غسّــان كـــــــنفاني يتـــــــكلّم


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7343 - 2022 / 8 / 17 - 14:46
المحور: الادب والفن     

مقـــــــــدّمة:

كثيرا ما تستحيل كتابات الشّهداء علامات تضيء دروب الشعوب المكافحة في سبيل استقلالها، ومنارات تنير لها سبل الخلاص من الاستعباد وترشدها إلى أقوم السبل الموصلة إلى شاطئ الحرية، وكثيرا ما تُتخذ مادّة للدّرس والتّمحيص لاستخلاص العبر والفكر. وقد يكون هذا الشهيد / الرّمز قائدا ميدانيا أو شاعرا ملتزما أو شخصية فذّة جامعة شاملة تُبدع وترسم، تُنظّر وتناضل، تُحرّر البيانات السّياسية التي تناهض العدوّ المغتصب للأرض والمشرّد للعباد وتكتب الافتتاحيات الصُّحفية التي تُلهب حماس الجماهير المستعدّة للتضحية. وغسّان كنفاني هو واحد من هؤلاء المثقفين الوطنيين الّذين آثروا أوطانهم على أنفسهم ونذروا حياتهم لها. وبقدر ما كانت حياته قصيرة (1936–1972) كانت ثريّة وغنيّة إذ امتهن التّدريس والعمل الصّحفي، وكتب القصّة والرّواية والمسرحيّة، وجرّب أجناسا أدبية غير مألوفة من نحو اليوميّات والرسائل، وكانت له إسهامات نقديّة طريفة ومتميزة. وقد تفاعل غسّان مع الواقع المعيش فلسطينيا وعربيّا بكلّ تعقيداته وتناقضاته تفاعلا خلاّقا فكان إنتاجه خصبا وعطاؤه غزيرا. لذا حظي إبداعه بالنقد والبحث والدّرس، وأُلّفت في شأنه مؤلفات شتّى تناولته من زوايا مختلفة، وحُوّلت بعض الرّوايات إلى أشرطة سينيمائية (1) ، ومُثّلت بعض مسرحياته (2)، واحتفى به المثقّفون مشرقا ومغربا.
وقد آثرنا أن نقف، من ناحية، على آرائه النقدية في إبداعه وننظر في كيفية تقويمه لبعض نصوصه ونستصفي، من ناحية أخرى، صورته معتمدين على حوارات وكتابات قلّما التفت إليها النقاد والدّارسون على أهميّتها وأهميّة دورها في تسليط الضوء على زوايا مجهولة من تفكيره وحياته.

I –مرجعيات الكتابة عند غسّان كنفاني:

يُعد تحديد مرجعيات الكتابة من أهمّ المباحث التي اهتمّ بها النقاد والدّارسون لتبيّن الخلفية التي توجّه الاختيارات الفنية للكتّاب وتقودهم في تبني جملة من المقوّمات الجمالية وتدعّم منحاهم الفكري. وهناك سبيلان يوصلان الناقد إلى معرفة هذه المقومات التي تسم هذه الكتابات بميسم مخصوص. فقد ينطلق الناقد من إنتاج الأدباء لاستجلاء هذه الخصائص، وقد يعتمد على حواراتهم وكتاباتهم المنشورة هنا وهناك لمعرفة ذلك. وستكون حوارات غسان وآراؤه عمدتنا

1- علاقة الواقع بكتابات غسان كنفاني:

ليس الأدب عند غسان كنفاني تَرفا أو زُخرفا لفظيّا أو لعبة شكليّة أو تقليدا لنماذج جُرّبت في أصقاع أخرى. فالأدب عنده مسؤولية والتزام والأديب مطالب بالاضطلاع بدوره في الواقع الذي يتحرك فيه ويتأثّر به، وهو مطالب أيضا بالانطلاق منه ليؤثر فيه ويغيّره نحو الأفضل خاصة عندما يكون هذا الواقع معقّدا مثل الواقع الفلسطيني الذي اُبتُلي بمحنة لا مثيل لها وظلّ يحتاج إلى آراء وتصوّرات مثقفيه العضويين القادرين على توضيح الرؤى الغامضة والأفكار الملتبسة، وإلى طاقات أبنائه المناضلين. لذا يعترف غسان بتأثير الواقع في أدبه فيقول:"أظنّ أنّ التأثير الأكبر على كتاباتي يرجع إلى الواقع نفسه:ما أشاهده، تجارب أصدقائي وعائلتي وإخوتي وتلامذتي، تعايشي في المخيمات مع الفقر والبؤس، هذه هي العوامل التي أثرت في"(3)
كانت فلسطين إذن المنطلق والمنتهى عند غسان ، منها يستلهم موضوعات كتاباته وإليها يعود حتّى استحالت المدار الذي يتحرّك فيه ولا يفارقه. ومن ثمّ يتجلّى مفهوم الالتزام عند ه. فقد تجاوز غسان المشاغل الذاتية والهموم الفردية وانفتح على عالم أكثر رحابة وأعمق غورا، عالم المخيّمات المعرّضة للرياح العاتية والبرد القارس، وعالم الأطفال الذين حرموا براءة الطفولة وزُجّ بهم في أتون الحياة القاسي لتحصيل قوتهم اليومي فينامون في الفصل ويعجزون عن تصوّر تفاحة عندما يرسمها لهم معلّمهم(4) ، وعالم التشرد الذي كان قدر العائلات الفلسطينية المنكوبة. وكل قصصه ورواياته تؤكد أن معينها هو الواقع الفلسطيني. ولعلّ أفضل مثال يُجسّد علاقة أدب غسّان بالواقع هو نصّ"أم سعد" الذي كُتب سنة 1969. فهو نص مقتطع من تربة فلسطين، قُدّت تفاصيله من معاناة الشعب ومكابدته المتواصلة ورُكّبت أجزاؤه من بطولاته اليومية. وفي مقال موسوم ب"غسان كنفاني...خواطر في ذكراه" يؤكد أحمد دحبور اعتراف غسان بأن أم سعد امرأة واقعية وليست من نسج خياله. يقول:"وقبل أن يغادر يعطيني نسخة من قصته " عائد إلى حيفا" ونسخة أخرى من قصّته " أم سعد " وهو يقول:اقرأ هذه...أظنّ أنّي فعلت شيئا...أم سعد امرأة عظيمة وسأعرّفك بها يوما ما... إنّها من ملح الأرض أيضا" (5).
وأم سعد هي فعلا امرأة واقعية عرفها غسان واختبر نفسيتها فتوطّدت علاقته بها حتى استحالت علاقة ابن بأمه، واكتسبت هذه المرأة أكثر من دلالة عنده، وأضحت معادلا للشعب/ البطل الذي لاينفد مخزونه النضالي والقادر وحده على ابتداع أشكال مقاومة متجدّدة. فمن هي أم سعد إذن؟
أم سعد هي"أم حسين أو آمنة أحمد ياسين الراوية الحقيقية في الرواية(6) وقد تحدّثت عن علاقتها بغسان قائلة:"عرفته شابا يبلغ من العمر حوالي 27 عاما. تنقلت معه بيوتا ثلاثة سكنها. ومنذ لقائنا الأول ارتبطنا بعلاقة عائلية حميمية. كأنّه كان ينقصني وكأنه كان يفتّش على أمه التي تسكن في الشام وصّتني به واعتباري أمّا ثانية له. الصدفة جمعت أواصر القربى بين غسان وبيني. فبين دارنا ودار غسان قرابة منذ كنا في فلسطين"(7) .
وتؤكد أم حسين أنّ رواية"أم سعد" مستوحاة من حياتها ومن سيرتها الذاتية ومن أخبار المخيّم التي زوّدت بها غسان. تقول:"وفي يوم ناداني غسان وبيده كتاب وقال:هذا الكتاب رواية أسميتها "أم سعد" وأم سعد هي أنت. ولكن حرصا عليك وعلى أولادك المنتمين إلى القيادة العامة استبدلت الاسم، اعتبريه هدية لك ولابنك حسين – أبو سلطان المسؤول العسكري في القيادة العامة- فرحت كثيرا بالكتاب رغم أنّني لا أعرف القراءة والكتابة. أطلعني ابني على محتوياته واحتفظت به لمدّة إلى أن أضاعته الأحداث في المخيم وقراءة الكثيرين له"(8).
هكذا تكون بعض الأحداث الفلسطينية أو الشخصيات البسيطة نواة عمل روائي ومنطلق نص سردي يصوغه غسان بأسلوبه المتميّز ويحوّله إلى رمز يتجاوز به ما هو محلّي وبسيط. وبإمكاننا أن نزعم أنّ قصصا كثيرة استوحاها غسان من وقائع يومية لأن أحداثها ورموزها ومناخاتها توحي بانتمائها إلى بيئة مخصوصة هي بيئة المخيم الفلسطيني والتشرد والمقاومة والحنين إلى الوطن والرّغبة في العودة إلى الأرض السليبة. ولو سئل غسان عن مناسبة كل قصّة أو رواية لروى حادثة واقعية.
وقد استن الكاتب طريقة في الكتابة مخصوصة تسمو بأدبه عن محلّيته وتجعله يرتقي إلى مصاف الأدب الكوني المشحون بالعواطف الإنسانية الجياشة التي تُضفي على القضية الفلسطينية- موضوع أدبه- بعدا إنسانيا يُحرّك مشاعر كل من يؤمن بعدالة قضايا الشعوب المضطهدة، ومن ثّمّ تمدّه هذه القضية بأدب إنساني وليس بأدب مناحة وعويل واستدرار مشاعر وعواطف، أدب تمّحي فيه المشاغل الضّيّقة والحدود المحلّية والقضايا الشوفينية. يقول:"وعندما أصوّر بؤس الفلسطينيين فأنا في الحقيقة أستعرض الفلسطيني كرمز للبؤس في العالم أجمع...إن ّقصصي لا تتناول الفرد الفلسطيني ومشاكله فحسب بل تتناول حالة إنسانية لإنسان يقاسي من المشاكل إيّاها"(9). لذا نستطيع أن نقول إن غسان نجح في إدانة أي قوة استعمارية من خلال إدانة العسف الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني كما نجح في إعلاء شأن أي شعب مناضل في سبيل تحرير وطنه من خلال الإشادة ببطولات الشعب الفلسطيني.
لكنّ الواقع وحده لا يصنع كاتبا ناجحا ولا ينتج كتابة خالدة. فلثقافة الرّوائي وكيفيّة توظيفها أثرهما في تلوين كتاباته.

2- أثر القراءات في كتابات غسان كنفاني:

إن الواقع ليس المرجع الوحيد الذي اتكأ عليه غسان واستلهم منه مادة نصوصه. فهناك روافد أخرى أسهمت في تلوين كتاباته ووسْمها بميسم مخصوص، ولا يقلّ تأثير القراءة، أحيانا، عن تأثير الواقع. وقد اعترف غسان كنفاني بأن الأدب السوفياتي نقل الواقع المحلي بطريقة جعلته يقرأ فيه الواقع الفلسطيني ويترجم له ما يحسّ به وما يعجز عن قوله فانشدّ إليه أيّما انشداد وأُعجب بالكتاب السوفيات أيّما إعجاب. يقول:"ربّما كان ولعي بالأدب السوفياتي عائدا إلى أنّ ذلك الأدب يُعبّر عمّا كنت أشاهده في الواقع، ويحلّله ويعالجه ويصفه"(10).
وقد قاده هذا الإعجاب إلى الاطلاع على الماركسية واستيعاب آليات تحليلها للظواهر الاجتماعية والسياسية رغم صغر سنّه وحداثة عهده بالقراءة. يقول:"وقد اطّلعت على الماركسية في مرحلة مبكرة من خلال قراءاتي وإعجابي بالكتّاب السوفيات"(11)
ولم يقتصر الأمر على القراءة فقد استحال الإعجاب تقليدا تجلّى في بناء بعض النصوص واستفادةً من بعض الأشكال الروائية الغربية. وهو تقليد لا ينفيه غسان بل يقرّه في آخر حديث إذاعي له حيث يؤكّد إعجابه بالكاتب الأمريكي الشّهير وليام فولكنار (1897 – 1962) قائلا:" بالنسبة لفوكنر أنا مُعجَب جدّا برواية "الصّخب والعنف"، وكثير من النقاد يقولون إن روايتي " ما تبقّى لكم" هي امتداد لهذا الإعجاب ب"الصّخب والعنف"، وأنا أعتقد أنّ هذا صحيح..أنا متأثّر جدّا بفوكنر...ولكن" ما تبقى لكم" ليست تأثّرا ميكانيكيا بفوكنر بل هي محاولة للاستفادة من الأدوات الجمالية والإنجازات الفنية التي حقّقها فوكنر لتطوير الأدب الغربي"(12)
هكذا يؤكّد غسان كنفاني أنّ أدبه تشكّل من عدّة روافد تجاورت فتفاعلت وتجادلت فانصهرت في بوتقة واحدة وأفرزت إبداعا يحمل طابعا متميزا وسمات فنية مخصوصة ويتدعّم أحيانا بمواقف سياسية قد تتوزع بين ثنايا النص.

3- الكتابة الروائية والموقف السياسي:

قد لا يكتفي الكاتب بإبراز الجوانب الإيجابية في إبداعه فنجده يتجاوز ذلك لكشف مظاهر التّقصير. ومن اللافت للانتباه أن يثير غسان قضيّة كان أنجلز ولينين قد أثاراها منذ عقود خلت وتتمثل في علاقة الكتابة الأدبية بالموقف السياسي والمفارقة بينهما أحيانا. فقد استنتج أنجلز أن مواقف بلزاك الأدبية متطورة عن مواقفه السياسية (13) ، ولاحظ لينين أن كتابات تولستوي أعمق من مواقفه السياسية (14) وعلّلا ذلك بإكراهات الواقع حينا ودور الصّراع الطبقي حينا آخر. وبعد عقود يعترف غسان كنفاني بهذه الحقيقة ويقرّ بأن شخصيته كروائي متطورة عن شخصيته كسياسي وبأنه عبّر في القصص التي كتبها في الستينات عن مواقف متقدّمة عن أفكاره السياسية. يقول:"قبل البارحة كنت أشاهد إحدى قصصي التي أُنتجت كفيلم سينمائي فاكتشفت فجأة بأن الحوار بين الأبطال وخط تفكيرهم وطبقتهم [الاجتماعية] وطموحاتهم وجذورهم في ذلك الحين كانت تعبّر عن مفاهيم متقدّمة عن أفكاري السياسية. [إذن] باستطاعتي القول بأن شخصيتي كروائي كانت متطوّرة أكثر من شخصيتي كسياسي وليس العكس، وينعكس ذلك في تحليلي للمجتمع وفهمي له "(15).
تلك هي أهم مواقف غسان من أدبه من خلال الحوارات القليلة التي سُجّلت له والتقويمات النادرة التي تركها ممّا يؤكد التطابق التّامّ بين ما صرّح به وما استنتجه النقاد والدارسون أي التزامه السّياسي والفكري وانعكاس ذلك على إبداعه وحياته في آن واحد إلى حدّ التّماهي والتّضحية بحياته في سبيل تكريس هذا الالتزام. وهذه الوثائق ، على ندرتها، تدعّم التزام الكاتب الفعلي وتعكس صدق اختياراته وتكشف التلازم الحقيقي بين النظرية والممارسة. وقد يتجلّى لنا جانب آخر من حياة غسان من خلال أدب البوح ونعني بذلك يومياته التي لا نملك منها إلاّ القليل.

II– صورة غسان كنفاني من خلال يوميّاته:

لغسّان كنفاني يوميّات لم تصلنا منها إلاّ نُتف نشرتها مجلّة "الكرمل". وقد جاء في تقديم الأوراق ما يلي:" تنشر" الكرمل" مختارات من دفتر يوميات كتبه الروائي الفلسطيني الكبير الشهيد غسان كنفاني بين عامي 1959 و1960 خلال عمله في الكويت(16)
يشير هذا التقديم إذن إلى أنّ هذه اليوميات مقتطفات من مدوّنة قد تكون غزيرة المادة والموضوعات والفوائد ولكنّنا نجهل حجمها. وكانت السيدة آني زوجة غسان تحتفظ بها ثمّ سلّمت منها إلى " الكرمل" هذا الجزء القليل. فكيف تبدو صورة غسان من خلال هذه اليوميات؟
شغلت هذه اليوميات حيزا زمنيا محدودا. فقد بدأ غسان كتابتها يوم 31/12/ 1959 وأنهاها يوم 5/2/ 1961. وهي تختلف من يومية إلى أخرى حجما ومحتوى ودلالة. ولم تكن منتظمة في ترتيبها وكتابتها. وقد تمحورت حول ثلاثة مواضيع رئيسية هي مرض غسان ومشاغله الأدبية وتأملاته الوجودية. ثلاثة مواضيع لا نجد حدودا فاصلة بينها. فهي كثيرا ما تتشابك وتتداخل وتتفاعل.

1 – مرض غسان

يبدو غسان من خلال هذه اليوميات كهلا مريضا، مرهقا متعبا يسيطر عليه التشاؤم واليأس من الحياة ويحسّ بدنوّ منيّته. ففي يومية4/1/1960 يؤكّد أنّه يتعذّب ولا يخفي عذابه ، ويتألّم ويصرّح بهذا الألم ولعلّه كان يروم من وراء هذا البوح التخفيف من حدة الألم الذي ينخر جسده ويحوّل حياته إلى جحيم لا يطاق
وقد سيطرت فكرة الموت على مشاعره وأحاسيسه فوجدناه في (يومية 21/2/ 1960) ينتقل بسرعة من الحديث عن الحب إلى الحديث عن مرض القلب وكشف الأحاسيس الغريبة والمشوّشة التي يستبطنها وطغيان فكرة الموت على تفكيره.
وفي يومية 6/2/ 1960 نراه فاقدا أي رابط يشدّه إلى الحياة وأي شيء يرغّبه فيها. فقد تراءى له أن الخمول يرين على كل شيء وأن الواقع يلفّه الصمت وأن لحظات الطمأنينة انتفت من الحياة. لذا غدا متشائما ، وأضحت المفارقة كبيرة بين غسّان المثقّف العضوي جدلي التفكير وغسّان الكاتب العدمي المستسلم لمشيئة أحاسيسه وضيق نفسه. يقول" كل ما نعرفه هو أنّ غدا لن يكون أفضل من اليوم" (ص 241). ويعود غسان في يومية 5/2/ 1961 إلى الحديث عن الموت وقد تملّكه الخوف واضطربت أفكاره وأصبح قلقا من جسده. وقد بدا من خلال هذه اليومية متيقنا بأن جسده المرهق المتعب سيقوده إلى نهاية حتمية لن تطول.
وقد تتّخذ الكتابة في هذه اليوميات منحى فلسفيا وجوديا قوامه البحث في ماهية القديم والجديد، والحياة والموت، والتفاؤل والتشاؤم. وهو منحى يلتقي مع فلسفة العبث التي بلور أسسها ألبير كامو (1913- 1960). فبداية سنة 1960 كانت مناسبة حفزته إلى التأمّل في سيرورة الكون والانتقال من "عالم قديم إلى عالم جديد" (ص 236) بل دفعته إلى البكاء والكتابة والتساؤل عن العيش في حياة لا يرغب فيها الإنسان" حياة كريهة تنتهي بموت كريه" (ص 236). ونجد أفكارا من هذا القبيل تتكرّر في يومية 6/2/1960. فقد بدا غسّان كارها العيش في حياة فقدت فيها الأشياء دلالاتها وأصبحت بمثابة دوّامة يريد الخروج منها بسرعة.
وقد يدفعه المرض إلى التأمّل في مصيره وعلاقته بالآخرين وفلسفة بعض الأحداث التي تبدو بسيطة في ظاهرها لكنّها عميقة في باطنها فيتخذها غسّان منطلقا ليستمدّ منها جملة من العبر والقيم الإنسانية. فقد أحسّ بأنّ المرض أمات جزءا منه وعليه أن يكافح لكي يستمرّ الجزء الآخر في البقاء. ومن ثمّ أصبحت الحياة معادلا للكدح والمواجهة والتعويل على الذّات لإثبات وجوده. ذلك أنّه اقتنع بأنّ أنانية الآخرين لا حدود لها، وبأنّهم لا يقدّمون ما يرجو منهم المريض، ولا يريدون أن يتنازلوا عن سعادتهم الخاصّة ليشاركوا الآخرين آلامهم. لذا يدعونا غسّان إلى الانكفاء على النّفس ومواجهة مصيرنا بأنفسنا. فالإنسان يبقى في آخر المطاف عالما منغلقا على ذاته (ص 236).
وقد ينطلق غسّان من حدث بسيط فيطرح ثنائية الأخذ والعطاء والتواصل والعزلة الإنسانية. فقد سبّبت له الحقنة اليوميّة جرحا ظلّ ينزف مدّة طويلة. فرأى أنّ هذا الجرح لا يعتبر حدثا مهمّا عند الآخرين في حين يعتبره هو حدثا ذا شأن. فهو يريق جزءا من إنسانيته وسعادته من أجل أن يعيش. وتبيّن له أنّه يشتري الحياة اليومية بالألم والقرف (ص237) وكأنّه يؤكّد أنّ العزلة قدر الإنسان، وأنّ التواصل بين النّاس أمر محدود وعلينا ألاّ نعوّل على الآخرين كثيرا. وهكذا ينطلق غسّان من تجربة خاصّة ليستنتج قوانين عامة يريد تعميمها على مستوى العلاقات بين الناس. لقد رسم غسان لنفسه صورة إنسان مكدود مهدود ولمّا يكتهل، أسنّ وعجّز وهو شاب في مقتبل العمر، دمرته نوائب الدهر و" قتلته المنون بلا قتال". لذا راح يفلسف أي حدث مهما كانت طبيعته ويقلّبه من عدّة أوجه. فميلاد ابنه فايز (24/آب/ 1962) لم يكن مناسبة للفرح والسّعادة والتواصل مع الكون فحسب بل أثار جملة من المشاعر المتناقضة من نحو"الغضب والفرح والمفاجأة والخيبة والسّعادة والشّقاء والضّحك والأسى والحب ّوالكره والانتظار والملل" ( ص 247).
واستحال الحديث عن الحبّ، أحيانا، حديثا عن الذّات والوجود. ففي يوميّة 21/2/ 1960 تداخلت الأجناس الأدبيّة وامّحت الحدود بين اليوميّات والرّسائل. وانطلق غسّان من محتوى الرّسالة التي بعث بها إلى امرأة يحبّها ليعالج جملة من المواضيع تداخلت عناصرها فتفاعلت. فقد كشفت هذه الرّسالة الحالة النّفسية التي مرّ بها أثناء لحظة الكتابة: نفس مضطربة، أفكار مهزوزة، قلب متعب حسب الفحص الّذي أجراه الطّبيب، أشياء رُتّبت بطريقة عبثية، كراهية الموت. أمّا المحور الثّاني فيكشف طبيعة علاقة غسّان بهذه المرأة. فهو يعترف لها بأنّهما "خطّان متوازيان يسيران معا ولكنّهما لن يلتقيا" (ص 242). ثمّ يقيم مقارنة ليبرز أوجه الاختلاف بينهما. فهي تستحق ّالحياة وهو لا يستحقّ شيئا، وهي رمز الأمل والحياة والذّكاء والجمال، وهو رمز القدر الأسود. لذا هو شقيّ في حبّه ولا يستطيع إسعادها رغم حبّه لها وليس بإمكان الحبّ أن ينتصر على "الطّابع الحزين للعالم" ( ص243). واللافت للانتباه هو سيطرة الفكر الوجودي على هذه اليومية. فقد حفلت بكلمات من قبيل الغربة والضّياع والوحشة والخذلان، وسيطرت النّزعة التشاؤميّة على تفكير الكاتب وتجلّى يأسه من الحياة.
ولئن تحدّث غسان عن مضاعفات هذا المرض وآثاره المدمّرة لجسده والمعذّبة لنفسه دون أن يذكر اسمه –أشار مرّة واحدة إلى مرض القلب- فإننا وجدناه في موضع آخر يذكره بصريح العبارة. يقول في رسالة كتبها إلى أحد الأصدقاء خارج الوطن:"سوف تكون الحياة سخيفة لحد القرف، وسمجة بلا حدود إذا كان كل ما تعنيه هو أن تخبطني على رأسي كلّما أردت أن أتحرّك إلى الأمام. في الثانية عشرة من عمري عندما بدأت أتحسّس معنى الحياة والطبيعة من حولي قذفتني لاجئا مشرّدا خارج وطني، والآن عندما أخذت أتحسّس طريقي أصبحت أقضي أكثر ساعات اليوم بشكل مجد يأتي " السيد مرض السكري" ويريد بكلّ بساطة، بكلّ وقاحة أن يقتلني..."(17).
وقد ظلّ غسّان، رغم العذاب الجسدي والإرهاق النّفسي والآلام التي تدمر كيانه، يكتب ليداوي جراحه ويتحدّى آلامه( ص 237)، ومن ثَمّ اتخذت الكتابة عنده أهمية كبيرة في هذه اليوميات لا تضاهيها إلاّ أهميتها في حياة الكاتب.

2- مشاغل غسّان الأدبية

وجدنا غسان يفكّر في يومية 15/1/ 1960 في كتابة قصّتين ويّحدّد موضوع الأولى وهو "قصّة إنسان مخذول، خذلته القيمة التي اعتقد أنّها مقياس الحياة الوحيد وإذا هي قيم لا تعتبر في عالم الحضارة المعاصر" (ص 237)، لكنّه يعترف بالعسر الذي يعوق تنفيذ هذه الفكرة. فهو يُقرّ بضرورة اصطياد الحادثة الملائمة لتطويرها حتى تعبّر عن الانخذال الكامل الذي يحسّه إنسان صُفع بشيء آمن به" (237). أمّا القصّة الثّانية فقد رواها صديق له ويريد أن ينجح في روايتها لتقنع المتقبلين. ويعترف بأنّه لم يتمكّن من صياغة جميع تفاصيلها رغم أنّه تَمثّل أحداثها واستبطنها وأصبح يعانيها. وهي "قصّة مثقّف أضاع ذراعه في اعتداء غادر. وحينما خرج من المستشفى (...) وجد نفسه مرفوضا من قبل الحياة التي لا تعترف بالضّعف" (ص 237). ونجده مرّة أخرى يفكّرفي كتابة قصّة طويلة في يومية 23/1/1960 (ص 241) بل ينتقل من التفكير في كتابة قصة " الخراف المصلوبة" في يومية21/2/ 1960 إلى الحديث عن الصّعوبات التي اعترضته وهو يكتب قصّة " المجنون"(17 /1/ 1961). وقد أطنب في الحديث عن كيفية بنائها وإدراج ما يسمّيه " الجمل العابرة" للتأثير في القارئ. ولا يقف العسر عند حدود البناء فهو يتّصل كذلك بموضوع الجنون الذي يتّطلّب معرفة للمسألة معمّقة (245). وهكذا تستأثر قضايا القصّة الفنية وموضوعاتها باهتمامه وتشغل باله ويصبح الأدب معاناة حقيقيّة وليس عملا مصطنعا لا يمتّ بأيّ صلة إلى الواقع والحياة، وتصبح ولادته عسيرة وعملا يحتاج إلى تدبّر وتفكير عميقين.
كما أن موت ألبير كامو الفيلسوف الفرنسي الكبير أثار انتباهه فسجل ذلك في يومية 10/1 1960 قائلا هو فيلسوف وصاحب فلسفة العبث. ومن الغريب أن يكون هناك تطابق بين فلسفته ونهايته. فقد "مات في موقف عبث"(ص 239). لذا ليس من الضّروري بكاؤه أو رثاؤه. وعلى ألبير كامو أن يقنع بحياته التي لم تكن طويلة لكنّها كانت عريضة (ص239).
ما نستنتجه إذن هو أن الكتابة أصبحت هاجسا يتملّك الكاتب ومشغلا أساسيا لا يستطيع الاستغناء عنه ومكوّنا من مكوّنات حياته ودواء يداوي به داء تمكّن منه.
إنّ كتابة اليوميات، حسب غسان، عمل كريه وضروري في آن واحد كالحياة نفسها(ص 236). لذا أقدم على هذه الكتابة ليسجل أحداثا يومية وكأنه يريد أن يقاوم فكرة الموت والعدم التي سيطرت عليه في هذه السن المبكرة بسلاح يعتبره فعّالا هو سلاح الإبداع الخالد الّذي لا يقدر الزّمن على محوه من الوجود. فالكتابة قادرة على التصدي للعدم وإماتة الموت وتخليد مآثر الإنسان. والولادة تُسهم أيضا في تخليد الإنسان ومقاومة الفناء. لذا ليس من الغريب أن نجد غسّان كنفاني يحتفي بميلاد ابنه فائر. فقد انتابه إحساس غريب جعله مشدودا إلى هذه الأرض مرتبطا بها. ففائز أشبه بغرس زرع في هذه الأرض ممّا يؤكّد أنّ الكتابة والولادة وحدهما قادرتان على مقاومة الموت ؟ وهكذا ظلّت ثنائية الموت/ الحياة أهم ثنائية في هذه اليوميات. فهل من وسيلة أخرى لمقاومة الموت ومساعدة الإنسان على التّعلّق بالحياة؟

III- صورة غسّان من خلال رسائله (18)

هي مجموعة من الرّسائل بعث بها غسّان كنفاني إلى غادة السمان الأديبة السورية والرّوائيّة المتمرّدة وصاحبة الإبداع المتميّز خاصّة في مؤلّفيها" بيروت 75" و"كوابيس بيروت". هي رسائل بعضها مؤرّخ (تراوحت كتابتها بين 29/11/1966 و25/8/ 1968) وبعضها غير مؤرّخ. وقد رأت غادة أنّ جملة من الدّوافع حفزتها إلى نشرها بعد مرور عشرين سنة على موت صاحبها غسّان كنفاني. فهذه "رسائل تدخل في باب الوثائق الأدبية أكثر ممّا تدخل في باب الرسائل الشّخصيّة بعدما انقضى أكثر من ربع قرن على كتابتها فخرجت من الخاص إلى العام باستشهاد صاحبها قبل عشرين سنة"(19).
ونشرها "هو أيضا إقلاق لراحة الرّياء ولنزعة التّنصّل من الصّدق(20). ولعلّ ما يعنينا من نشرها أساسا هو رسم شخصيّة الكاتب من الدّاخل. وقد أكّدت غادة ذلك قائلة إنّ "في رسائل غسّان صورة للمناضل من الدّاخل قبل أن يدخل في سجن الأسطورة ويتمّ تحويله من رجل إلى تمثال في الكواليس المسرحيّة السّياسيّة "(21). لذا سنعتمد هذه الرّسائل لعلّها تجلو وجها آخر من وجوه غسّان المتعدّدة.
هي رسائل البوح والمكاشفة والصّدق مع الذّات ومع المخاطب، قوامها الجرأة والتحدّي والمغامرة. وقد كُتبت بعاطفة متأجّجة ومشاعر جيّاشة ورغبة كبيرة في تملّك غادة وصرف تفكيرها عن كلّ شيء إلاّ عنه هو، واصطفى لها غسّان لغة شاعرية رقيقة ومعجما غزليا مشدودا إلى تراث القدامى وتخيّر لها صورا شعرية تعبّر عن أجمل ما في المرأة. فماذا تُمثّل غادة بالنسبة إلى غسان؟
يبدو غسّان من خلال هذه الرّسائل عاشقا ولهان، متيّما معنّى بحبّ غادة، تملّكت هذه المعشوقة وجدانه وتفكيره ووهبته ما ضنّت به الحياة. لذا يريد الاحتفاظ بها لأن ّفراقها يعني دماره. يقول :"وأحبّك كثيرا يا غادة وسيُدمّر الكثير منّي إن أفقدك..." (ص 17).
وقد لا يكتفي غسّان بمصارحة غادة بحبّه لها وتعلّقه بها فنجده يكتب رسالة تمتح لغتها من عالم العاطفة الجيّاشة والخيال المجنّح والتهويل والمبالغة فتُضحي غادة من خلال هذا الخطاب متفرّدة متميّزة لا مثيل لها في حياته بل إن حياته ابتدأت منذ أن عرفها وستنتهي بانتهاء علاقته بها. يقول:"فأنا ببساطة أقول لك:لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبدا، أبدا. لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبدا أبدا ولذلك لن أنساك ...لا...إنّك شيء نادر في حياتي. بدأت معك ويبدو لي أنّني سأنتهي معك" (ص 24).
لقد تسلّلت غادة إلى كيان غسّان وسكنت مفاصله واستقرّت في وجدانه واستحالت جزءا منه لا ينفصل عنه (ص 28)، يستمدّ وجوده من وجودها وعزيمته من عزيمتها (ص 78). وفي رسالة أخرى يؤكّد غسّان أنّ غادة أروع شيء عنده (ص37). وفي الحقيقة لا يتحرّج غسّان من الاعتراف بسيطرة غادة عليه. فقد شغلت كل وقته ودفعته إلى أن يشغل نفسه بها صباحا مساء، صيفا شتاء، وفي لحظات الظلمة والضّياء، والجنون والصّفاء(ص39). وقد يُجري مقارنة بينه وبينها فيفضّلها على نفسه ويضعها في مقام سام ويرتقي بها إلى مصاف لا يُدرك. يقول لها:"أغفر لك لأنّك عندي أكثر من أنا وأكثر من أي شيء آخر، لأنني ببساطة أريدك وأحبّك ولا أستطيع تعويضك"( ص 36).
وقد أكّد غسّان أنّ غادة تسكنه وأنّه كلّما أراد التّخلّص منها ازدادت ترسّخا في وجدانه، وكلّما فكّر في طرد شبحها الذي انتصب أمام عينيه ازدادت غادة قربا منه. وهكذا أصبحت غادة المدار الذي يتحرّك فيه والفكرة التي تلازمه (ص77).
وقد تتجاوز علاقته بغادة علاقة رجل بامرأة وتتّخذ أبعادا أخرى ذات قيمة معنويّة سامية. فهي أشبه بالوطن عند الوطني وبالله عند المؤمن التقي وبالغيب عند الصوفي...(ص 37).
ولكن يبدو أنّ غسّان كنفاني لم يكن سعيدا في حبّه. فبقدر ما كان متعلّقا بغادة كانت تتفصّى منه، وبقدر ما كان يودّ الاقتراب منها كانت تصرّ على الابتعاد عنه ، وكلّما عجّل بالكتابة يهزّه الشوق إليها تباطأت في الردّ على رسائله. يخاطبها في إحدى رسائله قائلا:"ولقد آلمتني رسالتك. ضننت عليّ بكلمة حارّة واحدة واستطعت أن تظلّي أسبوعا أو أكثر دون أن أخطر على بالك. ياللخيبة!" (ص33).
وغادة هي الشيء ونقيضه، فهي أمل غسّان وألمه، وهي مصدر قوته ومصدر ضعفه في آن واحد (ص ص 16/17)، وهي أيضا عذابه وشوقه (ص28)، ووجودها يعني الحضور والامتلاء والعالم كلّه في حين يضاهي غيابها الفراغ والعدم (ص48) بل إنّها ترمز إلى الحياة ويرمز غيابها إلى الموت (ص58).
ما يُستنتج هو أنّ هذا الحبّ العنيف قوبل بالدّلال والتّمنّع، وأنّ هذه العاطفة المتأججة ردّت عليها غادة بفتور كبير، وأنّ الرغبة في التّملّك لم تحظ بأيّ اهتمام من قبلها .لذا غاب التفاعل وظلّ غسّان يتعذّب ولا حبيب يُخفّف من هذا العذاب ، ويطلب منها أن تكفّ عن تعذيبه ولا مجيب. فهو لا يستحقّ هذه المعاملة القاسية ( ص28). ويبدو أنّ غادة تنتشي بتعذيبه وتسعد بالتشفّي منه وترى في لهثه وراءها دليلا على قيمتها عنده. وقد أراد غسّان أن ينبه غادة لما يقال فأرسل إليها قصاصات تُلخّص ما يُكتب عن علاقتهما:علاقة من طرف واحد، علاقة مآلها الخيبة.."إنني سأتعب من لعق حذائك البعيد.." يُشفقون عليّ أمامي ويسخرون مني ورائي" (ص 38).
ترسم هذه الرّسائل صورة لغسّان متعدّدة الأوجه وتؤكّد أنّه ليس صخرة صمّاء" لا تحرّكها المدام ولا الأغاريد"، وأنّ حياته ليست رتيبة تُختزل في كتابة البيانات السّياسيّة وتدبيج المقالات الأدبيّة. فهو إنسان يعيش أحيانا لحظات متناقضة متقلّبة. فيتجلّد حينا ويضعف حينا آخر، يحبّ تارة ويكره طورا، قد يفرح ويحزن ويغضب ويهدأ في آن واحد، يتفاءل لحظة ويتشاءم لحظات. وهكذا ظلّت حياته متقلّبة كلّما " سرّه زمن ساءته أزمان."
ولعلّ السؤال المحرج والواجب طرحه هو هل كان غسّان كنفاني، وهو يكتب هذه الرّسائل، يعيش خواء عاطفيا يريد من غادة الأديبة/ الرّمز أن تملأه؟ وهل كانت غادة قادرة على أداء هذه المهمّة العويصة أم زادت عذابه عذابا؟ وهل رسم غسّان حدودا لهذه العلاقة ؟ وما الّذي رغّبه في غادة السمان وهو زوج وأب لابنين؟لا عجب إن أثارت هذه الرسائل ردود فعل متباينة، ولا عجب إن كان المنافحون عن غسّان كُثُرا يلتمسون له الأعذار ويوجدون له التبريرات ويتصدّون لمن أرادوا تشويه صورته. وقد تضمّن الملحق الموسوم ب"مقتطفات من آراء نقدية في الكتاب "دفاعا مستميتا عن غسّان للمحافظة على صورة المناضل الشهيد الذي لم تتحجّر مشاعره ولم تتجمّد أحاسيسه.

خاتمــــــــــــــــــــــــة

وفي الختام نستطيع أن نقول إنّ هذه النصوص المتعدّدة تكشف ثراء إبداع غسّان وقدرته على تنويع كتاباته وتوظيفه أكثر من جنس أدبي. وقد مكّنتنا هذه المدوّنة من النّفاذ إلى ما يمور في عقله ووجدانه والاطلاع مباشرة على مواقفه الأدبية حينا ومشاغله الذاتية حينا آخر. ومن ثمّ تجلّت لنا صورة غسّان. فهو أديب ملتزم وكاتب واقعي نهل من تجارب شعبه البطل ومن نماذج بشريّة عايشها ومن وقائع ملموسة تأثّر بها. وهو مناضل وطني متيّم بحب ّفلسطين. وهو أيضا إنسان يحبّ ويكره، يفرح عندما تكتب إليه غادة السمان رسالة ويتألّم عندما تبطئ في الرّدّ عليه، يتعذّب عندما يرى مرض السكري يتسرّب إلى جسده المنهك وهو عاجز عن مقاومته ويسعد عندما يولد ابنه فايز. ...وهكذا عاش غسّان ممزّقا بين الهيام بفلسطين وحبّ آني وفايز وعشق غادة السّمّان بل بوسعنا أن نقول إن ّحياة غسان انقسمت إلى لحظتين كبريين قد تكونان متداخلتين:لحظة يهب فيها عقله ووجدانه وحياته لوطنه فيحلّ فيه ويضحّي بأنفس ما عنده من أجله، ولحظة يهب فيها وقته لنفسه فيختلي بها ليكاشفها ويتملّى آلامها وجراحها مغيّبا أمّهات القضايا التي تشغل باله وبال الوطن فيتأفف ويتألم تارة ويعشق ويتغزّل طورا.
وهكذا عاش غسّان على هذه الوتيرة إلى أن اختطفته يد الغدر في لحظة مشؤومة يوم 8 جويلية 1972. هذه اليد الّتي طالما تحدّث عن آلاعيبها ونبّه لدسائسها وحذّر من أخطارها المحدقة بأرض فلسطين وشعبها. إلاّ أنّه، رغم إدراكه هذه الحقيقة، اختار طريق الحريّة الّتي عُبّدت بدماء الشهداء. ألم يتحدّث عن ذلك قبل سنتين ونيف قائلا:"العصيّ السّحريّة لا تصنع التّاريخ، إنّما التّاريخ تحوّله الجماهير الّتي تفهمه وتعقد العزم على تغييره. إنّ الطريق صعب وشاق ولكنّه يستحقّ دماء الّذين يقاتلون ببسالة في سبيل اجتراح النّصر، وكي نكون أوفياء لهم، أولئك الّذين سبقونا واستشهدوا في سبيلنا ، فليس علينا إلاّ أن نكون في مستوى القضيّة الّتي أعطوها –دون تردّد- دماءهم، وكي نكون أوفياء للمستقبل الّذي نريده للأجيال العربيّة الطّالعة لابدّ أن نكون في مستوى المهمّات الّتي يستلزمها وأن نتقدّم بشجاعة مخترقين الجدار لنستحقّ العلم الّذي ما تزال دماء جماهيرنا تضرّجه منذ خمسين سنة" (22).

الهــــوامش:

1) يشير قيس الزبيدي في مقاله الموسوم ب"غسان كنفاني في السينما- العلاقة المتبادلة بين الأدب والسينما" إلى أنّ الكثير من قصص غسان ورواياته حُوّلت إلى أشرطة سينيمائية أو اُقتبست منها أفلام من نحو" زهر البرقوق " عن" برقوق نيسان"، و"السكين" عن رواية" ماتبقى لكم" ،"عائد إلى حيفا"،"المتبقي":اقتباس عن رواية " عائد إلى حيفا"، "المخدوعون" عن رواية " رجال في الشمس"( اُنظر مجلّة "الهدف" – عدد 1368 – أوت 2005 – السنة 36 ص ص 32/ 33 – محور العدد:في الذكرى الثالثة والثلاثين لاستشهاده – ماالذي تبقى من غسان كنفاني ).وقد ذكر الزبيدي المخرجين والممثلين وسنة إخراج الأشرطة وأمكنتها والمؤسسات السينيمائية التي أشرفت عليها.
2) " وصية أم سعد" تمثيلية تلفزيونية مقتبسة من رواية" أم سعد"/ "جسر إلى الأبد" كتبت لإحدى الإذاعات العربية لتذاع في حلقات ويبدو أنها لم تُذع.
3) حديث يُنشر لأول مرّة مع الشهيد غسان كنفاني – مجلّة" شؤون فلسطينية" – عدد 35 تموز ( يوليو) 1974 – ص 139.
4) م.س ص137
5) أحمد دحبور:" غسان كنفاني...خواطر في ذكراه "- مجلة " المعرفة" ( السورية) - عدد 186 –آب 1977 –ص183 .
6 ) اُنظر مقال "أم سعد" الراوية الحقيقية تروي سيرتها وغسان كنفاني
آمنة ياسين بطلة رواية أم سعد- إعداد هدى سويد - مجلة "الهدف" –عدد 968 – السنة العشرون-30/ 7/1989 –ص27
7 ) م.س ص 28.
8) م.س ص28
9) حديث ينشر لأوّل مرّة ص138.
10) م.س ص 139
11) م.س ص139.
12) " غسان كنفاني في آخر لقاء إذاعي – " الهدف" – السبت 15 أيلول 1973 – ع 129 – المجلد الخامس ص18 – استشهدت به رضوى عاشور في كتاب "الطريق إلى الخيمة الأخرى –دراسة في أعمال غسان كنفاني دارالآداب/ بيروت /الطبعة الأولى حزيران 1977 ص 83
13) مراسلات ماركس أنجلز ،ترجمة جورج طرابيشي،دار الطليعة /بيروت- لبنان ،الطبعة الأولى 1972ص200.
14) لينين:تولستوي،ترجمة أسعد حليم ،دار الثقافة الجديدة،القاهرة 1980 .
15) حديث ينشر لأوّل مرّة ص 138.
16) أوراق خاصّة- غسّان كنفاني- يوميّات 1959- 1960 ،مجلّة "الكرمل"،العدد الثاني ،1981.
17) الشاهد ذكره فضل النقيب في مقال"عالم غسان كنفاني" – ضمن كتاب"غسان كنفاني إنسانا وأديبا ومناضلا"- (مؤلف جماعي) – منشورات الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ،1974 ، ص56.
18) رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمان ،دار الطّليعة،بيروت ،الطّبعة الرّابعة،نيسان (أفريل) 1999.
19) غادة السمان:محاولة تقديم- وفاء لعهد قطعناه "الرّسائل" ص8 .
20) م.س. ص8
21) م.س ص 11.
22) غسّان كنفاني:" العمل الفدائي في مأزقه الرّاهن" مجلّة" مواقف" عدد 8 /1970.