العقل الديني والحداثة والديموقراطية


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 8295 - 2025 / 3 / 28 - 00:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

الحداثة تعني التأقلم مع العصر والاختلاف عن الأفكار والتقاليد القديمة وهي لا تعني فقط الثقافة والفكر ولكنها تشمل كل مناحي الحياة مثل العملية الإنتاجية والتعليمية والتقنيات الجديدة والتي تتغير بسرعة غير عادية خاصة في المجالات العلمية والمعلوماتية والاتصال والتواصل بين الناس، وهي أيضا تشمل طريقة نظرتنا للماضي وإرثه الثقافي، وهذا بالفعل ما حدث في الغرب حيث اشتملت حداثته بالإضافة إلى العقلانية والحرية والعدالة الاجتماعية علي التقدم الاقتصادي، لانه بدون تقدم اقتصادي "وهو موضوع كبير" يتخلف المجتمع، ومن خلال تجربتنا الاقتصادية فإن أي مجتمع متخلف اقتصادياً ستجده أيضا متخلفا أخلاقيا وحضاريا وثقافيا وفنيا ورياضيا وحدث ولا حرج. ولذلك قامت النهضة في أوروبا على قاعدتين أساسيتين وهما اكتشاف الطبيعة واكتشاف الإنسان ذاته وأن تكون العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة وليس بها وسطاء، وكان هذا قمة التنوير بمعنى أن الإنسان لم يعد قاصرا ولا يمكنه استعمال عقله دون مساعدة الآخرين. والحداثة طالت السياسة نفسها التي أصبحت قائمة على دولة القانون واحترام الحريات الشخصية وأهمها حق التعبير والتملك. أما على المستوي الاقتصادي فقد تمثلت الحداثة في تطوير طرق الإنتاج وعلاقاته وتوزيع الثروة بشكل عادل لتحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار المجتمعي.
أما إذا ما تحدثنا عن العقل الديني فإنه سجين الماضي والنصوص الدينية، ولذلك فإن الحداثة لديه هي التمسك بالماضي حتى نهاية الزمن، لأنه عقل لم يتغير منذ نشأته في العصور الوسطى ولذلك لا يمكنه أن يتنافس أو يتجادل مع الفكر الحداثي الذي يتطور باستمرار بحكم أن لديه عقل مستقل يبحث دائما عن الحقيقة في كل المجالات. أما العقل الديني الثابت في مكانه وأفكاره فإن الحقيقة بالنسبة له موجودة في المذاهب القديمة فقط وهي خالدة وغير قابلة للتغيير ولذلك لم يعد أمامه أي بدائل للاستمرارية سوي تكفير كل ما هو مختلف عنه. والسؤال إلى متى؟ كما نرى فإن المنطق يقول إن أي شيئ معوج أو مائل لا يمكنه الاستمرار بهذه الوضعية، فإما أن ينصلح حاله ويستقيم وإما أن يسقط. والسقوط هنا هو الأرجح لأن مظاهر التصدع في ازدياد ومن أهمها أن الأديان فقدت الكثير من وظائفها الأساسية مثل مراقبة الحاكم والاهتمام بالشأن العام ومشاكل الناس ورفع الظلم عنهم وتعزيز الوازع الأخلاقي لديهم باعتبار أن الدين هو المعاملة. ولكن ما نلاحظه على أرض الواقع عكس هذا تماما، فالكذب والفساد والغش وقلة الذوق أصبحت أشياء معتادة ورجال الدين مشغولين في الإثراء والدجل على الناس، والأسوأ من كل هذا هو نجاح تحالف السلطة مع الثروة في ضم كبار رجال الدين لتحالفهم وكما أقول دائما أن كبار رجال الدين عندنا يمتلكون قدرة عجيبة على العيش في سلام وانسجام والتأقلم مع كل ما حولهم من ظلم وفساد، وهكذا ضاع دور الدين في هذه البيئة السيئة ولم يعد له أي دور في تحرير شعوبنا من الاستبداد الذي ابتليت به منطقتنا العربية عبر تاريخها الطويل. والشيء الوحيد الذي يقدر عليه رجال الدين هؤلاء هو مهاجمة وتشويه العلمانية دون فهم، ومهاجمتها بشراسة من خلال الادعاء الكاذب بأنها ضد الأديان وتدعوا الناس للكفر! والحقيقة أن العلمانية تدعو لفصل الدين عن السياسة حماية له ومنعا لاستغلاله في مستنقعات السياسة للوصول إلى السلطة، هذا بالإضافة إلى أن العلمانية تدعو لحرية التفكير والاعتقاد وتذكر الناس بآيات مثل "لا إكره في الدين". والعلمانية أيضا تدعو لاحترام حقوق الإنسان وهناك يهود ومسيحيون علمانيون ويدعون لوقف الاعتداءات الوحشية التي تقوم بها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في الوقت الذي يكتفي فيه رجال الدين بالمشاهدة. أما عن الديمقراطية فإنه تعرف بشكل أساسي على أنها حكم الشعب، ولكن هذا غير حاصل في معظم دول العالم بما فيها الدول الغربية التي تسمى بالدول الديموقراطية، ومن أمثلة هذا، نتساءل هل الأمريكان في ظل ترامب هم من يحكومون أمريكا أم أنه ترامب؟ الذي يحكم الآن وكأنه ملك ويصدر ما يشاء من قرارت تنفيذية دون الرجوع للكونجرس الذي يمثل الشعب، وفي تركيا هناك الآن مظاهرات ضخمة ضد أردوجان بسبب اعتقاله لعمدة إسطنبول متهما إياه بالفساد وفي الحقيقة فإنه معتقل لأنه معارض لأردوجان. ولاحظ هنا أن إردوجان يعتقل المئات يوميا لمجرد أنهم يعترضون على حكمه واعتقال العمدة، فأين هنا حكم الشعب؟ وبالرغم من هذا فإن الديمقراطية مبدأ جيد وهام لأنها تسمح للناس أن يختاروا من يحكمهم، ولكنها لا تسعفهم على خلعة في حال إكتشافهم إنه حاكم سيئ والسبب في هذا أنهم هم من قاموا باختياره ومن ثم فإن عليهم الانتظار للانتخابات المقبلة حتى يستطيعوا خلع هذا الحاكم السيئ وأختيار غيره، وهنا تتبين واحدة من مزايا الديمقراطية وهي أنها تساعد على الاستقرار وهذا بلا شك أفضل من الفوضى والانقلابات.ومن المزايا الأخرى للديمقراطية أنها تساعد على الابتكار التغيير لما هو أفضل وسيادة الشفافية في المجتمع والحد من الفساد وسؤ الإدارة وذلك لأنها تحمي حرية الرأي. وكل هذه المزايا عوامل مساعدة للنمو الاقتصادي الذي نهدف من خلاله تحقيق الرفاهية للمجتمع وهذا من أهم دعائم الدولة الحديثة. أما في المجتمعات الدينية والتي تعمل بمبدأ أطيعوا أولي الأمر فإنه لا مكان هنا للديموقراطية لإن أولي الأمر ينظرون إليها على أنها مدعاة للفوضى وعدم الاستقرار ولذلك فإن هذه المجتمعات لا ترحب بحرية الرأي والتعبير. وللأسف فإن هذه المجتمعات لا ترحب بالتغيير أو الابتكار وتروج لنظرية السلف الصالح وأن كل بدعة ضلالة ولذلك فإن العقل الديني في حالة اضمحلال مستمرة طالما أن مولانا يحذرنا من مخاطر التفكير الحر وأن علينا ألا نعمل عقولنا وأن نعتمد عليه لان لديه الخبر اليقين. ولأن الناس اعتادت على الاستبداد والقهر فإنها لم تعد تبالي بما هو حولها والأخطر من هذا أنها بدأت تصدق أكاذيب أن الاستقرار أهم من أي شيء آخر وأن علينا أن نضحي بكل شيء من أجله، وأن كل ما حولهم من مظاهر التدين المظهري والكاذب هي علامة على عودة الدين، وكما أن الابتكار والتجديد كان شعار عصر النهضة، فإن العودة للماضي الأصيل أصبح شعار السلفية.
وبعد فإن الصعوبة لا تكمن في تطوير أفكار جديدة بقدر ما تكمن في التخلص من الأفكار القديمة.
مستشار اقتصادي