توفيق بكّار والأدب الفلسطيني


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7841 - 2023 / 12 / 30 - 00:15
المحور: الادب والفن     

[ لمّا عادت القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة واستقطبت اهتمام الرّأي العام في كلّ أصقاع العالم ارتأينا أن نذكّر بالدّور الكبير الّذي اضطلع به الأستاذ والكاتب التونسي توفيق بكّارفي التّعريف بالأدب الفلسطيني داخل أسوار الجامعة التّونسيّة وخارجها.]

مقـــــــــــدّمة:

لا غرابة أن يفتتن توفيق بكّار(1927-2017) بالأدب الفلسطيني المشحون بالإيديولوجية و الملتزم بقضيّة الوطن السّليب تأطيرا وتدريسا ودراسة في رحاب جامعة تونسيّة محافظة يستنكف أغلب أساتذتها من الكلام على الإيديولوجية، ويتحاشون الخوض في مواضيع السّياسة متعلّلين بأنّ الجامعة مطالبة بأن تنأى بنفسها عن السّاسة والسّياسة وبأن تقصر دورها على المعرفة الصّرف والدّرس الأدبي.
ولا غَرْو أن يكتب الأستاذ توفيق بكّار عن هذا الأدب ويحبّبه إلى نفوس القرّاء. فالرّجل ظلّ، منذ شبابه، مثقّفا ماركسيا منحازا إلى قضايا الشّعوب المضطهدة فكرا وممارسة، مطّلعا على آدابها المعبّرة عن مشاغلها وتطلّعاتها، مهووسا بمعرفة خصائص كتاباتها. لذا أولى الأدب الفلسطيني المقاوم الاهتمام الّذي هو به جدير، وساعد الطّلبة الباحثين على الإلمام بأهمّ ما يميّزه، وقدّم نماذج منه إلى القارئ العربي.

1- الأدب الفلسطيني في البحوث الجامعيّة:

كنّا قد أنجزنا بحثا موسوما ب"توفيق بكّار وتأطير البحوث الجامعيّة"( اُنظر الحوارالمتمدّن7585- 18/4/2023) تعرّضنا فيه للبحوث المتّصلة بالأدب الفلسطيني والّتي أشرف عليها الأستاذ توفيق بكّار. لذا سنكتفي بالإشارة إليها وإلى أصحابها دون ذكر تاريخ مناقشتها ورقمها. وما نستطيع قوله هو أنّ أغلب أدباء فلسطين حَظُوا بالدّراسة والبحث والتّأطير وبالخصوص كتّاب القصّة والرّواية.
فالطّالب محمّد كمال جردق بحث في "صورة المجتمع اليمني في رواية "نجران تحت الصّفر" ليحي يخلف، والطّالب محمّد الخبو تطرّق إلى" المداليل السّياسيّة والاجتماعيّة من خلال القصص القصيرة لغسّان كنفاني"، في حين تقصّى نعمان إبراهيم الشّهراوي خصائص "الصّورة الشّعريّة ودلالاتها لدى محمود درويش". أمّا ياسين أحمد فاعور فقد أنجز عملين اثنين هما"الثّورة في شعر محمود درويش من خلال مجموعته الشّعريّة "أوراق الزّيتون"، و"السّخرية في أدب إميل حبيبي"، وعالج مصطفى المدائني "الفنّ الرّوائيّ عند جبرا"، ونظر أحمد الجوّة في"شعر معين بسيسو بين الفنّ والموقف""، وتناول محمد رجب الباردي بالدّرس والتّحليل رواية "حبيبتي ميليشيا" لتوفيق فياّض ضمن بحثه الموسوم ب"شخص المثقّف في الرّواية العربيّة المعاصرة".
وكان لأدب المرأة الفلسطينيّة حضور من خلال دراسة شبلاق رئيفة "المرأة، صورها ومواقفها في روايات" سحر خليفة".
لكن يبدو أنّ التّأطير لم يُشف غليل الأستاذ بكّار ولم يُشبع نهمه فأبى إلاّ أن يدلي بدلوه في الموضوع مع طلبة المرحلة الثّالثة من التّعليم العالي (شهادة التّعمّق في البحث D.R.A. ) فدرّسهم"الخصائص الفنية في شعر محمود درويش من خلال"حصار لمدائح البحر"(السنة الجامعيّة 1985)
ولم تقف الرّحلة عند هذا الحدّ فأغرته مدوّنة محمود درويش(1941-2008) بمزيد التوغّل في شعابها فكان له ذلك من خلال منتقيات اختارها ووطّا لها بتقديم وقف فيه على الموضوع المفضّل لدى درويش.

2-محمود درويش- مختارات شعريّة:

أصدر الأستاذ توفيق بكّار سنة 1985 كتابا موسوما ب"محود درويش- مختارات شعريّة" (دار الجنوب /تونس) ضمّنه قصائد منتقاة من المجاميع الشّعريّة الّتي نُشرت بين سنة 1964 وسنة 1984 باستثناء مجموعتي "آخر اللّيل" (1967) و"تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" (1975)، ووطّأ لها بتقديم اختار له من العناوين "مجنون" فلسطين.
وتعكس هذه المنتخبات التّحوّلات الّتي عرفتها تجربة درويش الشّعرية نتيجة الأحداث الّتي عاشها الشّاعر والوطن على حدّ سواء وانعكاساتها على رؤيته الفنيّة. فمجموعتا "أوراق الزّيتون" (1964) و"عاشق من فلسطين"(1966) كُتبتا قبل هزيمة حزيران 1967 وضياع ما تبقّى من فلسطين، ومجموعتا"العصافير تموت في الجليل"(1970) و"حبيبتي تنهض من نومها"(1970) كتبتا بعد الهزيمة وقبل مغادرة الشّاعر الأرض المحتلّة (9/2/1971). أمّا المجاميع الشّعريّة الأخرى فقد كُتبت ومحمود درويش يعيش في المنفى.
وقد تميّزت كلّ مرحلة بجملة من الخصائص الفنيّة وعالجت موضوعات محدّدة. وبعد التّمعّن والتّملّي، وقراءة ما بين السّطور والغوص على أعماق النّصوص المنتقاة أدرك الأستاذ توفيق بكّار أنّ محمود درويش اقتفى أثر الشّعراء القدامى فهام بحبيبته فلسطين على نهج شعراء معلّقات الجاهليّة:تشبيب فبيْن ففراق فرحيل فتِيه فرثاء ففخر. يفتتن محمود درويش بفلسطين فيتغزّل بها .غزل وأيّ غزل هذا؟ فلا هو ينتسب إلى مدرسة الإباحيّين، ولا هويمتح من معين العذريّين. غزل قُدّ من مادّة استعاضت عن العيون الدّعجاء والخدود المتورّدة والقداد الميّاسة بمفاتن فلسطين، "ومفاتن فلسطين أرضها وماؤها وبحرها وسماؤها وأوديتها وجبالها وزيتونها وبرتقالها وقدسها وكرملها وغزّتها وحيفاها ونقبها وجليلها" (التّقديم ص8).
لكن سُرعان ما يُمنى المتيّم بفراق حبيبته فيعيش لحظات البيْن القاسية فيتيه بعيدا عنها ويُسلمه الرّحيل إلى الرّحيل، ويظلّ مطاردا وهو في الرّحيل، تائها. وتظلّ فلسطين حاضرة ساكنة وجدانه. وأنّى له نسيانها وهي الأمّ والعشيقة والحبّ والموت. وهكذا بقدر ما يبتعد عنها يقترب منها. لذا ظلّت فلسطين المدارالّذي يتحرّك فيه محمود درويش. ولا عجب أن يستنتج توفيق بكّار أنّ فلسطين هي أمّ المواضيع في شعره.يقول:"كيفما كان مدخلك إلى شعر درويش وأنّى سارت بك القراءة بين قصائده فأنت من فلسطين إلى فلسطين ولا شيء غير فلسطين. ليست"موضوعا"، وإن حارقا، يعالجه ولا"قضيّة"، وإن مقدّسة، يمجّدها. إنّها أكبر من ذلك وأعظم وأسمى وأجلّ، معنى المعاني والاسم الجامع لكلّ الأسماء. هي الكلّ، كلّ الشّعر وكلّ الشاعر، مبدؤه ومنتهاه وذكراه وأفقه وقيده وحرّيته ومأساته وملحمته، باختصار موته وحياته فيها يُقتل كلّ يوم ومنها يولد من جديد." (التّقديم ص 7).
تقديم هذه المنتخبات موجز مكثّف، موح معبّر تقصّى فيه توفيق بكّار ما يعتمل في أعماق نفس الشّاعر، وأحاط بما يُضمر تارة وما يصرّح طورا. ولعلّ شرح قصيد"لحن غجريّ" يكشف جوانب أخرى من تجربة الشّاعر.

3- قصيد "لحن غجري":

استدعت بيت الشّعر في تونس محمود درويش في شهر جوان 1995 فقدّم توفيق بكّار بمحضر الشّاعر تحليل قصيد"لحن غجريّ" مشافهة ثمّ نُشر النّصّ في مجلّة"الكرمل" الفلسطينيّة عدد57 وأعيد نشره في "شعريّات عربيّة"- الجزء الأوّل-2000 وقد أهداه توفيق بكّارإلى "القدس العربي عاصمة لدولة فلسطين إلى الأبد".
أوغل في تحليل مباني هذا القصيد وتتبّع بإطناب ما يميّزه، وتوقّف طويلا عند بحوره وقوافيه وموسيقاه وإيقاعه ونغماته. وفي الحقيقة يتحدّث درويش عن الغجر ولكنّه يعني فلسطين عملا بالمثل العربي القديم:" إيّاك أعني واسمعي ياجارة". وهل هناك شعب هام على وجهه، بعد الغجر، مثل الفلسطينيّين؟
يقول توفيق بكّار:"شُرَّدٌ هم من أهل الطّريق لا أرض لهم يرجعون إليها. قوم شأنهم السّفر قبله سفر، بعده سفر. لا يقرّ لهم قرار إلاّ أيّاما هنا وهناك من المكان، ثمّ يعبرون، وكثيرا ما يطردون."(شعريات عربيّة ص148)
وهل يختلف محمود درويش عن الغجر في شيء؟"شريد كَهُمْ طريد، يرحل كما يرحلون، ويغنّي كما يُغنّون، ومثلهم يهوى ومثلهم يُصرع من أجل "الحبيبة". ولا حبيبة إلاّ" بلاد بعيدة" اغتصبت منه فهجرها كُرها وما فتئ يحنّ إلى لقياها. أرض لا موجودة ولا مفقودة،موعودة في أفق التّيه" (م.س. ص 148).
هكذا ظلّت فلسطين نغما شجيّا وغصّة في حلقه، حلما يراوده وكابوسا يؤرّقه، هاجسا يتلبّسه في يقظته ومنامه ويلازمه في حلّه وترحاله، وينتصب أمامه في غفوته وصحوته. وهل يُشفى العاشق المتيّم من حبّ حبيبته؟
تلك هي فصول من قصّة توفيق بكّار مع أشعار محمود درويش الّتي أدمن قراءتها وآل على نفسه ألاّ يكرّر مقارباتها. والمقال الموسوم ب"شعر العلامات أو فلسطين بين نظم وخطّ ورسم"(الحياة الثّقافيّة- تونس عدد135/ السنة27/ ماي 2002 ص ص 4-9) شاهد على ذلك.

4- تــقــديـم كتـــاب:

يختتم توفيق بكّار علاقته بالأدب الفلسطيني بالاشتراك في عمل طريف متميّز جمع بين شاعر وخطّاطين ورسّام أغوتهم فلسطين فهاموا بها كلّ على طريقته. وإسهام الأستاذ بكّارهو كتابة مقدّمة "لكتاب يلتقي فيه درويش وشعره بخطّ حسن المسعودي وكامل إبراهيم ورسوم رشيد قريشي" (ص4).
قسّم بكّار عمله إلى ثلاث حركات قدّم في الحركة الأولى قراءته لنتف منتقاة من دواوين "أوراق الزيتون " و"حصار لمدائح البحر" و"مديح الظلّ العالي" .. تمحورت جميعها حول فلسطين الّتي صوّرها درويش فأحسن تصويرها وتفنّن في إبداعها فأجاد. فبدت، من خلال هذه المنتخبات، تتراوح من الموجود إلى المنشود وتعتريها حالات مختلفة متعدّدة. فهي بلاد مقدّسة مدنّسة، وهي أرض مسلوبة مطلوبة، وهي أمّ سباها المغير فهبّ الفادي لتحريرها، وهي عشيقة خُطفت من الشّاعر فلجّ في حبّها وجدّ في الوصال. وهي قصيدة تُكتب باستمرار. فلسطين هي إذن وطن على الأرض وفي النّفس وفي الشّعر.
وينتهي النّظم فيبدأ الخطّ.
تحوّلت هذه المنتخبات على أيدي عراقي ومصري، من أمهر الخطّاطين، إلى معلّقات كُتبت بالخطّ الكوفي. استعمل حسن المسعودي وكامل إبراهيم الخطّ الكوفي وتصرّفا فيه وطوّعاه لنقل صور فلسطين في تنوّعها وتعدّدها. فرسما عالمين متوازيين: عالم الخطّ الكوفي وعالم فلسطين.
الخطّ الكوفي.............................فلسطين
عراقة وحداثة...........................قدم في الزّمان وتجدّد مع العصر
مرونة الأشكال وصلابة لهندسة.........اللّين/ البأس
خطّ بين التّرقيق والتّفخيم...............رقّة بلا ميوعة وشدّة بلا خشونة.
وللخطوط أوزان وأنغام تعكس حالات متضادّة.
ويتّخذ رشيد قريشي هذه الأشعار مادّة لتصريف فنّه الخلاّق فيتلاعب بالحروف والرّموز والألوان والأرقام. ويرسم لوحة بديعة تتفاعل فيها هذه العناصر وتستحيل قصائد درويش شعرا جديدا نظمه رسم. وتندفع الحروف على بياض الصّفحة متّخذة أشكالا شتّى: صاعدة نازلة، من اليمين إلى الشّمال، سطور سويّة حينا وملتفّة على بعضها البعض حينا آخر، وفي الطرّة رموز استخلصها الفنّان من مشاهداته في الحياة أو من قراءاته فيها صدى لنقوش الأقدمين وأشكال الكتابات العتيقة وآثار الصّناعات العريقة، و"من وحي النّار والدّم تحكي بأسلوبها الإشاري تارات الصّراع بين الثّورة والعدوان" (ص9).
وتحتلّ الألوان حيزا مهمّا في هذه اللّوحات.فاللّون الأسود يشيرإلى" اللّيل والنّهار في دورة الأكوان والظّلّ والضّياء في طقسنا العربي والفرح والحزن في مناخنا النّفسي والموت والحياة في وجود الإنسان." والأبيض يشيرإلى"فلسطين ناصعة الوجه موشّحة بالسّواد."
ومع كلّ لوحة تعود لمسة حمراء تسيل كغدير من دم أو تشتعل كلهيب الحريق. وتقابل اللّمسة الحمراء مسحة من زرقة يتردّد معناها بين اليأس والأمل. فهل ترمز الزّرقة إلى راية العدوّ وهي ترفرف فوق الخرائب أم ترمز إلى نبذة من سماء فوق سواد الأرض تنفتح على أفق الرّجاء؟
وتضمّنت هذه الرّسوم أرقاما احتار مقدّم الكتاب في فكّ ألغازها. فهل هي أرقام الغيب؟ أم إحصاء للشّهداء والأرامل والأيتام؟ أم عدّ للزّمان من يوم النّكبة إلى يوم الرّهان والبرهان؟
وخلاصة هذه الرّحلة تكشف أنّ محمود درويش شاعر معذُب بفلسطين، وتوفيق بكّار ناقد متيّم بإبداعه وقارئ هذه المدوّنة وقع أسير هذين الفكّين ولا فِكاك له من هذه"الورطة".
ولئن استقطبت مدوّنة درويش الشّعريّة اهتمام الأستاذ توفيق بكّار وخصّها بأكثر من دراسة فمن الحيف أن نجحد جهده في التّعريف برمز من رموز كتّاب القصّة والرّواية الفلسطينيّتين ونعني بذلك إميل حبيبي (1921-1996)

5-تقديم رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل :

قدّم توفيق بكار منذ سنة 1982، في سلسلة عيون المعاصرة، رواية" المتشائل". وقد ظهرت هذه الرّواية لأوّل مرّة سنة 1974 وقسّمها إميل حبيبي إلى ثلاثة كتب: سمّى الكتاب الأوّل يعاد وصدرت سنة 1972، والكتاب الثّاني باقية وصدرت في أواخر1972، والكتاب الثّالث يعاد الثّانية وصدرت في أواسط 1974. وهذه العناوين الثّلاثة هي أسماء لثلاث نساء أحبّهن سعيد و"خُطفن" منه. وهي رموز لمدلول واحد هو فلسطين في تعدّد أوضاعها وتنوّع أحوالها منذ أن حلّت بها النّكبة سنة 1948.فكيف قرأ توفيق بكّار "المتشائل؟
تخيّر توفيق بكّار لتقديم رواية "المتشائل" عنوانا سمّاه"فلسطين بكاء إلى حدّ الضّحك" وتقصّى واقع فلسطين منذ النّكبة كما رسمته الرّواية وكما نقله إميل حبيبي بأسلوبه السّاخر واعتماده الرّمز والإيحاء من خلال دلالات أسماء النّساء الثّلاث :
*يعاد: اسم يوحي بالعودة. إنّها المرأة الّتي اُقتلعت من فلسطين عَنوة وشُرّدت. فالفلسطينيّون الّذين أجبروا على مغادرة الأرض/ الوطن سيعودون رغم عسف الغرباء الّذين جاؤوا من بلدان بعيدة. وسعيد الّذي أحبّ يعاد وظلّ ينتظر عودتها يبرّر تعاونه مع الاحتلال بهذا الحبّ.
*باقية: هي رمز للمرأة الّتي ظلّت في فلسطين صامدة في وجه الاحتلال.ف"العرب الباقية" في إسرائيل عانوا معاناة شديدة. ورغم تعلّق سعيد بيعاد فقد تزوّج "باقية" وأنجب منها"ولاء".
ولباقية سرّ/كنز وهو صندوق فيه رشّاشة. ولمّا تفطّن "ولاء" للرشّاشة أصبح فدائيّا وأعلن العصيان المسلّح على الدّولة. ومن ثمّ يرمز ولاء إلى جيل جديد يرفض الخنوع والخضوع. وينغلق الكتاب الثّاني على تغييب "ولاء" برصاص العدو.
*يعاد الثّانية: ظهرت يعاد الثّانية وأخوها سعيد الفدائي، ولدت"يعاد" ثائرا يلتحق بالقيادة في الخارج ثمّ يتسلّل إلى الدّاخل في عمليّة فدائيّة فيسجن.
يعاد الثّانية هي صورة فلسطين وقد تجدّد عمرها، وهي تولد مع كلّ جيل. طُردت يعاد الثّانية كما طُردت أمّها منذ عشرين سنة. سلسلة متواصلة من الصّراع الطّويل مع عدوّ شرس حلّ محلّ أبناء الوطن فعرّض البشر والحجر والمدن والشّوارع والأزقّة للتّشويه والمسخ والطّمس.
ارتبط بهؤلاء النّساء الثّلاث البطل سعيد أبي النّحس المتشائل الّذي بسط سيرته الذّاتيّة في ظلّ دولة إسرائيل وقد صاغه إميل حبيبي صياغة مخصوصة. فهو بطل سلبيّ يجيد التّكيّف مع الواقع الجديد الّذي فرضه الاحتلال. وحول هذا الاختيار يقول الكاتب:"كان هدفي باختصار هو تخليص المظلوم من مصيبة توهم القوّة في ظالمه، ولذلك اخترت شخصيّة سلبيّة لتكون بطل الرّواية، شخصيّة جمعت فيها كلّ العيوب الّتي أريد محاربتها، ولكن بطبيعة الحال كان من الضّروري أن أضفي الصّفات الإنسانيّة على هذه الشّخصيّة حتّى يصبح واضحا أنّها ليست فريدة"(انظر فاروق وادي: ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينيّة ص 107).
وسعيد أبي النّحس المتشائل بطل غير مألوف في أدب المقاومة، وهو نموذج مختلف ورحلته هي رحلة البحث عن الخلاص بأسلوب جديد إذ لم يجد مخلّصا كما تمثّله على الأرض فبحث عن مخلّص غيبي.
هكذا فكّك توفيق بكّار رموز هذا النّصّ وشرح ألغازه ويسّر قراءته لمن التبست عليه مراميه البعيدة، وساعد المتلقّي على فهم الرّسالة الّتي أراد إميل حبيبي تبليغها بطريقة فنيّة طريفة تثبت تميّز الكاتب في فنّ السّرد.وقد حفل هذا النّصّ بالأشعار والنّصوص التّاريخيّة والحكايات الشّعبيّة والجناس والسّجع والاشتقاق اللّغوي والخروج على المألوف و...وقد تفاعلت جميع هذه العناصر لتجعل من هذه الرّواية نصّا متفرّدا.

خاتــــــــــــمة:

مكّنتنا هذه الدّراسة من تبيّن علاقة توفيق بكّار بالأدب الفلسطيني ممثّلا في علمين من أبرز كتّابه. وكشفت هذه المقاربات تفاعل النّاقد مع نصوص محمود درويش وإميل حبيبي وسعيه المتواصل إلى إبراز تفرّد هذا الأدب بسبب تفرّد الواقع الموضوعي الّذي يستلهم منه الكتّاب الفلسطينيّون موضوعاتهم.
ولا عجب أن يسهم توفيق بكّار رمز الحداثة والتّجديد في تعريف القارئ العربي بنصوص شعريّة ونثريّة فلسطينيّة هي من عيون الأدب العربي في "عيون المعاصرة" وقديما قيل"وقع الحافر على الحافر".