمبادئ النّبيلة إلى شنّ إضراب جوع امتدّ من غرّة مارس 2007 إلى 28مارس من نفس الشّهر فصام عن الطّعام طوال هذه الفترة ولم يتغذّ إلاّ بحبّ البلاد. وقد علّل دوافع هذا الإضراب بعوامل شتّى من بينها ما قاله في ندوة صحفيّة:
1-" تمكيني من مواصلة إنجاز مشروع حديقة النّباتات الطبيّة نظرا لحاجة الطّلبة الملحّة إليها بل وتعتبرمن ضرورات الصّيدلة، وهي متوفّرة في جلّ كلّيات الصّيدلة بالعالم مع العلم وأنّني انطلقت في تأسيس هذا المشروع منذ سنة 1986. وقد تمّ دعمه من طرف الكلية وتمويله. لكن وفي سنة2003 أوقف عميد الكلية هذا المشروع بقرار فردي.
2- تمكيني من مواصلة تنظيم الدّروس ما بعد الجامعيّة الّتي انطلقت ببادرة شخصيّة منّي منذ سنة 1990. وقد استمرّت بدون انقطاع إلى حدود سنة 2004 حين أوقفها العميد بقرار فرديّ ودون استشارة المجلس العلمي للكلية" (الجامعي- نشريّة داخليّة تصدرها الجامعة العامّة للتّعليم العالي والبحث العلمي- العدد13-مارس/أفريل2007 ص3).
إنّ إقدام الأستاذ الشّملي على شنّ هذا الإضراب من أجل طلبته وكلية الصّيدلة ومصلحة البلاد دليل على أنّ حبّ الوطن ليس كلاما إنشائيّا وخطبا تُلقى بمناسبات لاتثيرأيّ حماس ولا تستنهض أيّ همّة، وهو ليس أنشودة ممجوجة تصمّ الآذان بل هو فعل يوميّ يأتيه الإنسان أينما كان، وتضحية يُقدم عليها أنّى حلّ ونضال لايني.
إنّ توظيف مثل هذه الإضرابات يُعدّ أوّل ضرب من ضروب الإضافة، ولكنّه ليس الإضافة الوحيدة الّتي ميّزت القطاع، فالمساندة هي أيضا شكل آخر من أشكال الإضافة.

3- مساندة عميد كلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس:

اكتسب العمل النّقابي في المؤسّسات العموميّة والخاصّة طابعا مخصوصا منذ عقود. فانقسمت المؤسّسة إلى عالمين منفصلين لا تماسّ بينهما أثناء لحظات التّوتّر: عالم النّقابة والنّقابيّين من جهة، وعالم الإدارة ومن يدور في فلكها من جهة أخرى، وأضحت العلاقة بينهما قائمة على الحيطة والحذر إن لم تكن الخشية والرّيبة. وقد تتّسم بالتّشنّج والمجاهرة بمعاداة العمل النّقابي أحيانا. لذا ظلّ النّقابيّون ينادون بحماية المسؤول النّقابي ويطالبون الدّولة بتطبيق الفصل 135 من الاتّفاقيّة الدّوليّة للشّغل.
وفي الوقت الّذي اعتادت فيه النّقابات إصدار اللّوائح والعرائض والبيانات المندّدة بسلوك الإداريّين والرّافضة لتعدّيهم على المسؤولين النّقابيّين والمنادية بحماية الحق النّقابي خرقت نقابات التّعليم العالي هذه القاعدة، وتجاوزت ثنائيّة إدارة/ نقابة وأحدثت بدعة محمودة. فقد أصدرت لأوّل مرّة بيانات تساند فيها عميد كلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس لمّا رفض الانصياع لأوامر وزيرالتّعليم العالي القاضية بتمزيق المعلّقات النّقابيّة وخرق القوانين المنظّمة للنّشاط النّقابي أثناء زيارة أدّاها الوزير مصحوبا بالسيّد العميد إلى برج زوارة التّابع للكلّية يوم الجمعة 30 مارس 2007.
لقد تقيّد السيد حميّد بن عزيزة بالقانون ودافع عن حرية العمل النّقابي من موقعه الجديد الّذي لم ينسه المبادئ والقيم الّتي تشبّع بها مذ كان طالبا، وخالف سنّة العمداء الّذين اعتادوا الاصطفاف وراء مواقف وزارة الإشراف بل وتطبيق أوامر أطراف لا تمتّ بأيّ صلة إلى المؤّسسات الجامعيّة.
وقد كان لموقفه صدى إيجابي في أوساط الأساتذة النّقابيّين إذ ذكّرهم موقف الوزير بمواقف مناهضة للعمل النّقابي تُطلّ عليهم برؤوسها من حين لآخر قبل هذه الحادثة وبعدها. فهؤلاء عمداء يتفنّنون في عرقلة العمل النّقابي وتعسيره. وهذا مسؤول يستعيض عن الكلام ب"البونية". وذاك نقابيّ قديم استأسد في منع أي نشاط نقابي بعد أن تعرّض لعمليّة مسخ حوّلته إلى مسؤول إداري. وفي عاصمة الفاطميّين بقدر ما تشيّع الكاتب العام للاتّحاد الجهوي للعمل النّقابي فتفقّد الأساتذة المضربين يوم 5أفريل2007 اعتصم الكاتب العام لكلية الاقتصاد بحبل العنف المادّي واللّفظي والمنع والدّفع. أمّا رباط المنستير فيرابط فيه عمداء المؤسّسات الجامعيّة لحماية قلاع المعرفة من" لوثة النّقابة فيدرؤون عنها الخطر قبل أن يتسرّب إلى جسدها فيفسده".
فتحيّة شكر إذن للسيد العميد الّذي ضرب موعدا مع الشّجاعة في الحق وفي احترام القانون الّتي يفتقر إليها الكثير من زملائه الّذين تنعقد ألسنتهم أمام سادتهم وتنطلق في وجوه النقابيّين فتمطرهم بوابل من العنف اللّفظي والمادّي. لذا لا عجب إن عبّرت البيانات النقّابيّة والعرائض الصّادرة عن النّقابات الأساسيّة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس وكلية الآداب بمنوبة وكلية 9 أفريل والجامعة العامّة للتّعليم العالي عن تضامنها مع السيد العميد وتقديرها للجهود الّتي يبذلها لضمان حسن سير العمل بالكلية رغم صعوبة الظّرف.
وقد تتجاوز هذه المساندة أسوار الجامعة لتطال مناضلين في قطاعات أخرى.

4- مساندة راضية النّصراوي في إضرابها المفتوح عن الطّعام:

إنّ المتأمّل في لوائح المؤتمر الثّامن للنّقابة العامّة للتّعليم العالي المنعقد بأميلكا ر يوم 14 جوان 2003 يلاحظ أنّها لم تقتصر على المطالب المهنيّة والمشاغل اليوميّة، ولم تنعزل في بوتقة قطاعيّة ضيّقة. فقد طالب المؤتمرون"باحترام حرية الرّأي والتّفكير والتّنظيم وحرّيّة الإعلام واستقلاله وبحماية الحق النّقابي في المؤسّسات الخاصّة والعموميّة وباتّخاذ الإجراءات الضّامنة لاستقلال القضاء..." (انظر اللاّئحة العامّة)، وبذلك تفطّنوا إلى حلقة مفقودة في نشاط الهياكل النقابيّة ألا وهي الرّبط بين النّضال الاجتماعي والنّضال السّياسي. وقد عملت النّقابة العامّة على تكريس هذه القناعة بعد مضيّ أشهر قليلة على انتخابها وذلك بمساندة الأستاذة راضية النّصراوي الّتي شنّت إضرابا عن الطّعام في شهرأكتوبر2003 احتجاجا على المحاصرة الّتي تعرّضت لها أشهرا وأشهرا أثناء عملها، ومراقبة مكتبها، والضّغوط المسلّطة على حرفائها لحملهم على التّخلّي عنها ومحاولة فرض عزلة عائليّة عليها، ومراقبة لصيقة لمسكنها... ومن ثمّ سعت النّقابة العامّة إلى إرساء تقليد جديد يتشابك فيه النّقابي مع السّياسي وتتضامن فيه القوى المناضلة على اختلاف مواقعها.
لقد كانت النقابة العامّة النّقابة الوحيدة الّتي ساندت الأستاذة النّصراوي في ذلك الظّرف وشدّت أزرها تقديرا للدّور الكبير الّذي اضطلعت به أثناء دفاعها عن مساجين الرّأي والنّقابيين خلال محاكمات جائرة وصوريّة. ويبدو أنّ هذا الموقف قد وجد هوى في نفوس مناضلين شتّى. فقد سارعت هذه المرّة الأحزاب السيّاسيّة والمنظّمات الحقوقيّة ومختلف هياكل المجتمع المدني إلى مساندة احتجاجات الحركة الاجتماعيّة ودعم نضالاتها من اعتصامات في بوحجر وإضراب عن الطّعام في المكنين وتحرّكات في سوسة وتونس وبنبلة سنة2005.
ولا يتوقّف العمل النّقابي في الجامعة عند هذا الحدّ فنجده يركّز على الحريات الأكاديميّة.

5- الحرّيات لأكاديميّة:

لأوّل مرّة تُطرح قضيّة الحرّيات الأكاديميّة بمثل هذا العمق وهذه الحدّة في آن واحد. فقد أصبحت مسألة تشغل بال النّقابيّين والأساتذة على حدّ سواء، وتُثير أسئلة حارقة وملحّة دون أن تجد أجوبة شافية كافية. ذلك أنّ حرية البحث العلمي والنّشاط الفكري وتنظيم النّدوات واستقلاليّة الجامعيّين في اختيار مواضيعها والعناصر المشاركة فيها هي من المسائل الّتي لا تقبل النّقاش. وهي حقّ حدّدته منظّمة اليونسكو منذ سنة 1997 وليست خاضعة لأهواء أي كان. ولكن أمام التّضييقات على تظاهرات علميّة والمنع لمتكرّر لعدّة ندوات ( منع مائدة مستديرة بكلية الآداب بصفاقس حول الحريات الأكاديميّة والحق النّقابي، منع انعقاد ندوة مهداة إلى الأستاذ عبد المجيد الشّرفي بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس، امتناع نزل بسوسة عن احتضان ندوة حول المرأة والتّشريع دعت إليها وحدة بحث بكلية الآداب بسوسة فانعقدت بالكلية...)، والاعتراض على مشاركة أساتذة لا يُنظر إليهم بعين الرّضا أصبحت الحرّيات الأكاديميّة مهدّدة بخطر الشّلل الّذي صحّر الحياة الثّقافيّة والفكريّة في البلاد وأفقد الجامعة استقلاليّتها في تسيير شؤونها. وقد نبّه النّقابيّون على تجاوز وزارة الإشراف القوانين المنظّمة للحياة الجامعيّة، وتضايقها من أيّ نشاط مستقلّ ومراقبته قبل إنجازه، والسّعي إلى عرقلته.

خاتمـــــــــة:
تلك هي بعض الإضافات الّتي أغنى بها قطاع التّعليم العالي الحركة النقّابيّة بتونس في فترة وجيزة فأصبحت دروسا تُستوحى منها العبر وتستفيد منها القطاعات الأخرى. وهي دروس قابلة للإغناء والتّعميق والتّوظيف الخلاّق.
كُتب في شهر ماي 2007