الثقافة
إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن
-
العدد: 7411 - 2022 / 10 / 24 - 09:48
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الثّقافة هي مجموع القيم المادّيّة والرّوحيّة الّتي تبتدعها الإنسانيّة أثناء مسارها التّاريخي. وهي ظاهرة اجتماعيّة تمثّل المستوى الّذي بلغه المجتمع في مرحلة تاريخيّة معيّنة من قبيل التّطوّر التّقني والتّدرّب على الإنتاج والعمل، والتّعليم، والتّربية، والعلم، والأدب والفنون والمؤسّسات الّتي توافق ذلك المستوى. وفي تعريف مختزل جدّا نفهم من عبارة الثّقافة مجموع الأشكال الرّوحيّة لحياة المجتمع الّتي تنشأ وتتطوّر على قاعدة نمط إنتاج الخيرات الماديّة المحدّد تاريخيّا. وهكذا نعني بالثّقافة مستوى التّطوّر الّذي بلغه المجتمع في التّعليم والعلم والأدب والفنّ والفلسفة والأخلاق والمؤسّسات الّتي توافق ذلك المستوى. ومن أهمّ العلامات الدّالة على ما بلغه المستوى الثّقافي في مرحلة تاريخيّة محدّدة يجب أن نتبيّن مدى استخدام ضروب التّقدّم التّقني والاكتشافات العلميّة في مجال الإنتاج الاجتماعي ، والمستوى الثّقافي والتّقني لمنتجي الخيرات الماديّة، وكذلك درجة انتشار التّعليم والأدب والفنون بين صفوف الشّعب.
كانت الماركسيّة اللّينينيّة أوّل من اهتدى إلى حلّ مسألة الثّقافة ومضمونها التّاريخي والاجتماعي حلاّ علميّا، وبيّنت أنّ نشاط الإنسان الرّوحي مرتبط بشروط حياة المجتمع الماديّة، وبطبيعة النّظام الاجتماعي والسّياسي. ويعتبر أصحاب النّظريّة المثاليّة أنّ تطوّر الثّقافة ليس وقفا على الإنتاج المادّي بل على الوعي والرّوح ونشاط الأفذاذ...إلخ ، ويؤكّدون أنّ الثّقافة لا تمتّ بأيّ صلة إلى الصّراع الطّبقي، والسّياسة، وتاريخ الجماهير الكادحة. لذا تتصدّى الماركسيّة اللّينينيّة، بلا هوادة، لكلّ النّظريّات المثاليّة الهادفة إلى إثبات ثبات الثّقافة البورجوازيّة والسّاعية إلى إنكار طابعها الطّبقي وتبرير السّياسة الإمبرياليّة الّتي تمارسها البورجوازيّة لقمع الشّعوب الضّعيفة والتّضييق على ثقافتها وإخضاعها لخدمة أهدافها الاستعماريّة، كما تقاوم محاولات التّستّر على هذه السّياسة التي ترفع شعارات كونيّة المواطنة وحملة الثّقافة..
وعندما تُثبت الماركسيّة اللّينينيّة أنّ الثّقافة ظاهرة اجتماعيّة فإنّها تنطلق من الأطروحة الأساسيّة للماديّة التّاريخيّة الّتي تعتبر أنّ نمط إنتاج الخيرات الماديّة يحدّد أوجه الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والرّوحيّة جميعها. فتطوّر نمط إنتاج هذه الخيرات يحدّد انتقال نظام اجتماعي معيّن وثقافته إلى نظام اجتماعي آخر أرقى منه ، وإلى الثّقافة الّتي يستدعيها. وهكذا فالثّقافة ظاهرة تاريخيّة تتطوّر. وتلك هي قوانين تطوّر أنماط الإنتاج وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الّتي تحدّد مستقبل ثقافة المجتمع الماديّة والرّوحيّة. وتلك هي إذن القوانين الموضوعيّة الّتي تحكم تطوّر الثّقافة الّذي لا يتوقّف على أهواء النّاس وإرادتهم. إنّ ثقافة جديدة لا تظهر إلاّ إذا كانت الشّروط الموضوعيّة لحياة المجتمع الماديّة ناضجة. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كلّ ثقافة جديدة هي، تاريخيّا، مرتبطة بثقافة الماضي. وتعاقب المراحل التّاريخيّة في تطوّر الإنتاج المادّي يولّد تعاقبا في تطوّر الثّقافة الماديّة والرّوحيّة. وقد علّمنا لينين أنّ" الثّقافة البروليتاريّة يجب أن تكون التّطوّر المنطقي لمجموع المعارف الّتي ابتدعتها الإنسانيّة في ظلّ المجتمع الرّأسمالي، ومجتمع الملاّكين العقّاريين الكبار، والمجتمع البيروقراطي" (مهام فيدراليّات الشّباب - م 1954- ص12).
وفي المجتمع المنقسم إلى طبقات متناحرة تكون الثّقافة الرّوحيّة ثقافة طبقيّة. والثّقافة السّائدة هي ثقافة الطّبقة المسيطرة. وهي أداة صراع طبقي وتتطوّر على قاعدة التّناقضات الاجتماعيّة. وفي هذا الصّراع تستخدم مختلف الطّبقات، لتحقيق أهدافها، الوسائل الثّقافيّة مثل المدرسة والعلم والصّحافة والفنون...إلخ.
وكلّما ظهرت أمم وتطوّرت اكتسبت الثّقافة طابعا وطنيّا وتطوّرت متّخذة أشكالا وطنيّة. وهذه الأشكال هي اللّغة الوطنيّة والخصوصيّة النّفسانيّة والمزاج العام والتّقاليد الوطنيّة ونمط العيش ...إلخ. وفي النّظام الرّأسمالي نميّز بين ثقافتين في كلّ ثقافة وطنيّة. فإلى جانب الثّقافة السّائدة البورجوازيّة بمضامينها تتضمّن كلّ ثقافة وطنيّة عناصر ديمقراطيّة واشتراكيّة لأنّ شروط عيش الجماهير الكادحة والمستغلّة، في صلب كلّ أمّة، تولّد بالضّرورة إيديولوجية ديمقراطيّة واشتراكيّة. وتصدّي العناصر الدّيمقراطيّة والاشتراكيّة للثّقافة البورجوازيّة يعكس الصّراع الّذي يواظب العمّال والمستغَلّون على خوضه بإشراف الطّبقة العاملة وحزبها الأممي ضدّ البورجوازيّة والقوميّة البورجوازيّة. وفي الثّقافة الاشتراكيّة الّتي تبتدعها الطّبقة العاملة والجماهير الكادحة، تأتلف التّقاليد التّقدّميّة، الدّيمقراطيّة، الثّوريّة والوطنيّة مع المصالح الحيويّة والمشتركة بين عمّال جميع الأمم ما إن تتكرّس دكتاتوريّة البروليتاريا فوق أرض الواقع.
تمثّل اللّغة عنصرا مهمّا بالنّسبة إلى شكل الثّقافة الوطني. لكن يوجد اختلاف كبيربين الثّقافة في مجملها واللّغة. ففي المجتمع الطّبقي تتّخذ الثّقافة طابعا طبقيّا بينما ليس للّغة طابع طبقيّ، فهي مشتركة بين أفراد الأمّة جمعاء. فالّلغة بوسعها أن تنفع الثّقافة البورجوازيّة والثّقافة الاشتراكيّة على حدّ سواء. وبالإضافة إلى ذلك عندما يبرز نظام اجتماعيّ جديد تتغيّر الثّقافة بينما لا يتغيّر استعمال اللّغة أثناء عديد الحقب الاجتماعيّة.
تجد الخصوصيّة النّفسانيّة لأمّة من الأمم والخصائص الرّوحيّة للنّاس المكوّنين للأمم ترجمتها في خصائص الثّقافات الوطنيّة. فالخصوصيّة النّفسانيّة، وباعتبارها إحدى السّمات الأساسيّة المميّزة للأمّة، هي كذلك أحد أشكال الثّقافة الوطنيّة، وهي تترجم ما هو مشترك من ظروف للعيش بين أناس ينتمون إلى هذه الأمّة. ففي المجتمع الطّبقي ينعكس اختلاف أوضاع الطّبقات الاجتماعيّة وشروط عيشها في اختلاف نفسيّتها الاجتماعيّة. وتتجلّى خصائص الثّقافة الوطنيّة كذلك في نمط عيش النّاس، وباعتبار هذا النّمط أحد أشكال الثّقافة الوطنيّة فهو ترجمة للعادات الّتي تشكّلت تاريخيّا لدى شعب محدّد على قاعدة العلاقات الاجتماعيّة والعائليّة المميّزة لهذا الشّعب، وللطّبائع والأعراف والتّقاليد والطّقوس، ونمط ابتداع شروط العيش ( السّكن، اللّباس ...إلخ) الموروث عن الماضي أو الجديد. وكلّما تطوّر النّظام الاجتماعي وتغيّر حدثت تحوّلات في نمط عيش النّاس الاجتماعي والفردي.
إنّ الصّراع الطّبقي الّذي يهدف إلى القضاء على النّظام الاجتماعي القديم وتعويضه بنظام جديد يقود بالضّرورة إلى تعويض ثقافة ولّى زمانها بثقافة جديدة أكثر تقدّما وأكثر تطوّرا. وتتولّى الثّقافة الاشتراكيّة الدّفاع عن روائع الإنجازات الثّقافيّة الّتي تحقّقت في المراحل السّابقة وتستوعبها لتحويل المجتمع تحويلا ثوريّا وبناء الشّيوعيّة.
إبراهيم العثماني (تعريب)
المصدر: م.روزنتال وب. إيودين (إشراف)، "الثّقافة"، المعجم الفلسفي الوجيز، منشورات إيجان فرلان، باريس، 1977، ص ص 109-111.
M. Rosentahl et P. Ioudine, « Culture », in Petit Dictionnaire Philosophique, Editions Eugène Varlin, Paris, 1977, pp 109-111.