غسّان كنفاني النّهر المتدفّق


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7735 - 2023 / 9 / 15 - 16:15
المحور: الادب والفن     

مقـــــــــــــدّمة:

غسّان كنفاني (1936-1972) من الشّخصيّات القلائل الّتي استحالت ذكرى اغتيالها حدثا سنويّا يثير الشّجن لفقدانه المبكّر (36 سنة)، والحزن على ضياع شخصيّة فذّة لا تُعوّض، والسّخط على العدوّ الغاشم الّذي اغتاله، والإدانة الشّديدة للجريمة النّكراء الّتي اقترفتها آياد آثمة مضرّجة بدماء مناضلين وطنيّين نذروا حياتهم للدّفاع عن وطنهم السّليب واسترجاع أرضهم المغتصبة. والذّكرى حدث أيضا يستفزّ الأقلام ويدعو المبدعين والكتّاب والمثقّفين إلى مزيد تعميق النّظر في تراثه ومسيرة حياته لاستلهام الدّروس منها والوقوف على أسباب خلود هذا الرّمز والسر الكامن وراء حبّ النّاس له.
وما يُلاحظ هو أنّ رفاق غسّان في الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين لم يُشفوا من حبّه، وأنّهم كلّما نهلوا من معينه ازدادوا ظمأ ونهما لمزيد الارتواء. لذا استنّوا بدعة محمودة تتمثّل في تخليد ذكرى اغتياله كل سنة وإفراده بملف في مجلّة "الهدف" عربون وفاء لمؤسّس المجلّة، واعترافا بالجميل لما قدّمه للقضيّة الفلسطينيّة والثّقافة العربيّة وحركة التّحرّر الأمميّة، وتجديدا للعهد مع أيقونة خالدة تملّكت قلوب الجميع . وفي سنة 2023 انضاف إلى الملفّ كتاب موسوم ب" غسّان كنفاني جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة " للكاتب محمد عبد القادر.
وقد ارتأينا أن نقدّم ملخّصا لهذا الملف وهذا الكتاب إلى القارئ العربي الّذي لم يطّلع على العدد رقم 52 (1526) آب/ أغسطس 2023 من مجلّة "الهدف" والكتاب المصاحب له.

1 - الملــــــــــــفّ:

أ-تقديم الملف:
ملف متنوّع الأغراض والمضامين لم يقتصر إنجازه على كتّاب فلسطين على كثرتهم إذ شاركهم فيه عبد الرزاق دحنون من سوريا وخالد فارس من قطر وحاتم الجوهري من مصر. والفلسطينيّون الّذين كتبوا عن غسّان يعيشون في الشّتات ويكتوون بنار الغربة والتشرّد شأنهم شأن غسّان الّذي ظلّ يتنقّل بين لبنان والكويت وسوريا منذ سنة 1948 إلى أن امتدّت إليه يد الغدر والإجرام صبيحة يوم 8 جويلية من سنة 1972.
وقد تناول الملفّ زوايا مختلفة من أدب غسّان كنفاني إذ أجرى البعض مقارنات بينه وبين من ماثله ومن اختلف معه، وتناول البعض الآخر قضايا فلسفيّة ركّزت عليها رواياته وبعض الأقاصيص، وأجرى رئيس تحريرمجلّة"الهدف" حوارا مطوّلا مع عالم الاجتماع الفلسطيني والكاتب محمد نعيم فرحات تمحور حول أهمّ ماجاء في مؤلّفه"كمين غسّان" بالإضافة إلى نصوص أخرى قائمة على التّذكّر والتّخييل وضرورة الاستفادة من تراث غسّان سنعود إليها بالتّحليل والتّمحيص.

ب-عنوان الملفّ:

عنوان الملف هو"غسّان كنفاني بوصلة فلسطين العصيّة على الغياب". وهو عنوان موح عميق العبارة، غزير الدّلالة فيه اعتراف صريح بأنّ غسّان ظلّ حاضرا رغم مرور أكثر من نصف قرن على اغتياله (51 سنة)، وبأنّ إبداعه ونضاله وسيرته منارة يهتدي بها صفوة القادة ويستلهمون منها الدّروس إذا ضاقت بهم السّبل. فبعده قرب وغيابه حضور ونسيانه عصيّ على الأذهان وأنّى لهم ذلك وغسّان"تأتمّ الهداة به".

ج-محتوى الملف:

يُفتتحُ الملفّ بمقطع سرديّ أُخذ من رواية"عائد إلى حيفا"(1969) موضوعه التّذكير بأنّ الوطن ليس ذاكرة فحسب أي جزءا من الماضي يهزّنا الشّوق إليه من حين لآخر فنعود إليه كما فعلت الأم والأب اللّذان تركا ابنهما خالدا واضطرّا إلى مغادرة مدينة حيفا ولمّا عادا بعد عشرين سنة وجدا خالدا قد تهوّد وتبنّته عائلة يهوديّة مهاجرة من بولونيا وأصبح جنديّا في جيش العدوّ المحتلّ وغيّر اسمه فأنكرهما، ومن ثمّ أنكر أصله وجذوره ووطنه حضنه الدّافئ. وهكذا يعتبر غسّان كنفاني التّفريط في الوطن خطيئة لا تغتفر ونتيجة وعي زائف. فالوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل والعودة إليه أصبحت اليوم مسألة مطروحة وبحدّة على جدول أعمال القوى الوطنية المعادية للصّهيونيّة ولكلّ القوى الاستعماريّة المدعّمة لهذا الكيان الدّخيل المغتصب للأرض الفلسطينيّة. ولعلّ اختيار هذا المقطع يتنزّل في هذا الإطار. لذا وجدنا ربطا بين الماضي والحاضر في أكثر من دراسة.
وفي رسالة تطفح مشاعر جيّاشة وتفيض ألما وحزنا يؤكّد الكاتب عبد الرزاق دحنون أنّ غسّان كنفاني عاش معه مذ كان طفلا، وأنّه لازمه إلى يوم النّاس هذا: لمّا كان تلميذا قرأ في المدارس السّوريّة أقاصيص من مجموعة "الرّجال والبنادق" (1968) وشرح الأستاذ جبور عيسى لتلاميذه قصّة"الصّغير يستعير مرتينة خاله ويشرّق إلى صفد"، وينتقل صاحب المقال من الماضي إلى الحاضر ليصف وقع الحزن الّذي يتملّكه ويفسّر للقارئ أسباب ذلك وهي مغادرته مدينة إدلب في الشّمال السّوري وقد ترك وراءه أعداد مجلّة "الهدف" والدّيار والوطن والكتب واضطرّ إلى فراق مدينته. ولعلّه يشير إلى ما عاشته سوريا في السّنوات الأخيرة واحتلال الأتراك والأمريكان لشمالها وتشريد أبنائها ومن بينهم الكاتب شأنه شأن غسّان كنفاني فيما مضى.
وقد ظلّ الكاتب دحنون يسرد مشاقّ الرّحلة وهو يغادر وطنه وجنود العدو يتربّصون بالمارّة ويراقبون حركاتهم وما يحملون، وحزن حزنا شديدا لأنّه لم يحمل معه أعدادا من مجلاّت كان غسّان يكتب فيها، أو مجاميعه القصصيّة.
وبما أنّ المقال عبارة عن رسالة مفتوحة وموجّهة إلى غسّان فقد ذكّره برحيل رفيق دربه بسّام أبوشريف من بيروت صائفة 1982 والحيرة الّتي انتابته: ماذا يأخذ وماذا يترك؟ وأخيرا قرّر أن يأخذ معه المجلّد الأوّل من أعداد الهدف.
وتداعت الخواطرفتحدّث عن دور مجلّة"الهدف" أثناء حصار بيروت سنة 1982.ويعود عبد الرزاق دحنون إلى الحديث عن غسان وعن نفسه إذ عاش وضعا لا يختلف عن وضع الفلسطينيين الّذين اضطرّوا إلى مغادرة الوطن دون أن يأخذوا أعزّ ما يملكون وأعزّ المقالات والكتب الّتي جمعوها واعتنوا بها عناية خاصّة.
ولا يختلف وليد عبد الرّحيم عن عبد الرزاق دحنون كثيرا إذ يجري حوارا بينه وبين روح غسّان كنفاني الّذي ظلّ شابا على الدّوام لم يكتهل ولم يُسنّ رغم مرور واحد وخمسين عاما على اغتياله ويرسم له صورة تتميّز بجملة من المقوّمات. فهو شابّ ساخر من مظاهرالزّيف والتّصنّع، وهو كاتب يكتب بلغة معهودة لكنّ دلالاتها لا يفهمها إلاّ المتضلّعون من فقه اللّغة ومجازاتها، ثمّ يستحضر ذكريات وجولة بين بيروت وعكّا ويستعرض عنب الخليل وسمك غزّة وبنادق الغزاة، كما يتذكّرحصار بيروت والمذابح في المخيّمات وانتصار تجّار المخدّرات على الثّورة في لبنان.
ويشاركه غسّان هذه الخواطر فيستحضر طرائف وأحداثا عاشها مع وديع حدّاد ويؤكّد أنّ جورج حبش ووديع حدّاد ابتدعا نموذجا ثوريّا يستمد مقوّماته من تراث فلسطيني أثيل لكنّ آفاقه أرحب.
ويُختم هذا الحوار المتخيّل بكلمة عميقة الدّلالة قالها غسّان: "
أترى؟ لم يقتلوني، أنا من قتلهم، وهاهم يترنّحون"(ص95)
ولم يقتصر الملفّ على الخواطر والذّكريات والاستطرادات فقد عمد بعض المشاركين إلى مقارنة غسّان بأدباء خالدين إذ لاحظ حسن حميد أوجه الشّبه بينه وبين الكاتب الرّوسي بوشكين (1799-1837) إبداعا ومسارا، فحياة الكاتبين قصيرة إذ عاش بوشكين 38 سنة في حين لم يتجاوز غسّان 36 سنة (1936-1972)، وكان إبداعهما متنوّعا من قبيل كتابة القصّة والرّواية والشّعر والمسرح وكأنّ كليهما كان يحسّ بأنّ زمنه قصير ومحدود وعليه أن يكثّف أنشطته وينوّع مجالات إبداعه قبل رحيله المبكّر.
عاش بوشكين"منفيّا في بطرسبورغ وموسكو والجنوب الرّرسي والمقاهي وأمكنة الحفلات" (ص49)، وعاش غسّان بين عكّا وحيفا ويافا مدّة 12 سنة وهويرى ما خلّفته العصابات الصهيونيّة والأنقليز من مجازر وقتل ودمار وخراب ومطاردة في الأرياف لذا لازمه الخوف من المحتلّين منذ أن كان طفلا وسيكبر معه.
غسّان شغلته الآداب والفنون ووسائل الإعلام والتّواريخ والأمكنة واللّغات (الفرنسيّة والأنقليزيّة في فلسطين) وتملّكته الأسئلة وشواغل الحياة. لذا عاش"حياته الخاصّة على شكل محاورة يوميّة مع الأسئلة الرّجيمة الّتي تبحث عن خلاص لها"، وظنّ بوشكين أنّ قربه من السّياسة والشّعراء وقصر الامبراطو رسيوفّرله الحياة المأمولة لكن خاب ظنّه كما خاب ظنّ غسّان الّذي ظنّ أنّ استغراقه في الآداب والفنون والسّياسة سيخلّصه من قلق الأسئلة وضجيجها المخيف.
وكانت النّهاية متشابهة: مبارزة دمويّة أطاحت ببوشكين ولغم متفجّرحوّل غسّان إلى أشلاء متناثرة هنا وهناك.
بوشكين وغسّان كاتبان مبدعان ومؤسّسان دون ادّعاء وغرور. فلا أحد منهما زعم أنّه مؤسّس الأدب الرّوسي أو الأدب الفلسطيني، تركا أدبا خالدا عكس روح الشّعب الرّوسي وروح الشّعب الفلسطيني ومرّ ما يقارب القرنين (186سنة) على موت بوشكين وخمسة عقود على اغتيال غسّان وأدبهما صامد في وجه الزّمن العاتي يقارع النّسيان ويتحدّى الأعداء.
ولئن أبرزت هذه المقارنة نقاط التّماثل بين هذين الكاتبين فإن دراسة تغريد عبد العال كشفت أوجه الاختلاف بين غسّان كنفاني والكاتب التشيكي ميلان كونديرا(1929-2023) صاحب كتاب"الحياة في مكان آخر"(1973)، وهي مقولة أفرزها واقع البلاد السّياسي وسيطرة الحزب الشيوعي على مفاصل الدّولة وغياب حرية التّعبير في تشيكسلوفاكيا أثناء فترة الحكم الشيوعي. وقد رأى الكاتب أن الحياة الحقيقيّة في مكان آخر لا تُصادر فيه الحرية ولا تُلجم فيه الأفواه.
انطلقت الكاتبة الفلسطينيّة تغريد عبد العال من هذه المقولة ونظرت في أدب غسّان كنفاني ومواقفه فرأت أنّه يسيرفي اتّجاه يعاكس اتّجاه كونديرا وبيّنت أوجه الاختلاف بينهما. ذلك أنّ فلسفة غسّان هي مواجهة الحياة وليس الفرار منها، والخلاص في فلسطين وليس في مكان آخر لأنّ الصّحراء ستبتلع الجميع في حين تتمثّل فلسفة كونديرا في الابتعاد عن كلّ شيء للتّخلّص من المعاناة التّي تسبّبت فيها هيمنة الحزب الحاكم. فلمّا طرد من الحزب الشيوعي وصودرت مؤلّفاته غادر الوطن واستقرّ في فرنسا حيث تجنّس وعاش هناك. أمّاغسّان فقد أدان هذا الموقف وانتقد وهم المكان الآخر الّذي اتّجه إليه أبطال "رجال في الشّمس".
هكذا بيّنت هذه المقارنة وجهتي نظر مختلفتين ورؤيتين متباينتين فكانت النّهاية على قدر اختيار المسار اغتيال من ناحية وموت طبيعيّ من ناحية أخرى.
ومن مقارنة غسان كنفاني بأدباء خالدين إلى تحليل جوانب من أدبه إذ تضمّن الملفّ دراستين اثنتين تمحورت الأولى حول قضيّة"استلاب الذّات الفلسطينيّة في مشروع غسان كنفاني" الرّوائي في حين نظرت الثّانية في"السّرد القصصي في أرض البرتقال الحزين"
اعتبر الكاتب خالد فارس الذّات الفلسطينيّة ذاتا مخصوصة متفرّدة. فهي مستلبة نتيجة التّشرّد والاعتقالات والحصار والمطاردة والإقامة في مخيّمات أو وطن بديل. فالوطن هو مكان ذات الإنسان الطّبيعيّة وزمانها لكي تنمو وتزدهر بحرية، وسرقة وطن هو فصل الذّات عن بيئتها نحو الشّتات والضّياع (ص46)، ومن ثمّ اكتسبت هذه الذّات عناصر ذات أخرى ودخلت في معادلات تناقض طبيعتها، ويدعّم الكاتب رأيه بأمثلة مستمدّة من روايات غسّان كنفاني.
والذّات الفلسطينيّة مستلبة تحت سيطرة الحقبة العثمانيّة ثمّ الحقبة البريطانيّة وأراد المستعمر الصهيوني إنكارالذّات الفلسطينيّة الطّبيعيّة (أرض بلا شعب وشعب بلا أرض)، وتمثّل "أم سعد" ذاتا فلسطينيّة "أصيلة". وهكذا يستمدّ الفرد أو الشّعب ذاته من انتمائه إلى وطن له مقوّمات مخصوصة تتجلّى في نمط عيشه وتفكيره وسلوكه.
وينتقل الكاتب من الماضي إلى الحاضر ويتحدّث عن اتفاقيّة أوسلو الّتي قسّمت الذّات الفلسطينيّة بين الضفّة وغزّة والشّتات وشتات الشّتات ويستشرف موقف غسّان كنفاني الرّافض لهذا الاتّفاق لو كان حيّا بيننا.
وتتعلّق الدّراسة الثّانية ب"أرض البرتقال الحزين" بقلم سعيد بشتاوي، وهي مجموعة قصصيّة تضمّ ثماني أقاصيص كُتبت في بيروت ودمشق والكويت بين سنة 1956 وسنة 1962، ودارت أحداثها في أماكن مختلفة من نحو يافا وغزّة وعكّا والرّملة ومشارف القدس، أو لبنان وبادية الشّام والكويت وبغداد والأردن.
ولم يتّبع السّرد خطّا زمنيّا تصاعديّا بل جاء مشوّشا يعتمد على الرّجوع إلى الماضي والذّاكرة، والتّقديم والتّأخير والحذف والاستباق. أمّا اللّغة فكانت بسيطة لكنّها ليست سطحيّة مبتذلة بل كانت قريبة من أذهان العامّة وحياة المخيّمات، وهذه العناصر جعلت من غسّان"أديب الشّارع والدّم والقضيّة الّتي إلى الآن ما وجدت ضالّتها" (ص51).
قصص تختلف عن بعضها البعض بشخصيّاتها وأحداثها وأسلوبها لكنّها تصبّ جميعها في مجرى واحد هو الحزن الفلسطيني الأبدي والسّؤال الّذي لا جواب عنه: لماذا نحن هنا؟ فأرض البرتقال الحزين هي أرض المأساة الفلسطينيّة، أرض المخيّمات وأزقّتها الصّغيرة، كما توجد في هذه الأقاصيص أسئلة فلسفيّة مستمدّة من الواقع المعيش من قبيل العلاقة بين الفرد والجماعة والعام والخاص والفقر والتّشرّد، والثّراء والتّسلّط. وهكذا تحدّث غسّان كنفاني عن الهمّ الفلسطيني والأسباب الّتي أضاعت فلسطين( حال الجيوش، صورة الجندي المحنّط، عدم تبنّي المسؤولين للثوار..).
تبرز هاتان الدّراستان جوانب من القضايا الّتي عالجها غسّان في رواياته وأقاصيصه.
ولعلّ أهمّ ما يميّز هذا الملفّ تنوّع مقارباته، فمن التّذكّر إلى المقارنة، ومن دراسة أدب المحتفى به إلى النّظر في ما كُتب عنه من خلال حوار مطوّل أجراه وسيم الفقعاوي رئيس تحرير مجلّة "الهدف" مع عالم الاجتماع الفلسطيني والكاتب محمد نعيم فرحات تمحمور حول أهمّ ما جاء في مؤلّفه"كمين غسّان" الّذي بين من خلاله أنّ غسّان كنفاني كاتب مختلف وخطابه خطاب متميّز عن"خطاب الأدب الفلسطيني في السّنوات الأولى الّتي تلت النّكبة" (ص41) لأنّه قرأ بعمق السّياق الموضوعي والذّاتي الّذي أفضى إلى حالة التّشرّد والنّفي، ويعود هذا الوعي العميق إلى المعاناة الّتي عاشها وعاينها هو وعائلته والآخرون. كمين غسّان كان يقاوم كمائن لاحصرلها تناهض الفلسطينيين وشعوب المنطقة، وميزة وعي غسّان النّضج والبسالة والاستقامة وقد تعقّب الكاتب محمد نعيم فرحات بنية الوعي كما بناها نصّ كنفاني في علاقة بالتّاريخ الّذي صدرت عنه.
كما تناول هذا الحوار قضايا أخرى مثل علاقة المشروع الثّقافي بالمشروع الوطني التّحرّري، وعلاقة غسّان الكاتب بناجي العلي الرسام، وقراءة غسّان لثورة 1936-1939 وأهمية النّظريّة والتّنظيم والممارسة وهي معضلات الثّورة الفلسطينيّة.
ويُختم الملفّ بمقال موسوم ب"غسّان كنفاني ومأزق المقاومة الثّقافيّة في القرن 21" تساءل من خلاله الكاتب حاتم الجوهري كيف تستطيع الثّقافة الفلسطينيّة المحافظة على هوية القدس وتتصدّى للمشاريع الخبيثة الّتي تُطرح من حين لآخر من قبيل "صفقة القرن" و"الاتفاقيّات الإبراهيميّة". ذلك أنّ الخطاب الثّقافي الفلسطيني أو العربي القائم على العاطفة والحماسة غير قادر على مقاومة الدّسائس والمكائد الّتي تحاك يوميّا لمسخ الهويّة الفلسطينيّة. والفرق كبير بين زمن غسّان واللّحظة الرّاهنة. فجيل غسّان كان يتحرّك من قلب الحدث ويردّ الفعل على أفعال العدوّ الصّهيوني، وكان الإعلام والصّحافة والأدب يؤدّي دورا محوريّا في بثّ الوعي أمّا اليوم فقد تغيّر الوضع وحدثت تطوّرات كثيرة تعسّر العمل وبثّ الوعي لمقاومة مؤامرات الأعداء- وما أكثرها- ويستعرض الكاتب هذه المؤامرات من قبيل مشاريع"الصّهيونيّة الماركسيّة" و"الصّهيونيّة اللّيبيراليّة" و"الصهيونيّة الدّينيّة" وآخرها "الاتّفاقيّات الإبراهيميّة" الّتي تهدف جميعها إلى مسخ هوية القدس وفلسطين.
ويقترح الكاتب ضرورة تحديد استراتيجية ثقافيّة عربيّة بديلة تبحث عمّا هو مشترك في الثّقافة العربيّة وترفض مايسمّى الشّريك الصهيوني والسّلام العادل.
تلك هي أهمّ ما جاء في هذه النّصوص الّتي تضمّنها هذا الملف اختلفت مضامينها ومقارباتها لكن أصحابها أجمعوا على حبّ غسّان كنفاني وأكّدوا، مرّة أخرى، أنّ تراثه غني قابل للدّراسة والتّقليب في كلّ لحظة ولا أدلّ على ذلك ما كتبه محمد عبد القادر.

2-غسّان كنفاني: جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة لمحمد عبد القادر

هومؤلّف ضخم يحتاج إلى قراءة متأنّية وتدبّر عميق وتعقّب حصيف لفصوله لتبيّن تجلّيات العبقريّة عند غسّان كنفاني. فالموضوع طريف والمقاربة جديدة والكاتب آل على نفسه أن يسيح في ثنايا وشعاب وعرة لم يرتدها السّابقون ويوظّف مفهوما إشكاليّا رجراجا قد تقود نتائج استعماله إلى مزالق خطرة.
وقد بيّن الكاتب "في سؤال البداية" أسباب اختياره غسّان كنفاني الّذي تعلّق به منذ سبعينات القرن العشرين وسيطر على ذهنه ووجدانه. لذا اعتبره"حالة استثنائيّة ندرمثيلها، ومؤسّسة وطنيّة ثقافيّة، سيّاسيّة، أخلاقيّة، فكريّة، إنسانيّة عزّ نظيرها" (ص7).
وفي الحقيقة لم نجد متّسعا من الوقت لإكمال قراءة هذا المؤلّف الّذي تتبّع مواطن العبقريّة في حياة غسّان وأنشطته ومجمل كتاباته. لذا ندعو قرّاء بوّابة الهدف إلى الاطّلاع على هذا الأثر الّذي رفد الملف بمناسبة مرور 51 عاما على اغتيال هذه الشّخصيّة الفذّة المعطاء الشّبيهة بالنّهر المتدفّق.

3- غسّان كنفاني النّهرالمتدفّق:

كتب ميخائيل نعيمة قصيدا سمّاه "النّهر المتجمّد" قال في مطلعه متسائلا:
يا نهر هل نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير؟
أم قد هرمت وخار عزمك فانثنيت عن المسير؟
بالأمس كنت مرنّما بين الحدائق والزّهور
تتلو على الّدّنيا وما فيها أحاديث الدّهور.
ونحن نستعير من الشّاعر اللّبناني الصّورة الضّديدة المعبّرة كأفضل ما يكون التّعبير عن غسّان كنفاني وهو يترنّم بمآثر الثّورة ويعلّم الأشبال فنون النّضال ويرتّل على مسامع الفدائيّين أناشيد الصّمود والتّحدّي ويروي ل"أمّ سعد" متى يَحين حِين العودة إلى الحضن الدّافئ.
وغسّان كنفاني نهرلم يجفّ نبعه ولم يتجمّد عطاؤه رغم مرور خمسة عقود على اغتياله. فإبداعه الغزير والثّريّ ظلّ محلّ درس وتمحيص وتقليب وغوص على معانيه وتفكيك لرموزه وألغازه، ونضاله الوطني وافتتاحيّاته في مجلّة "الهدف" منارة يهتدي بها من تقفّى نهجه وعاهده على إكمال المسيرة ونذر نفسه لخدمة قضيّة فلسطين العادلة، ومسيرة حياته وتعرّجاتها دروس وعبر، ونهايته المأسويّة شهادة على أنّ العدوّ لا يتورّع عن استعمال أفظع أساليب الإرهاب لتصفية المناضلين الّذين تكون كلماتهم أمضى من سلاحه الفتّاك. لذا لاعجب إن ألّف، في شأنه، الكتاب تلو الكتاب وأقيمت النّدوات السّنويّة واتُخذت ذكرى اغتياله مناسبة لكشف جوانب من تراثه أو حياته ظلّت مغمورة.
فغسّان كنفاني هو، حسب كلمة رامي ياسين:"مثقّف عضوي وروائي ومسرحي وقاصّ من نوع آخر. كان يسبق جيله خطوة في الإبداع، كان يفتح أبوابا جديدة ليدخل منها مبدعون آخرون..كان منتجا ومحفّزا للوعي ومحرّضا على الثّورة" (تقديم ندوة"غسّان كنفاني الأديب والمناضل" ضمن فعاليات "أيّام أدب المقاومة" المنعقدة يوم 6/8/2023 – انظر الصفحة الرّسميّة لحزب الوحدة الشعبيّة الدّيمقراطي الأردني).
ولا يختلف موقف محمد عبد القادرمؤلّف كتاب"غسّان كنفاني جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة " عن موقف رامي ياسين إذ يقول:" وإذ أعيد التّساؤل اليوم كرّة أخرى: لماذا غسّان كنفاني؟، فإنّني أشعر أنّه قد تشكّل في خاطري جواب عن هذا التّساؤل المزمن، وهوباختصارشديد: " لأنّه عبقريّ"، و"لأنّه أصيل" و"لأنّه رائد"( ص8).

خاتــــــــمة:

إنّ إعداد الملفّات وإقامة النّدوات وتأليف الكتب ليُقيم الدّليل على أنّ الكتابة عن غسّان كنفاني عمل دؤوب لا يني، وأنّ الكلام على كلامه ليس تكرارا ممجوجا أو ثرثرة وهذيانا لا طائل من ورائهما بل إنّ المطّلع على ما يُنشر هنا وهناك يلحظ هذه المقاربات الجديدة وهذه الإضافات الطّريفة الّتي تثبت أنّ غسّان كنفاني حاضر بيننا، متجدّد يأبى التّكلّس وينبذ الثّبات، وأن مخزونه لا ينفد، و معينه لا ينضب، وأنّ أفكاره تظلّ"درسا راهنا وواضحا ودقيقا لكلّ فلسطيني يريد فعلا أن يبرهن أن الفلسطيني يرفض الهزيمة والخيانة" (فيصل درّاج:فكر الثّورة في فكر غسّان كنفاني – الهدف: العدد الخاص 892،21/12/1987، ص ص148-161، أعيد نشره في الهدف العدد40 (1514): آب/ أغسطس 2022 ص ص82-92).