نوبل وفتح جديد في علم الاقتصاد
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن
-
العدد: 7067 - 2021 / 11 / 4 - 22:43
المحور:
الادارة و الاقتصاد
يهدف المقال إلى بيأن بعض أوجه القصور في عملية تصميم بعض السياسيات العامة الحكومية وعرض لبعض الجهود الأكاديمية الاقتصادية التي تسعى للتخفيف من أوجه هذه القصور، ومن أفضل هذه الجهود الأبحاث الجديدة التي تقدم بها بعض الأكاديميين ونالت جائزة نوبل في العام الماضي وهذا العام. وسوف أعرض بشكل موجز ومبسط لأهم هذه الأبحاث والتي سوف تغير طريقة تحليلنا ومعالجتنا للكثير من التحديات الاقتصادية التقليدية والمستجدة. وبداية أود أن أعرض بعض الملاحظات الشخصية لقضايا اقتصادية كم شغلتنا في المجتمع الأكاديمي ولا زالت تحتل مساحة في الجانب العملي من حياتي في عالم الاقتصاد التطبيقي والبنوك وأسواق المال وذلك من باب تبادل الآراء والخبرات مع القراء وهي:
١مفهوم القيمة وكيفية تعريفها وقياسها بشكل أكثر دقة مما هو متعارف عليه اليوم في الحسابات القومية حيث أن المفهوم لم يتم التعامل معه بشكل أوسع في معظم دول العالم حيث لا يزال الكثيرون ينظرون إلي القيمة على أنها السعر أو القيمة التبادلية، ونحن نرى بوجوب الربط بين القيمة والمنفعة. باعتبار أن القيمة إقتصاديا أكثر تعقيدا من مجرد حصرها في السعر أو في عنصر العمل وتفسيرها وفقا لطبيعة علاقات الإنتاج فقط. ولعلي أضرب مثلا واحدا يوضح ما أقول من قطاع الخدمات العامة حيث نجد أن قيمة التعليم العام في المدارس والجامعات الحكومية لا تدخل في الحسابات القومية التي نحسب من خلالها الناتج المحلي الإجمالي لأي دولة وذلك لأن هذا التعليم يقدم بالمجان والحكومة لا تحقق منه أي دخل للخزانة العامة، فهل هذا يعني أنه بلا قيمة؟ بالطبع لا. خاصة عندما نعلم أن تكلفة رواتب المدرسين والمشرفين وكافة مصروفات العملية التعليمية تحسب ضمن بند النفقات العامة في الحسابات القومية. وبعض المسؤولين في وزارة المالية دائما ما ينظرون إلى هذا النوع من المصروفات الهامة على أنه نوع من الانفاق العام العادي بدلا من اعتباره نوعا من الاستثمار وظيفته صناعة مستقبل أي بلد وأنه يتمتع بقيمة تفوق قيمة السلع العادية بلا جدال. ومشكلة هذه النظرة الضيقة للقيمة تندلع من وقت لآخر عندما تعاني الحكومات من عجز في مواردها المالية فتلجأ على الفور إلى محاولة تخفيض بنود النفقات العامة التي لا تحقق لها أي دخل ومنها التعليم. وهنا تبرز أهمية المدخل الاقتصادي في حساب القيمة والتعامل مع الأرقام حيث نحاول دائما حث المسؤولين في الخزانة العامة على النظر لما وراء الأرقام من حقائق بدلا من المدخل المحاسبي الذي لا يرى إلا أرقاما صماء.
٢هل الأسواق هي الآلية المثالية لتحقيق التوازن في النظام الرأسمالي وهل توجد آلية أفضل؟ في الحقيقة أن الأسواق التي تحدث عنها آدم سميث ودافيد ريكاردو يفترض أن تتمتع بحرية وشفافيه كاملة ولكن هذه الفرضية لم تعد قائمة ونتج عن هذا اختلالات وتوازنات غير عادلة أدت إلى ما نحن فيه من احتكار القلة للثروات واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في جميع دول العالم وخسارة قطاع التعليم الجامعي لتلاميذ في غاية النبوغ لمجرد أنهم ولدوا فقراء ولا يستطيعون سداد مصاريف التخصصات الجيدة. وهذه موضوعات طويلة ومعقدة ولست بصدد إزعاج القارئ بها الآن. ولكن ما أود أن أوضحه هو أن المفكرين الاقتصاديين الاوائل والأسواق بريئة مما يحدث لان الاسواق بلا عواطف أو عقول وهي تعمل مثل الآلة وتحقق التوازن في كل المجالات بحسب المعطيات المتوفرة وأهمها عنصرالطلب الفعال الذي يجعل التوازن يميل لصالح من يملك ومن يتمتع بالنفوذ. والفكرة أن الأسواق ليست مصممة لكي تعمل عمدا ضد الفقراء كما يدعي البعض. وللتعامل مع هذا الوضع يتم في الغرب الآن تبني مفهوم ال Stakeholders Capitalism وهو يهدف إلى مراعاة حقوق كل المشاركين او المتأثرين بالعملية الإنتاجية أو الخدمية وليس المساهمين فقط. وعلى سبيل المثال فلو أننا بصدد شركة تنتج سلعة معينة فإن مجلس إدارتها عليه أن يراعى حقوق كل العاملين بها وحقوق الزبائن والموردين وحتى حقوق من يقيمون بجوار الشركة في بيئة نظيفة وهدوء، كما ينبغي احترام والالتزام بما تفرضه مؤسسات الدولة من قوانين وأنظمة…الخ والآن تحرص كل الشركات والبنوك في الغرب على تشكيل لجنة للاجتماعيات والأخلاق وهذه اللجنة تتبع مجلس إدارة الشركة بشكل مباشر حتى تكون مستقلة عن الادارة التنفيذية للشركة وهو ما يمكنها من الرقابة على كافة الأنشطة بشكل فعال للتأكد من حصول كل المشاركين والمتأثرين بالعملية الإنتاجية على حقوقهم، وهذا نوع من الإصلاح الهام والمطلوب لتصحيح مسار الراسمالية.
الآن أنتقل إلى الموضوع الأساسي للمقال وهو الإصلاحات الجديدة التي تشهدها العلوم الاقتصادية بفضل الأبحاث الجديدة التي حصل أصحابها على جائزة نوبل في العام الجاري والسابق.
نوبل في الاقتصاد ٢٠٢١
باختصار شديد تم اقتسام الجائزة بين ثلاثة أكاديميين ديفيد كارد من جامعة كاليفورنيا وجوشوا أنجريست من جامعة MIT في ماساتشوستس وجويدو إمبينسن من جامعة ستانفورد على أبحاثهم التي بدأت في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم والتي تسعى إلى تطبيق المنهج التجريبي المتبع في العلوم الطبيعة في علم الاقتصاد بالرغم من صعوبة هذا في العلوم الإنسانية بشكل عام كما هو معروف لدى كل الباحثين في هذه العلوم حيث يصعب عادة تحديد طبيعة العلاقة بين المتغيرات خاصة بالنسبة للعلاقات السببية التي تختلط دائما بالعلاقات الارتباطية، والسبب في هذا هو تعقد ظاهرة الانسان نتيجة تعدد أبعاده كما نقول دائما، فنحن نستطيع أن نتنبأ بالاحوال المناخية وبدقة عالية لعدة أيام ولكننا لا نستطيع أن نتنبأ بسلوك الانسان لمدة ساعة أو رد فعله إزاء بعض الظروف الاقتصادية غير المواتية مثل التضخم أو الركود أوعند تبني الحكومة لسياسية مالية أو نقدية معينة. أما في المنهج العلمي التجريبي، فإن شركات الأدوية مثلا وهي بصدد اختبار عقار أو مصل جديد تستطيع أن تعزل العناصر المختلفة عن بعضها البعض مع تعريضها لعومل تفاعل مختلفة بهدف الحصول على النتيجة المطلوبة كما كنا نفعل في حصص الكمياء ونحن طلبة في المدارس. هذا بالضبط ما حاول الباحثون الثلاثة القيام به في تجارب عملية مختلفة. ومن هذه التجارب ما قام بها ديفيد كارد في بحث هام نشر له في عام ١٩٩٤ يتعلق بتأثير بتشريع زيادة الحد الأدنى للأجور في ولاية نيو جيرسي وقتها على معدلات التوظيف. وقد قام بهذا عن طريق مقارنة تطورات مستويات التوظيف في نيو جيرسي مع ولاية بينسيلفينيا المجاورة والتي لم ترفع الحد الأدنى للأجور. ووفقا للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية فإن رفع الحد الأدنى للأجور يفترض أن يؤدي إلى انخفاض مباشر في معدلات التوظيف، ولكن المدهش هنا ووفقا للبيانات الإحصائية التفصيلية التي جمعها كارد وحللها بعناية تبين أن معدلات التوظيف لم تنخفض في نيو جيرسي! وبالتأكيد فإن السبب في هذا هو زيادة القوى الشرائية وما تؤدي إليه عادة من زيادة الطلب. ولعل القارئ الكريم لاحظ في هذا المثال إن كارد قام بتطبيق منهج تجريبي مقارن بين ولايتين متجاورتين مع عزل واحدة منهما عن عامل معين وهو زيارة الحد الأدنى للأجور لمعرفة أثره بدقة على ولاية نيو جيرسي وبيان كيف يمكن أن تصمم السياسات العامة بشكل خاطئ بسسب عدم إختبار النظرية في أرض الواقع. وكمثال آخر من ديفيد كارد أيضا والذي حصل على نصف جائزة نوبل وحده لجهوده الكبيرة بينما حصل أنجريست وإمبنست على النصف الآخر مجتمعين. وفي البحث الثاني قام كارد بدراسة أثر الهجرة الخارجية على أسوق العمل وذلك من خلال تتبع تأثير هجرة ما يقرب من ١٢٥ ألف مهاجر من كوبا خلال عام ١٩٨٠ إلى مدينة ميامي في ولاية فلوريدا من خلال مقارنة أحوال هذه المدينة بإحوال أربع مدن إمريكية أخرى تتشابه في ظروفها مع ميامي ما عدا أنها لم تستقبل أي مهاجرين من الخارج كما حصل مع ميامي. وخلصت الدراسة إلى نتيجة خلاصتها أن حجم وأجور العمال المحليين في ميامي لم يتأثرا سلبا بسبب المهاجرين الكوبيين. وعادة ما يكون هذا بسبب أن العمال الجدد يأتون بتخصصات وأعمال جديدة ويخلقون وظائف لأنفسهم، أما غير المهرة منهم فإنهم يقومون بالأعمال التي لا يرغب الأمريكيون في القيام بها. والمهم هنا أن هذا النوع من الأبحاث الاقتصادية التجريبية والعملية سوف يكون لها آثار إقتصادية تنموية ملموسة في المستقبل وسوف تسهم في تحسين أداء السياسات العامة للحكومات وسوف تمتد الى مجالات جديدة ومتنوعة.
نوبل في الاقتصاد ٢٠٢٠
تم اقتسام جائزة العام الماضي بين كل من بول ميلجروم وروبرت ويلسون والاثنان أساتذة في جامعة ستانفورد الأميركية وذلك للتطويرات الهامة التي قاما بها على نظرية المزادات كما سوف نوضح. والمزادات كما هو معروف آلية قديمة لبيع السلع والمقتنيات الثمينة عن طريق المزايدة عليها حتى يتم بيعها بسعر عادل للبائع والمشتري. والآن تقوم معظم الدول الأوروبية وأمريكا ودول أخرى ببيع بعض أصولها وخدماتها وحقوق الإمتيازات وحتى موجات البث لمحطات التليفزيون والراديو والانترنت من خلال عرضها على الشركات والمستثمرين في مزادات عامة وذلك للحصول على أكبر عائد ممكن، ولكن هذه الممارسة يسودها الفساد أحيانا والذي يحدث من خلال حجب بعض المعلومات الفنية عن بعض المزايدين بغرض منح الصفقة لمزايد بعينه لأن المزايدين الآخرين الذين لا يعرفون هذه المعلومات سوف يعرضون إما سعرا أقل أو أكبر بكثير مما تستحقه الصفقة وهذا بالتأكيد يؤدي لخسارتهم المزاد. ولذلك اهتم الاقتصاديون المتخصصون في الاقتصاد الجزئي بتقديم نظرية للمزادات لفرض نظام أفضل للحوكمة في ممارسات المزادات الخاصة بالأموال العامة. أما بخصوص الأبحاث التي قام بها كل من بول وروبرت في هذا المجال فقد اتسمت ببعض التعقيدات، ولكنها مفيدة جدا كما سوف نحول ان نبينها حيث تم افتراض أن أي بند للبيع يتضمن بالضرورة قيمة عامة Common Value وهي قيمة مشتركة بين جميع المزايدين، وللتوضيح فلو أننا أفترضنا أن ما سيتم منح حق استخدامه هو مساحة أرض للتنقيب عن البترول، في هذا المثال فإن تقديرات المزايدين لكميات البترول التي يمكن استخراجها سوف تتفاوت في ظل عدم وجود معلومات عن حجم الاحتياطي. ولمنع تسريب معلومات مضللة لبعضهم من قبل النصابين كما كنا نشاهد في مزادات الأفلام المصرية القديمة التي كنا نستمتع بمشاهدتها أيام الصبى، فإن الباحثين قاما باحتساب هذه القيمة العامة بطريقة رياضية متقدمة وتشتمل على متوسط توقعات المزايدين لكميات البترول وهذه التوقعات تعكس عادة السعر الذي سيتقدمون به. ويتم حساب القيمة العامة بحيث تضمن حصول المزايد على شيء واقعي وقريب من توقعاته بحيث يزايد في حدود هذه القيمة ويتجنب تعرضه لأمثال محمود المليجي! والحقيقة أن ما قام به الباحثان يشجع البائعين والحكومات على الشفافية وأنه من صالحهم تزويد المزايدين بقدر معقول من المعلومات وهذا من الإنجازات الهامة لهذه للأبحاث. كما قام الباحثان بتقديم طرق رياضية أخرى لتنظيم المزادات الخاصة بالحكومة الامريكية لادارة بعض شبكات الكهرباء وهو ما مكنها من تحقيق أرباح تقدر بأكثر من ٦٠٠ مليون دولار للخزانة العامة وهو عائد لم تحصل عليه الحكومة من قبل في هذا المجال. وهذا النوع من الأبحاث الاقتصادية يسمى الآن بالاقتصاد الهندسي لأنه ينقل علم الاقتصاد الجزئي من التنظير إلى التطبيق العملي المفيد. ونتمنى أن تستفيد الحكومات العربية من هذه الأبحاث لمحاربة الفساد المنشر بشراسة في إدارة الأصول والممتلكات العامة.
محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي