كيف نحافظ على قيمة مدخراتنا


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 8049 - 2024 / 7 / 25 - 22:58
المحور: الادارة و الاقتصاد     

يهدف المقال الى إيضاح كيف أن حكوماتنا في الكثير من الدول العربية هي أحد الأسباب الرئيسية في تدهور حال متوسطي الدخل وتآكل قيمة مدخراتهم. كما سوف نقترح بعض طرق الاستثمار التي يمكن من خلالها المحافظة على قيمة مدخراتنا ضد سياسات تخفيض العملة والتضخم.
في ظل انخفاض معدلات نمو الاقتصاد العالمي منذ اندلاع أزمة وباء الكوفيد وعودة مئات الملايين عبر العالم إلى دائرة الفقر المدقع من جديد بعد أن كانت أحوالهم في تحسن منذ بداية هذا القرن، هذا بالإضافة إلى التقلبات الدائمة للاقتصادات العالمية وسؤ أداء الاقتصادات المحلية في العديد من الدول العربية وعدم الشفافية والثقة فيما هو أتى بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والصراعات الإقليمية والحروب والكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية التي تضرب في كل مكان عبر العالم. إزاء هذا فإنه يتعين علينا جميعا أن نكون مستعدين للتعامل مع أي تطورات سلبية محلية أو إقليمية من خلال الادخار المدر للعائد لأن أول من يتأثر بأي تطورات سلبية هو قيمة العملة المحلية ومدخراتنا وشقاء عمرنا والتي كان من المفترض أن تكون خط دفاعنا الأول في وقت الأزمات، ولكن الحكومات باتت تتلاعب بقيمة العملات الورقية كيفما تشاء وبما يخدم مصالحها. وكما ذكرنا في العديد من مقالاتنا السابقة فإن أسرع طريقة لإفقار المواطنين في أي بلد هي تخفيض قيمة العملة المحلية بشكل مفاجئ في إطار سياسات نقدية ومالية لا تبالي بما قد تسببه من أذى للناس مثلما حدث عدة مرات في مصر وغيرها حيث ينام المواطن مطمئنا وعندما يستيقظ في الصباح يجد أن مدخراته التي كانت تعادل مثلا خمسين ألف دولار أصبحت تساوي ٢٥ ألف دولار فقط خلال ساعات محدودة، بينما من كان معه في هذه الليلة السوداء ٢٥ ألف دولار فإنه سيجدها في الصباح تعادل ضعف ما كانت عليه بالعملة المحلية، أي ثروة من السماء. والسبب قرار سيادي صدر في منتصف الليل بتخفيض قيمة العملة أمام الدولار! وللأسف فإن هذا التلاعب شأئع والسبب هو أن الحكومات لدينا تسيطر على العملة المحلية والبنوك المركزية والتي كان ينبغي أن تتمتع بالاستقلالية التامة عن الحكومات لإدارة السياسة النقدية بمعايير فنية بحتة وليس سياسية كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية. ونود هنا أن نثير مسألة فلسفية حول دور الحكومات في إدارة السياسة النقدية لأنها أصبحت السبب الأول والمباشر في إفقار الناس وتآكل قيمة مدخراتهم. والمفارقة هنا أن الحكومة التي نحن من ينتخبها تنتهك أحد حقوقنا الأساسية من خلال قيامها بتخفيض قيمة العملة ومدخراتنا بدون موافقتنا، لأن هذه المدخرات ملك لنا وليس للحكومة التي تسيئ استخدام السلطة التي استمدتها منا وأصبحت تتعامل معنا وكأننا نعيش في غابة الغلبة فيها للأقوى. وللعلم فإن الحكومات هنا في الغرب لا يمكنها أن تحدد سعر العملات المحلية بأي شكل لانها مسألة تحددها الأسواق بأليات العرض والطلب. ولذلك فإن ما يحدث في بلادنا من تخفيض للعملة بشكل مفاجئ هو جريمة، فبالإضافة إلى افقار هذه السياسة للناس فإنها توسع الفجوة بين محدودي الدخل وبين الأغنياء كما بينا في المثال البسيط الذي ذكرناه أعلاه. وكما هو معروف فإن أحد المهام الأساسية للبنوك المركزية في الغرب هي حماية الناس من التضخم عن طريق التدخل القوي في الأسواق من خلال سياساتها النقدية المتعددة للمحافظة على قيمة العملة المحلية حماية لمدخرات الناس. وهذه أمثلة صغيرة عما يحدث في البلاد الغربية التي نسميها ببلاد الكفار، أما لدينا في بلاد المؤمنين فإن الحكومات هي السبب في صناعة التضخم من خلال طباعة النقود الرخيصة غير المغطاة وإغراق الأسواق بها.
وعادة ما يكون السبب في تخفيض قيمة العملة المحلية هو وجود مديونية ضخمة للخارج وارتفاع نسبة خدمتها ويتواكب هذا عادة مع وجود عجز كبير ومزمن في ميزان المدفوعات خاصة الميزان التجاري وهو ما يعني عدم كفاية موارد الدولة من النقد الأجنبي، هذا بالإضافة إلى وجود مشاكل هيكلية أخري مثل انخفاض نسبة الاحتياطيات الأجنبية وانخفاض المدخرات العامة منسوبة للناتج المحلي الإجمالي وانخفاض معدلات الإنتاجية وغيرها من المشاكل الهيكلية التي تحتاج الى مقال آخر. والمهم أن الحكومات بدأت تستسهل حل تخفيض العملة المحلية أملا في يؤدي هذا إلى تشجيع الصادرات والحد من الواردات وبالتالي زيادة موارد الدولة من النقد الأجنبي، ولكن الحكومة هنا تتجاهل الأثر السلبي الذي يحدثه تخفيض قيمة العملة على حياة الناس خاصة أصحاب الدخول الثابتة وأرباب المعاشات، كما أن بعض الحكومات تلجأ إلى طباعة النقود غير المغطاة لتغطية العجز في موازنتها العامة بدلا من محاولة ترشيد النفقات العامة أو زيادة إيرادتها من الموارد السيادية خاصة الضرائب المباشرة التصاعدية على الأثرياء وليس الضرائب غير المباشرة التي يعاني منها محدودي الدخل وليس الأثرياء.وما نود أن نركز عليه هنا هو أن تخفيض قيمة العملة بقرار سلطوي وإغراق الأسواق بالنقود الرخيصة يؤديان إلى إشعال التضخم وانخفاض القوة الشرائية للعملة المحلية ومعاناة محدودي ومتوسطي الدخل وهو ما يعتبر جريمة في حقهم وفي حق الشباب من الجنسين الذين يعانون من البطالة المقنعة والعنوسة والضياع حيث أصبحت حياتهم لا تطاق وهم يرون دخولهم ومدخراتهم المحدودة والحكومة تلتهمها بدون أي حياء أوحذر حيث أصبحت هذه الحكومات غير المسؤولة تخدع الشعوب بالنقود الورقية الإلزامية لهم بينما هي لا تلتزم بشيء في إدراتها للسياسات النقدية والمالية حيث لم تعد النقود الورقية مخزنا للقيمة كما هو الحال في الغرب، وهو ما يضطر الكثير من الشباب -في خضم محاولاتهم للحفاظ على قيمة دخلهم ومدخراتهم- إلى أخذ مخاطر عالية مثل محاولة الهجرة غير الشرعية للغرب في مراكب بدائية أو استثمار ما تبقى من مدخراتهم في أوعية استثمارية خطيرة دون فهم كاف لها مثل النقود المشفرة والرقمية ومنها البيتكوين التي كتبنا عنها من قبل وبينا بشكل مختصر أن هذا النوع من الاستثمار إما أن يحقق إرباحا طائلة أو خسائر فادحة ولا يوجد وسط هنا. ولذلك فإننا ننصح هنا بعدم الاستثمار في أي شيء إلا بعد فهمه بشكل جيد. وبدلا من هذه الاستثمارات التي تتسم بالمقامرة، فإننا نود أن نقدم بعض النصائح للمدخرين الباحثين عن أدوات إستثمارية ذات مخاطر محدودة وهي أيضا تحافظ على قيمة مدخراتنا بدلا من التركيز فقط على العملات الورقية المهددة دائما بالخفض والتضخم:
1)الاستثمار في الذهب غير المصنع " السبائك الصغيرة" ولكن ليس الان وإنما فور حدوث حركة تصحيح كبيرة في سعره وهذا يحدث باستمرار. ولي مقال على صفحتي في الحوار بعنوان "لماذا ننصح بالادخار في الذهب" وقد نشرتها في 20‏/8‏/2020. وقتها كانت أونصة الذهب تباع بحوالي 1170 دولار، ولكن هذا السعر تجاوز الآن 2400 دولار أي أكثر من الضعف وذلك في فترة أربع سنوات فقط، فهنيئا لمن عمل بالنصيحة
.
٢) علينا أن نحاول قدر الاستطاعة استبدال جزء من مدخراتنا بالعملة المحلية إلى دولارات أو يورو أو إسيترليني أو ريال سعودي باعتبار أنها عملات قابلة للتحويل وتتسم بالاستقرار.
٣)الاكتتاب في محافظ الاستثمار المحلية بعد مراجعة أدائها وكوبونات توزيعاتها خلال الخمس سنوات الماضية لمعرفة ما إذا كانت تنمو بمعدلات معقولة أم أنها في حالة ثبات أو تراجع، بالإضافة إلى معرفة مكونات المحفظة والتي تتكون عادة من أسهم وسندات وودائع…الخ وينبغي أيضا معرفة نسبة المصاريف الإدارية التي تتقاضاها هذه الصناديق من العملاء والابتعاد عن الصناديق التي تفرض نسبة على أصول المحفظة وليس على النمو والإرباح الموزعة. ومن أهم مزايا الاستثمار في هذه الصناديق هي أن قيمتها تزيد مع ارتفاع معدلات التضخم بمعنى أنها تحمي مدخراتنا من التضخم ألى حد بعيد.
٤)وبحسب ما أسمع فإن هناك صناديق للاستثمار في بعض الدول العربية تقدم محافظ استثمارية في المؤشر الخاص بالبورصة، والحقيقة أنني لا أعرف ماذا تسمى بالعربية، ولكنها في الغرب تسمى بال All Share Index Fund ونحن ننصح بالاستثمار فيها لأنها تعني أن تستثمر في أداء البورصة ككل وهو ما يمثل نوعا من الحماية الجيدة ضد التقلبات التي تشهدها كل بورصات العالم.
٥)كما إن هناك صناديق استثمارية تخصص جزءا من محافظها للاستثمار في الخارج خاصة في الغرب وهي تسمى بال Funds Offshore وهي تعني باختصار إنها تستثمر جزء من السيولة لديها عبر البحار خاصة في الأسواق المالية الأمريكية، فإذا وجدنا مثل هذه الصناديق في بلادنا فإننا ننصح بالاستثمار بها لفترة لا تقل عن الخمس سنوات حتى تتمتع بعائد جيد.
٦)لا يوجد أي شيء في هذا العالم بدون مخاطر بما فيها كل الإوعية الإستثمارية التي أوصيت بها ويكاد أن يكون مستحيلا أن يحقق إي نوع من الاستثمارات ربحا على طول الخط، وإزاء هذا فإن العمليات الاستثمارية تتطلب نوعاً من الصبر وعدم التعجل في إصدار الأحكام لان كل ما أوصينا به من استثمارات هي من النوع متوسط الأجل إي من خمس إلى عشر سنوات حتى تحقق العائد الذي ننشده. وعلى سبيل المثال فإن الذهب في حالة تذبذب مستمرة وشهد بعض الانخفاضات الحادة في خلال الأربع سنوات الماضية، ولكن من صبر لمدة أربع سنوات فقط حقق عائدا تجاوز ال ١٠٠٪؜.
٧)وبعد فقد عرضنا لعينة من الاستثمارات المألوفة للناس والتي لا تحتاج لنوع من الاحتراف مثل السندات وصناديق التحوط والمضاربة على الأسهم والمشتقات المالية مثل ال options بأنواعها المتعددة، كما لم نعرض للاستثمار في الممتلكات مثل الأراضي والعقارات بأنواعها وهي عادة ما تكون استثمارات مربحة على الأجل الطويل، ولكنها تحتاج لرؤوس أموال كبيرة وخبرة ووقت وجهد وقدرة خاصة على تحمل وجع الدماغ. والخلاصة أنه ليس من الحكمة أن نضع كل مدخراتنا في النقود الورقية خاصة في عالمنا العربي المبتلى بالتضخم الجامح وهوأصعب أنواع التضخم ويؤدي إلى الانخفاض المستمر في القوة الشرائية للعملات المحلية ولذلك يلزم أن نفكر بجدية وسرعة في توزيع مدخراتنا بين أوعية استثمارية مختلفة كما أوضحنا في المقال. مع تمنياتي بكل التوفيق.