الأديان والحداثة والفقر الفكري


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 8154 - 2024 / 11 / 7 - 22:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

1- من أجمل وأدق التعريفات التي قدمها الفلاسفة للدين ما قاله ماركس منذ أكثر من قرنين بإنه تنهيدة المظلوم وإنه أفيون الشعوب بمعنى أن الدين لا يحل المشاكل، ولكنه ببساطة يجعلك تنسى أن هناك مشكلة تماما مثل الأفيون. ونحن في العالم العربي من أشطر الشعوب في حل المشاكل عن طريق تجاهلها أو الهروب من استحقاقاتها حتى تكبر وتستفحل ويصبح من الصعب تجاهلها أو حلها، وعندها نحيل المشكلة إلى السماء ونطلب منها الحل. ومن التطبيقات العلمية التي تدعم أو توضح فكرتي أن أحد الأصدقاء في مصر أرسل لي فيديو كليب يصور المآسي والمعاناة التي يعاني منها الفلسطينيون منذ أكثر من عام والعرب يتجاهلون المشكلة. وعند نهاية الفيديو القصير ظهر أحد الشيوخ وهو يدعو الله أن ينصرنا على إسرائيل وأن يرينا فيها عبره وقوته وقال مخاطبا الله "إنهم لا يعجزونك" وهكذا حل مولنا مشكلة الفلسطينيين وهو جالس على مقعده أو نائم في سريره من خلال إثارة حفيظة الله ضدهم، وهذا بالطبع حل سريع للمشكلة وبالتأكيد أسهل من أن يطالب حكومته بقطع العلاقات مع إسرائيل وتقديم الدعم للفلسطينيين والتحرك بشكل جماعي على المستوى الدولي لوقف العدوان السافر لإسرائيل على المدنيين في فلسطين والآن لبنان. وعندما نفشل في الحصول على ما نريد من السماء نبدأ في زيادة جرعة الأفيون من خلال الحلم بنعيم الحياة القادمة فهناك سنتخلص من الظلم والفقر إلى الأبد، ولا يتعين علينا أن نفعل أي شيئ سوى الدعاء والصبر.
٢ وهكذا نرى أن للدين فوائد كثيرة منها إعانة المظلومين والمحرومين على تحمل حياتهم البائسة، كما أنه يخفف من وطأة انتظار الموت على أساس أن هناك حياة أخرى لا يوجد فيها موت، والدين أيضا مفيد للحكام المستبدين في السيطرة على شعوبهم من خلال التحالف مع رجال الدين، وقديما قال أحد الفلاسفة إن الدين حقيقة لا تقبل النقاش لدى العامة، وإنه أونطة وجهل لدى الفلاسفة وأخيرا فإنه مفيد لدى الحكام. وفي اقتصاديات التنمية لاحظنا أن فهم الأديان والتعامل معها بهذا الشكل يزداد في الدول الاستبدادية والفقيرة ويقل في الدول الديمقراطية والغنية، حيث ثبت أنه كلما زاد الغنى قل التدين الشكلي، وكلما زاد الفقر زاد التطرف الديني وزادت حالات التدين المظهري أوالكاذب.
٣ العرب تأثروا بالفكر الوهابي أكثر مما تأثروا بالثورة الفرنسية. ولذلك فإنه على المفكرين العرب الذين يسعون لتطوير وتحديث الفكر الديني في مجتمعاتهم ألا يتجاهلوا قوة نفوذ الثقافة الشعبية والتراثية السائدة والتي يمكن توظيفها بطرق غير مباشرة لتحقيق الكثير من الإصلاحات المجتمعية. فمن يسعى مثلا للدعوة للتسامح الديني وحرية الاعتقاد لن ينجح أبدا من خلال نقل ما قاله فلاسفة التنوير الألمان أو الفرنسيين وتجاهل الموروث الديني والواقع المجتمعي، ولكنه يمكن أن ينجح إذا ما ركز مثلا على النص القرآني القائل بإنه لا إكراه في الدين ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وإذا ما أراد مفكر آخر أن يدعو لحرية الاجتهاد والتفسير في مجتمعه فإن عليه أن يستخدم حديث نبي الإسلام الذي قال فيه أنتم أدرى بشؤون دنياكم وهكذا. وأنا واحد من المؤمنين بأن التراث الديني في كل مكان عبر العالم هو سجن كبير، ولكنه يحتوي أيضا على فضاءات متعددة غير مستغلة. والسبب يكمن في إغلاق باب الاجتهاد من قبل رجال الدين لقناعتهم بأن الحداثة التي ظهرت في أوروبا هي نوع من الغزو الفكري لتدمير التراث والقيم الإسلامية. ولمواجهة هؤلاء فإن علينا أن نذكرهم بأنهم في الوقت الذي يرفضون فيه الجانب الفكري والثقافي للحداثة الغربية فإنهم لا يمانعون في الإقبال على الجانب المادي للحداثة الغربية حيث نستورد منهم كل شيء بما فيه الموبيلات التي يحملونها والسيارات التي يركبونها والتليفزيون الذي يظهرون فيه. وعلينا أيضا أن نذكرهم ونذكر العامة بأن الحداثة الغربية بدإت بالجانب الفلسفي والفكري لتنتقل بعد ذلك إلى الفكر التقني وتطبيقاته العلمية والعملية. ولذلك فإنه على المفكرين العرب الذين يسعون بإخلاص ودأب لنهضة شعوبهم وتحريرها من الاستبداد والظلم والفقر مخاطبة العامة باستخدام التراث الذي تربوا عليه لتوضيح أن الاجتهاد الذي يرتبط فيه الحاضر بالماضي ويفكر في المستقبل هو المضمون الحقيقي لمفهوم التجديد في الإسلام، وأن سر نجاح الحداثة الغربية هو أنها أتبعت هذه المنهجية والتي قامت على أساس السعي للمعرفة بلا حدود ودون أي قيود دينية أو تراثية وتطوير المجتمع اقتصاديا وماديا واحترام حقوق الإنسان وأهمها حرية الاعتقاد والتعبير ودولة القانون. والحداثة الغربية باختصار شديد هي الاحتكام إلى العقل والمنطق والتفكير في المستقبل وليس الهروب إلى الماضي والتغني بأمجاده، واتباع المنهج التجريبي بحرية شبه مطلقة.
٤ ويتبين مما سبق أن الحداثة تهتم بشكل أساسي بالإنسان والطبيعة كبديلين لوجهة النظر اللاهوتية القديمة في فهم الإنسان والطبيعة والتي كانت إقصائية ومتحجرة ولا تتسم بالمنطق، ومع ذلك فقد أكتسب الخطاب اللاهوتي قداسته فقط بحكم قدمه وما مر عليه من قرون دون إن يخضع للنقد والمراجعة. ومع مجيء عصر النهضة فقد تميزعما سبقه من عصور بالجرأة والتسلح بالمنطق والعقلانية وأعاد اكتشاف العالم والإنسان من جديد. ولا ينبغي هنا ننسى حركة الإصلاح الديني التي قام بها القس مارتن لوثر وهي الحركة التي بدأت في ألمانيا ثم شملت عددا من الدول الأوروبية وكانت مناهضة للكاثوليكية وعملت على التقليل من قوة الكنيسة والرفع من قيمة الإيمان الشخصي فوق المظاهر الخارجية للدين. كما أنكر لؤثر أن تكون الكنيسة ورجال الدين وسطاء ين الإنسان والله، ودعا إلى حرية تاويل النصوص المقدسة. وكان لوثر بحق واحدا من المصلحين الدينيين الذين لن ينساهم التاريخ. ومن بعده جاء كانط الذي قدم مفهوم التنوير على أنه خروج للإنسان من حالة كونه قاصرا عقليا وعاجز عن التفكير واستعمال عقله دون الاستعانة بالآخرين، وكانت له جملة شهيرة وهي كن شجاعا ولا تخشى إن تستعمل عقلك. ونحن فعلا في حاجة ماسة لمثل هؤلاء المصلحين الذين نزلوا إلى مستوى الانسان العادي لتحرير عقله وهو أهم وأول خطوات تحرير العقل الديني الذي يعمل عادة داخل إطار المعرفة التي تقدم له جاهزة من قبل رجال الدين وليس أمامه غير أن يقبل ما يقدم له من تفسيرات مقدسة لنصوص مقدسة، لذلك فإن العقل الديني بطبيعته عقل تابع أي أنه يأتي في الدرجة الثانية بعد النص ومهمته لا تزيد عن كونه أداة لتوليد نصوص جديدة من نصوص قديمة، أما أي تفسيرات جديدة أما إي نوع من التجليات الفكرية فهي من المحرمات وكثيرا ما تؤدي بصاحبها إلى المتاعب والإضطهاد.
٥ وأخيرا فإن أملنا في الإصلاح الشامل وليس الجزئي يتطلب نوعا من التنوير مشابه لعصر التنوير الأوروبي والذي أدى بالإنسان إلى أن يثق بنفسه دون خوف إلى درجة أنه أصبح مقتنعا تماما بأن عقله يستطيع التعامل مع كل المواقف والتحديات ويستطيع تسيير كل الأمور الحياتية دون الحاجة إلى المعجزات أوالميتافيزيقا. ومع ذلك ظل الجانب الروحاني حيا، ولكنه أصبح شأن خاص بكل أنسان وليس لأحد أن يتدخل فيه أو يملي إرادته على الآخرين وهذا هو سر الحيوية الفكرية السائدة في الغرب.
مستشار اقتصادي