عن الوضع الاقتصادي المقلق في مصر-٢
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن
-
العدد: 7518 - 2023 / 2 / 10 - 00:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عرضنا في الجزء الأول من هذا المقال لأهم مشكلتين تواجههما الحكومة المصرية وهما التضخم الجامح وارتفاع حجم الدين العام الداخلي والخارجي.وذكرنا أن الحكومة ترجع هذه المشاكل للحرب الأوكرانية، وقلنا إنه لا يمكن علميا ولا واقعيا تفسير سبب أي ظواهر وتحديات كبيرة بإستخدام نظرية العامل الواحد التي ثبت فشلها ولم تعد مقبولة في كل الإوساط الأكاديمية بسبب تطور العلوم وما طرأ على العالم من تعقيدات وتداخلات وتراكمات لا يمكن تجاهلها لخداع الناس من خلال تبسيط وتستطيح المشاكل، وقلنا تحديدًا إنه لا يمكن الادعاء بإن كل التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها مصر كانت بسبب حرب أوكرانيا فقط ولكنها ترجع إيضا لأخطاء في السياسات والتخطيط ولاختلالات هيكلية قديمة ومتراكمة. وفي هذا الجزء سوف نعرض لأهم هذه الاختلالات مع تقديم بعض المقترحات.
١ولعلى أبدأ بالرد على استفسارات وصلتني من بعض الأصدقاء عن السبب في تعارض تقديراتنا لمعدلات التضخم في مصر مع تقديرات الحكومة والتي تقول بإن معدل التضخم الحالي في حدود 22.5% بينما نقول إنه لا يقل عن 70% والسبب في رأينا وراء هذا التفاوت الكبير يرجع إلى أن الطريقة المستخدمة في مصر والعديد من الدول لحساب التضخم على أسأس الرقم القياسي لسلة من السلع والخدمات لا تتسم بالدقة وتؤدي إلى تقليل نسبة التضخم عما هي عليه في الواقع وما يكابده الناس في حياتهم اليومية. أما الطريقة الاقتصادية الأدق والملائمة للظروف السائدة على مستوى العالم الآن فينبغي أن تأخذ في الاعتبار ما يلي:
نسبة الزيادة في أسعار السلع الغذائية الأساسية للأغلبية + نسبة الزيادة في أسعأر الطاقة والوقود + التغيرات في قيمة العملة المحلية أمام الدولار أوغيره من العملات الرئيسية وذلك لاحتساب ما نسميه بالتضخم المستورد + الرسوم والضرائب غير المباشرة التي تفرضها الدولة على كل شيء + مستوى التباطؤ الاقتصادي وذلك لأثره السلبي على مستويات التوظيف والأجور والرفاهية المجتمعية + توقعات الناس للتضخم في المدى القصير بمعنى أنه عندما يتوقع الناس أن التضخم سوف يستمر في الزيادة، فإن التضخم يزيد فعلا، لأن الناس قد تندفع للشراء والتخزين قبل أن تزيد الأسعار أكثر و أكثر ومن ثم يستمر التضخم في الزيادة + وأخيرا فإن هناك جزء من التضخم لا نعرف مصدره خاصة في بلاد العالم الثالث وأنا شخصيا أرجعه للاحتكارات وعمليات التلاعب والتحكم في الأسعار التي تتم بالتنسيق بين التجار. وفي مصر يطلقون على هذه الممارسات الدنيئة سياسة "تعطيش السوق" حتى ترتفع الأسعار. ومن الصعب على الحكومات إحكام السيطرة على هؤلاء من مصاصي الدماء. وبعد فلو أننا حسبنا التضخم أخذين في اعتبارنا هذه العوامل لوجدنا أنه بالفعل أعلى من ٧٠٪ ولكل هذه الإسباب سجل الجنيه أسوأ أداء في تاريخه في العام المنصرم ونحن نتمنى أن يكون الحال أفضل هذا العام بمشيئة الله.
2-المشاكل الهيكلية القديمة وكيف زادت سؤا:
2.1الاعتماد على الواردات في الكثير من السلع الغذائية ومستلزمات الإنتاج ولذلك فإن لدينا عجز مزمن في الميزان التجاري وهو من أهم مكونات ميزان المدفوعات. ويرجع هذا إلى ضعف الجهاز الإنتاجي وقلة إنتاجية العمالة. وهذه المشكلة كان من الممكن التقليل من حدتها على مر السنين من خلال التخطيط الجيد ونظام جيد للأولويات في النفقات العامة لضمان تحقيق توفير حد مقبول من الأمن الغذائي. وعبر العشر سنوات الماضية زاد الوضع سؤا حيث لاحظنا أن مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي بدأت تتقلص بسبب منافسة الجيش له في معظم المجالات الاقتصادية مع تمتع الجيش بمزايا ضريبية ومزايا أخرى عديدة لا تتوفر للقطاع الخاص. كما بدإنا نشهد تغير نظام الأولويات في الأنفاق العام الذي بدأ يزداد في مجال المشروعات الضخمة والبنية التحتية وبالطبع فإن الأخيرة مطلوبة ولكنها كانت على حساب ما نسميه بالبنية الفوقية وهي بناء الأنسان ذاته من خلال الانفاق على تحسين ظروف التعليم ومستوى الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية ومراكز رعاية المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال، بالإضافة إلى توفير مساكن اقتصادية معقولة للشباب في كل المحافظات لمساعدتهم على الزواج لحل مشكلة العنوسة التي يعاني منها الملايين من غير القادرين في الوقت الذي يتم فيه الانفاق على التجمعات السكنية الفاخرة بسخاء شديد. ونحن هنا نذكر المسؤلين في بلدنا الحبيب مصر بأن الناس هي التي تدفع ما تنفقه الحكومة، وما يجري في أولويات الانفاق العام حاليًا ليس من العدل في شيء.
2.2– من المشاكل الهيكلية القديمة والتي تدهورت أكثر خلال العشر سنوات الماضية مشكلة الديون المحلية والخارجية بحيث وصل الدين العام إلى أكثر من ١٠٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وكانت هذه النسبة منذ عشر سنوات حوالي ٣٤٪ فقط ،علما بأن حد الأمان كما نراه في الاقتصاد هو ٦٠٪، والحكومة لا ترى في هذا أي مشكلة بدعوى أن هذه النسبة في الكثير من الدول المتقدمة تتجاوز حد ال ١٠٠٪ ولكننا نقول هنا أن هنالك فرق كبير بيننا وبينهم وهو أن ديون الدول الكبرى بعملتها المحلية وليست بعملات دول أخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المديونية الهائلة في مصر كانت بسسب الأنفاق الضخم على المشروعات الضخمة التي تحدثنا عنها والتي لم تدر أي عائد يذكر حتى الآن. والأسوأ من هذا هو أن خدمة هذه الديون تستحوذ على ٥٠٪ من إيرادات الحكومة، وكانت هذه الديون أيضًا أحد أسباب تخفيض التصنيف الإتماني لمصر وهو ما يؤثر بشكل سلبي على عملية جذب الاستثمارات الأجنبية التنموية التي تحتاجها مصر، هذا بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الحصول على ديون جديدة والتي أصبحت مصر بحاجة سريعة لها للوفاء بمستحقات الديون وهو ما جعلها تقبل بدخول الأموال الساخنة مرة أخرى والتي تحدثنا عنها في المقال السابق.
2.3 من المشاكل الهيكلية والتي لها أيضا تاريخ قديم في السياسة النقدية والمالية لمصر هي أسلوب تمويل العجز في الموازنة العامة والذي يعتمد على إصدار أذون خزانة بأسعار فائدة عالية بالإضافة إلى طبع نقود جديدة للإنفاق على المشاريع الحكومية وليس هناك مشكلة في الأسلوب هنا لان كل الحكومات تفعل هذا ولكن المشكلة عندنا ليس في الشكل بقدر ما هي في المضمون، بمعني إن من مبادئ السياسة المالية التي تتسم بالكفاءة أن تضمن طريقة إعادة سداد الدين من خلال المشروعات آلتي تمول بهذه الديون لضمان استدامتها والحفاظ على استقرار الأسعار. ولكن ما يحدث في مصر الان مناقض لهذا حيث يتم إنشاء كل هذه المشروعات الضخمة بدون عمل دراسات جدوى لها لأن الرئيس السيسي لا يؤمن بهذه الدراسات ويعتبرها مضيعة للوقت وبالنتيجة فإن البلايين تنفق على مشروعات غير معروف كيف ومتى ستدر دخل ومنها على سبيل المقال ١٦ برج في العاصمة الجديدة منها ما يسمى بالبرج الإقوني بحسب بين الحكومة. وهنا فإننا لا نستطيع أن نلوم متخذ القرار وحده، ولكن أيضا من صنع هذه القرارات والسلطة المناط بها مسؤولية الرقابة على النفقات العامة.
2.4ان لسياسة التمويل بالعجز والديون الحكومية التي تحثنا عنها سابقًا دور كبير في زيادة السيولة المتداولة وارتفاع الدين المحلي إلى مستوى ٥ تريليون جنيه وأيضا تحول التضخم إلي نوع مؤلم من التضخم الجامح، وهو ما دعا الحكومة إلى محاولة سحب هذه السيولة من الأسواق للسيطرة على التضخم عن طريق طرح شهادات ادخار لمدة عام بنسبة عائد ٢٥٪ في العام. من ناحية المبدأ فإن هذه سياسة جيدة لاحتواء التضخم ولكنها سياسة قصيرة الأمد هدفها مجرد تأجيل المشكلة وليس حلها، لأن هذه الشهادات سوف تستحق بعد عام وعندها تعود هذه السيولة الضخمة والتي تقدر بمئات المليارات بالإضافة إلى عائد ال ٢٥٪ عليها لتغرق الأسواق من جديد ولترفع التضخم إلى معدلات أكبر مما كان عليها. واقتراحي للتعامل مع هذه المعضلة يتمثل في أن على الحكومة والبنك المركزي أن يستعدا من الآن لما سيحدث بعد عام من خلال طرح أسهم في شركات الجيش الرابحة والمتداولة في البورصة المصرية علي أصحاب شهادات الادخار بشكل اختياري وأعتقد أن أغلبهم سوف يقبل بهذا الاقتراح طالما أن هذه الشركات ت مسجلة في البورصة ويسهل بيعها في أي وقت وتقوم بتوزيع أرباح سنوية معقولة على المكتتبين فيها. وحتى لو أن بعض هذه الشركات لم تسجل بعد في البورصة فإن هذا يمكن أن يتم خلال هذا العام. ونقطة البدء في هذا تكون بإعلان الحسابات المالية المدققة لهذه الشركات بحيث يمكن تقييمها بشكل عادل للجميع كما نفعل في أي عملية IPO جديدة في أوروبا وأمريكا وبهذا نتجنب عودة التضخم الجامح من جديد. ومن المزايا الأخرى لاقتراحنا هذا وباختصار شديد ما يلي:
• تلبية أحد المطالب الأساسية لصندوق النقد الدولي وهي الحد من تواجد الجيش في معظم الأنشطة الاقتصادية، واقتراحنا يلبي هذا المطلب من خلال تملك القطاع الخاص والمساهمين الافراد لأسهم تفي هذه الشركات مع الإبقاء على حصة معقولة للجيش إن أراد.
• توفير سيولة كبيرة لشركات الجيش من خلال طرحها للاكتتاب العام وهو ما يمكنها من التوسع في أعمالها وخلق وظائف جديدة للشباب الذين يعانون من البطالة منذ سنوات عديدة.
• إتاحة الفرصة للمصريين لتملك شركاتهم الناجحة بدلا من حصر هذا الحق لغير المصريين فقط كما هو الحال الآن.
• وأخيرا فإن أملنا من مقالنا هذا في جزئه الإول والثاني هو الحفاظ على مواردنا وثرواتنا المحدودة وحماية الفئات الضعيفة والحفاظ على الاستقرار المجتمعي في بلادنا من خلال التوظيف الكفء للسياسات النقدية والمالية ومبادئ الحوكمة الرشيدة.
وبعد فإننا لا نهدف فقط للنقد وإنما نحاول بجدية اقتراح حلول للمساهمة في إخراج بلادنا الحبيبة من أزماتها والتخفيف من معاناة أبنائنا والله وحده يعلم حجم ما يشعر به كل مواطن عربي مغترب من قلق على بلادنا ونحن نراها تتساقط في فخ الفوضى واحدة وراء الآخرى بسبب الاستبداد وسؤ الإدارة والفساد، ولم يعد لدينا ما نحلم به سوى أن نضمن قوت يومنا.
محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي