الشّعبويّة في تونس البواطن والظّواهر
جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8140 - 2024 / 10 / 24 - 06:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الشّعبويّة في تونس
البواطن والظّواهر
إنّ صدور هذا الكتاب، "الفاشيّة الزّاحفة"، للرّفيق حَمَّه الهَمَّامِي، في هذا التوقيت بالذّات له أكثر من دلالة. ومن يطّلع على فحواه يدرك بسرعة أنّه ليس مجرّد مادّة دعائيّة ترتبط باللّحظة الانتخابيّة التي تعيش البلاد على وقعها الآن كما يلمس من خلال القضايا التي تناولها قيمة الإضافة التي قدّمها لمبحث الشّعبوية في تونس وخصائصها.
يتألّف الكتاب من ثلاثة عشر فصلا منها ما نُشر سابقا ومنها ما يُنشر لأوّل مرّة، تشترك كلّها في نقاش نمط الحكم الدّكتاتوري، الفاشستي، الجاثم على تونس الآن بعد عودة الاستبداد في جبّة شعبويّة، يمينيّة، محافظة، متطرّفة. ويتّضح من خلال سلسلة فصول الكتاب، أنّ الكاتب انشغل منذ مدّة، وبصفة مبكّرة بل منذ وصول قيس سعيّد إلى قصر قرطاج، بظاهرة الشّعبويّة في نسختها التونسيّة وتتبّع بدقّة خطّ سيرها وتفاصيل تطوّراتها. ويمثّل آخر ما كتب في هذا الصّدد، "الفاشيّة الزّاحفة" والذي اتّخذ منه عنوانا لهذا المؤلّف الهامّ الذي ينضاف إلى سلسلة الكتابات السياسيّة والفكريّة التي أثرى بها حَمّه الهَمّامي المكتبة الماركسيّة في تونس، خلاصة أبحاثه حول النّزعة الشّعبويّة الفاشيّة الماسكة بالحكم في تونس. فبيّن طبيعة السّياق التاريخي الذي نشأت فيه والظّروف التي حفّت بصعودها إلى الحكم وجوهر خياراتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة ورصد ارتباطاتها الطبقيّة في الدّاخل وعلاقاتها بالخارج. وأكّد في أكثر من موضع ومناسبة أنّ سبيل خلاص تونس منها إنّما هو بالنّضال ضدّها والبناء على أنقاضها وأنّ ضمان عدم سقوط البلاد مجدّدا في براثن "بدائل" رجعيّة أخرى في المستقبل، تعيد إنتاج ما أنتجته العشريّة التي تلت سقوط الدكتاتوريّة، مشروط بنسف الأسس الاقتصاديّة والاجتماعيّة للنظام السّياسي القائم الذي ينبغي أيضا تغييره بالكامل تغييرا جذريّا.
يُمثّل هذا الكتاب إسهاما كبيرا وإثراء للسّاحة الفكريّة والسّياسيّة في تونس في مجال مقارعة الشّعبويّة على الصعيد الفكري ومواجهتها من النّاحية السّياسيّة. وقد اخترت من كنز الأفكار والتّحاليل التي تضمّنها بعض الأفكار الأساسيّة أعتبر أنّ حَمَّه قدّم فيها إضافات لم يسبِقْه إليها الكثير ممّن كتبوا في هذا الموضوع من قبل.
الشّعبويّة لم تأتِ صدفة
الشّعبويّة في تونس، وبالتّالي قيس سعيّد، هي منتوج أزمة ولم تظهر كإفراز من إفرازات التطوّر الطّبيعي للمجتمع التّونسي. وهي ظاهرة سياسيّة اجتماعيّة ثقافيّة تجد جذورها الأولى في فشل منظومة الحكم ما بعد الثورة. وكما حصل في مسارات ثوريّة كثيرة انحرف مسار الثّورة التونسيّة لأسباب اجتماعيّة وسياسيّة وتاريخيّة كثيرة ومتنوّعة فانتهى إلى نتائج عكسيّة. فجنى الشّعب الذي ثار من أجل الشّغل مزيدا من الفقر والبطالة والفساد وثار من أجل الحرية فالتفّت عليها عصابات المال الفاسد وثار من أجل الكرامة الوطنيّة فتعمّقت التبعيّة للخارج. لذلك وكما يقول الكاتب فإنّ الجماهير الشعبيّة الكادحة أحسّت وأنّها خُدعت ووجدت نفسها ضحيّة أوضاع متعفّنة وفاسدة "وهو ما خلق مناخا مؤاتيا لصعود الشّعبويّة التي استغلّت غياب حركة شعبيّة ثوريّة ومستقلّة لتعلن الحرب على "النّخب" وتدّعي أنّها "الممثّل الحقيقي" للشّعب "القادر" على "تحقيق مطالبه وطموحاته" وفي مقدّمتها "إرجاع السلطة إليه"". هكذا يفسّر تفسيرا مادّيّا صعود ظاهرة سياسيّة اجتماعيّة في خضم مرحلة من مراحل تاريخ تونس تميّزت بحركيّة سياسيّة وصراعات متعدّدة الأوجه تشابكت فيها كل العوامل الدّاخليّة والخارجيّة لتنتهي بسقوط تونس الثّورة في براثن تيّار لم يحسب له أحد حسابا.
لم يكن صعود الشّعبويّة في تونس إذن وليد الصّدفة بل جاء نتاجا لا للأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي مرّت بها البلاد فحسب وإنّما أيضا نتاج أزمة الحركة الثّوريّة التي عجزت عن الانتقال بثورة 2010-2011 إلى عمليّة تغيير جذري وعميق ينسف أسس المنظومة القديمة ويضع بدلها الأسس المتينة لمنظومة شعبية جديدة قادرة على الصمود في وجه الثّورة المُضادّة في كلّ أشكالها.
خصائص الشّعبوية في نسختها التّونسيّة
الشّعبويّة شعبويّات وهي لئن اشتركت كلّها في جملة السّمات والخصائص المعروفة فإنّ تباينات واختلافات تميّز كلّ فصيل منها عن بقيّة النّسخ والفصائل الأخرى. وتعود هذه الاختلافات لعوامل كثيرة منها الظّروف التي حفّت بنشوئها وخصائص البيئة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي ظهرت فيها وموازين القوي بين قوى الثّورة والثّورة المُضادّة في ظروف محدّدة من تاريخ الصّراع الطّبقي والسّياسي.
وإذا كانت الشّعبويّة في تونس "ذروة الثّورة المضادة" بوصفها حركة يمينيّة كشفت مع مرور الزّمن عن وجهها المتطرّف البشع، فهي، في هذا المستوى، تلتقي مع الحركات الشبيهة المنتشرة في العالم اليوم والتي نشأت وتطوّرت في حضن الأزمة الخانقة التي يمرّ بها النّظام الرّأسمالي العالمي. إنّ الحركات الشّعبويّة المنتشرة الآن في العالم هي في الحقيقة تلوينات متنوّعة من "الفاشيّة الجديدة" أو "الفاشيّة العصرية" التي تنهل من جوهر الفاشيّة كما ظهرت أوّل مرة في أوروبا في بداية القرن العشرين وخاصة في إيطاليا على يد موسيليني. وتتميّز كلّ هذه الحركات بالمغالاة في التطرّف والعنصريّة والعنف والشّراسة في معاداة الحرّيّات والحقوق وهي كما بيّن ميلونشون في التقديم الذي تفضّل به ردّة فعل انتقاميّة، ثأريّة من حقبة تاريخيّة صعدت فيها الطبقة والشّعوب إلى الحكم وألحقت بالرّأسماليّة هزيمة – وإن مؤقّتة – مازالت البورجوازيّة العالميّة تتجرّع مرارتها.
لكنّ وبالنّظر إلى الظّروف الخاصّة التي ظهرت فيها الشّعبويّة في بلادنا فإنّ "نسختنا" التّونسيّة تتميّز بخصائص تكاد تختصّ بها دون غيرها من النّسخ الأخرى سواء التي وصلت إلى الحكم أو التي تنشط في المعارضة السياسيّة هنا أو هناك في العالم. وقد رسم حمّه بدقّة لامتناهية النّمط الذي يتّبعه قيس سعيّد فقال إنّها "نزعة غارقة في النّرجسيّة مغامريّة، انفعاليّة، متشنّجة "ميسيانية" أو مهدوية (المهدي المنتظر)، طهوريّة تدّعي تحقيق المعجزات، عنيفة، عدوانيّة، تآمريّة، لا تعير اهتماما لمعطيات الواقع ولا لاتّجاهات تطوّره بل تنظر إليه بشكل متكلّس، تنتقي منه ما تريد، وتتجاهل خاصّة ما يدينها من معطياته ووقائعه، سابحة في "العلوّ الشّاهق" تبسيطيّة، تتهرّب من مواجهة تعقيدات الواقع، غير مسؤولة، تدّعي في العلم معرفة حتّى وإن غابت عنها جلّ الأشياء، لا تقبل التّناقض أو الخلاف ولا ترى فيه إلّا تآمرا فتضرب بعصاها كلّ منتقد أو معارض لا يؤمن بـ"رسالة المنقذ المتألّه"، تسبح في الماضي لطمس عجز أساسيّ/جوهريّ عن معالجة قضايا الحاضر والمستقبل، استعراضيّة، استفزازيّة، نفعيّة، لا يهمّها أن تقول اليوم عكس ما قالته بالأمس، انتقائيّة، محافظة، تعادي التّقدّم والتّطوّر لأنّه يعني التّغيير، بل لأنّه قائم على النّسبيّة وعلى حقيقة أنّ كلّ شيء انتقاليّ، إلى زوال، ليأخذ مكانه الجديد، لا حجّة لها، كلّما أعوزتها الحجّة وهي تعوزها دائما، غير التّخوين والإقصاء والتّقسيم والتّهييج وإثارة الغرائز البدائيّة بما فيها الغرائز الوحشيّة، العنصريّة، المترسّبة في النّفوس، بما يوسّع المساحة بين طرائق التّفكير وإمكانات الفعل. وهذه العناصر كلّها رغم أنّها تبدو متناقضة ومتنافرة فإنّها تمثّل في الواقع عناصر لأيديولوجيّة واحدة يربط بينها خيط واحد وهو الديماغوجيا، أي استعمال كلّ الطّرق والأساليب للتّأثير في قطاعات من "الجمهور"، القطاعات التي تجعلها ظروفها في لحظة من اللّحظات التي يغيب فيها الحلّ العقلانيّ، الواقعيّ، الثوريّ، التّقدّميّ، لا عقلانيّة تقبل بسهولة خطابا ديماغوجيا "مسيانيا"، "مهدويّا" كاذبا".
حصيلة خمس سنوات من حكم الشّعبويّة
لقد استغلّ قيس سعيّد الأزمة العامّة التي كانت البلاد تتخبّط فيها والتي عجز النّظام البورجوازيّ اللّيبراليّ ما بعد الثّورة بقيادة الائتلاف الرّجعيّ، حركة النّهضة وحزب نداء تونس، عن معالجتها. فسعى بكلّ ما أوتي من جهد إلى مزيد تعميق الأزمة وتعفين الأوضاع لتوفير كلّ "مبرّرات" الانقلاب على المنظومة التي أنتجته وعبّدت له طريق السّلطة بل وصوّتت لصالحه ليستوي على كرسيّ الرّئاسة.
وبمعنى من المعاني فقد عرف كيف يتسلّل في "لحظة غفلة" من الشّعب التّونسي ليتربّع على كرسيّ الحكم دون أن يكون له، كما ردّد ذلك مرارا وتكرارا، لا برنامج ولا مشروع. فتحت عنوان "الشّعب يريد" و"يعرف ما يريد" مرّر افتقاره إلى أيّ برنامج على أنّه "خصلة" وشهادة امتياز وتفوّق ترشّحه لنيل ثقة النّاخبين. والحقيقة أنّ البرنامج الوحيد الذي كان يحمله قيس سعيّد والذي لم يصارح به الشّعب وإنّما اكتفى بالتّلميح إليه في إطار مخطّط مخاتلة وبرنامج خديعة، هو القضاء المبرم على المكسب الصغير الذي حقّقه الشّعب التّونسي في ثورة 2010-2011، أي مكسب الحرّيّات وتصفية النّظام السّياسيّ الدّيمقراطيّ البورجوازيّ بما فيه من نقائص وثغرات لإقامة نظام استبداديّ، فاشستيّ، يقوم على الحكم الفرديّ المطلق.
اليوم وقد قضى خمس سنوات على رأس الدّولة، تصرّف في أكثر من نصفها كحاكم مطلق جمع بين يديه كل السّلطات ونسف من حوله كلّ المؤسّسات والهيئات وآليات الحكم والتصرّف كيف يمكن تقييم حصيلته؟ وما هي نتائج حكمه؟
جوابا على ذلك خصّص حَمّه الهَمَّامي في هذا الكتاب فصلا مطوّلا جاء فيه بالتّقييم على جميع جوانب الحياة في تونس. ويعتبر هذا الفصل بعنوان "الفاشية الزاحفة" بتاريخ سبتمبر 2024 من أفضل ما كُتب في تقييم حصيلة حكم قيس سعيّد من حيث الشّموليّة والوضوح والدقّة وسيكون، بلا شكّ، في المستقبل من المراجع الأساسيّة التي لا محيد عن اعتمادها في الدّراسات والبحوث حول الشّعبويّة في تونس وحال البلاد تحت حكم قيس سعيّد.
فعلى الصّعيد السّياسي سلّط الكاتب الضّوء على جميع الإجراءات والقرارات التي اتّخذها قيس سعيّد خاصّة منذ انقلاب 25 جويلية 2021 سواء في مجال إلغاء مبدأ الانتخاب والتّمثيليّة أو في مجال تحييد الأحزاب والجمعيّات على طريق تصفيتها والقضاء على حقّ التّنظيم والاجتماع والنّشاط السّياسيّ بشكل عامّ وكذلك في مجال ضرب حرّيّة التّعبير والصّحافة والإعلام وسعيه إلى تكميم الأفواه للتّغطية على الأكاذيب والتجاوزات والجرائم بالاعتماد على المرسوم الفضيحة عدد 54 وتكييف فصولا من المجلة الجزائيّة وتدجين القضاء وتركيع القضاة وإرساء قضاء طيّع قابل بالتّوظيف يعمل خارج القانون.
ومن جانب آخر شرح في هذا الفصل المسار الذي اتّبعه قيس سعيّد لتفكيك الدّولة وخاصّة مؤسّساتها التّمثيليّة المستقلّة وهيئاتها الدّستوريّة التّعديليّة والرّقابيّة وجهاز الإدارة والاعتماد في المقابل على" الأجهزة الصّلبة"، أي مؤسّستي العسكر والبوليس الذي استعاد في ظلّ حكمه سطوته حيث عادت أساليب المنع والتعسّف والتّعدّي على الحرمة الجسديّة للمواطن وحرمة المنزل والمعطيات الشّخصيّة والهاتف والحاسوب. كما عادت بقوّة عادة المنع من السّفر بل تفاقمت بشكل غير مسبوق. وفي كلمة توصّل قيس سعيّد بعد خمس سنوات من الحكم إلى القضاء على النّظام السّياسيّ الذي وضعه دستور 2014 بكلّ مؤسّساته وأجهزته ونمط تسيير الدّولة والحياة العامّة وقطع أشواطا عملاقة باتّجاه إرساء نظام الحكم الفرديّ المطلق المنغلق والفاشستيّ، أي أنّه انتقل بتونس من نظام إلى نظام آخر مُغاير تماما وهو ما سنعود إليه بعد الإشارة إلى بعض الجوانب الأخرى في حصيلة حكم قيس سعيّد.
أمّا الحصيلة على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ فهي كارثيّة بشهادة كلّ الاختصاصيّين تقريبا على اختلاف نزعاتهم وانتماءاتهم وبدليل المؤشّرات والإحصائيّات والوقائع الملموسة. لقد غرقت البلاد في حالة من الرّكود الاقتصاديّ الرّهيب فنسبة النّموّ ضعيفة جدّا وسلبيّة مقارنة حتّى بنسب ما أسماه "العشريّة السوداء" (وهي كذلك ولكن ليس بمعاني قيس سعيّد). كما تراجعت كل محرّكات الاقتصاد الأخرى (الادّخار والاستثمار والاستهلاك الخ...). وتعرّضت منظومات الإنتاج إلى عمليّة تدمير شامل. ونتيجة لذلك ارتفعت نسب العجز في مستويات ومجالات متعدّدة، كالميزانيّة العامّة وميزان الدّفوعات والميزان التّجاريّ الخ... واضطرّت حكوماته المختلفة إلى تشديد الإجراءات الجبائيّة على الأفراد والمؤسّسات وتحميل المواطنين عبء التضخّم (ارتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائيّة) الذي ازداد خطورة بفقدان سلسلة من موادّ الاستهلاك الأساسيّة والأدوية والموادّ نصف المصنّعة والتّجهيزات الضروريّة لقطاعي الإنتاج والخدمات.
في ظلّ هذا الوضع ازدادت المآسي الاجتماعيّة التي ذهب ضحيّتها الشّعب الفقير من ذلك أنّ نسبة البطالة ازدادت ارتفاعا بما في ذلك في صفوف حاملي الشّهادات وارتفعت معها نسبة الفقر وتفاقمت مظاهر العنف والجريمة وأصبحت الهجرة و"الحرقة" باب "الأمل الوحيد" للهروب من جحيم العيش في تونس.
وقد قابل قيس سعيّد كلّ ذلك بالخطب الرنّانة حول "حرب التّحرير الوطني" و"مقاومة الفساد والاحتكار" و"التّعويل على الذّات" دون أن يقدّم ولو برنامجا واحدا لمعالجة المعضلات التي تعاني منها البلاد والمجتمع. والحقيقة أنّه لم ينجح، رغم هذه الشعارات الكاذبة، في أن يخفي عن الشّعب التّونسي لهثه وراء مؤسّسات التّسليف الدّولي والبنوك الخاصّة و"الجهات المانحة التّقليديّة" لتمويل ميزانيّات حكوماته. ومعلوم أنّه ولأوّل مرّة في تاريخ تونس المعاصر منذ عهد البايات بلغ حجم القروض الواجب توفيرها لتمويل ميزانيّة آخر سنة من ولايته أكثر من ثلث إجماليّ المداخيل.
إنّ خمس سنوات من حكم قيس سعيّد، ثلاث ونيّف منها استحوذ فيها على الحكم وجمع بين يديه كلّ السّلطات بلا منازع، كانت كافية لتدمير ما تبقّى من اقتصاد البلاد ومقدراته بعد عبث منظومة الحكم السّابقة وفسادها، كما كانت كافية لتحويل حياة التّونسيّات والتّونسيّين من كلّ الطّبقات والفئات الشّعبيّة بما في ذلك الطّبقة الوسطى إلى جحيم لم يسبق أن ذاقوا مرارة كمرارته. وبالطّبع من غير المنتظر أن تتحسّن أوضاع الاقتصاد عامّة ولا أوضاع هذه الطّبقات والفئات الشّعبيّة بل بالعكس تفيد كل المؤشّرات، في ضوء ارتباطات قيس سعيّد داخليّا بأكثر شرائح الرّأسمال المحلّي تعفّنا، أي طبقة الكمبرادور العميل، وخارجيّا بأكثر القوى رجعيّة في العالم سواء مراكز رأس المال التّقليديّة في الولايات المتّحدة الأمريكية وأوروبّا والخليج أو القوى الفاشيّة الصّاعدة في أوروبّا خاصّة وبالتّحديد إيطاليا وفرنسا الخ... وهكذا فإنّ نمط التّنمية الرّجعيّ القديم والخيارات الموروثة عن عهود بورقيبة وبن علي وعشريّة اليمين الدّيني والليبرالي (حركة النّهضة، نداء تونس، تحيا تونس...) سيزداد انهيارا وسيفضي بالبلاد إلى الإفلاس وستكون أساليب قيس سعيّد واحدا من عناصر التّعجيل بهذا المآل الكارثي.
الانتقال من نظام سياسيّ إلى نظام سياسيّ آخر
ذاك هو الاستنتاج الأهمّ والأكثر عمقا الذي اهتدى إليه حمَّه الهَمَّامِي بعد استيفاء البحث في معنى وأبعاد ما أقدم عليه قيس سعيّد منذ أن اعتلى كرسيّ الحكم وما توصّل إلى تحقيقه وهو يستعدّ لبيعة أعدّ لها كل ما يلزم. هذا الاستنتاج يكتسي أهمّية بالغة لا فقط في مضمار تقييم المرحلة الماضية والكشف عن أبعاد ما حصل خلالها من كلّ الزّوايا الطبقيّة والسّياسيّة وإنّما أيضا من زاوية تحديد طبيعة المرحلة التّكتيكيّة العامّة وإعادة ترتيب مهمّات المستقبل في ضوء ما طرأ من تحوّلات.
لقد أعاد قيس سعيّد حالة التّناقضات الكبرى في البلاد إلى وضعها القديم أي إلى ما قبل ثورة 2010-2011 وبهذا المعنى أصاب حمّه كلّ الصواب حينما اعتبره "ذروة الثّورة المضادّة".
لقد أطاحت ثورة 2010_2011 بالدّكتاتوريّة النّوفمبريّة وأجبرت البورجوازيّة، الماسكة بالحكم وبوسائل الإنتاج وكل عوامل النّفوذ والامتياز المادّي والسّياسيّ، على التّنازل عن شكل دولتها الدكتاتوريّ والقبول بأن تصبح، من حيث الشّكل، نظاما ديمقراطيّا على الطّريقة البورجوازيّة اللّيبراليّة أي نظام الحرّيّات العامّة والفرديّة والتّداول – ظاهريّا – على السّلطة عبر الانتخابات. ولأسباب كثيرة لم تكن الظّروف، لا من فوق ولا من تحت، تساعد على تطوير هذه الدّيمقراطيّة باتّجاه تعميقها وتجذيرها وترسيخها وإعطائها "نكهتها" الطّبقيّة لتصبح ديمقراطيّة بيد الطّبقات الشّعبيّة وفي صالحها لا بل لم تسمح هذه الظروف حتّى بالحفاظ على القليل ممّا تحقّق.
وكانت هذه الديمقراطيّة النّاشئة محطّ اهتمام جميع الأطراف، كلّ من زاوية مصلحته الخاصّة وتعدّدت وتنوّعت محاولات "تقليمها" وإفراغها من مضامينها ومحو جوانب منها عن طريق القمع والمحاكمات كما عن طريق القانون والإجراءات. والحقيقة أنّ الثّورة المضادّة بدأت بالعمل بالضّبط يوم فرار ابن علي وإعلان عن سقوط الدّكتاتوريّة وأنّ الديمقراطيّة ونظام الحرّيّة قد بسط جناحه على البلاد. ولم تكفّ الثّورة المضادّة عن العمل من أجل النّكوص بالوضع إلى ما قبل شتاء 2010-2011 بقيادة حركة النهضة والباجي قائد السبسي/يوسف الشّاهد وكلّ من تعاقبوا على الحكم، ولكن كل تلك المحاولات لم ترتق إلى مستوى ما "أنجزه" قيس سعيّد بحكم عدّة عوامل منها بالخصوص درجة التّعبئة الشعبيّة التي لئن تراجعت فقد ظلّت موجودة.
لقد أغلق قيس سعيّد قوس المسار الثّوري وأعاده إلى نقطة الصّفر.
هذا هو الاستنتاج/الاكتشاف إذا صحّ التعبير الذي يقدّمه إلينا الفصل الأوّل من الكتاب في الفقرة بعنوان "الانتقال من نظام سياسيّ إلى نظام سياسيّ آخر". وتكمن أهمّية الاستنتاج لا فقط في المحاكمة التاريخيّة للوضع الذي بلغته تونس على يد قيس سعيّد بل تكمن أيضا فيما ينجرّ عنه من مهامّ تاريخيّة جديدة تُلقى على عاتق الحركة الثّوريّة وعموم الشّعب التّونسيّ.
برنامج الثّورة، البرنامج القديم المتجدّد
وهكذا فإنّ ما يروّج من أنّ نظام قيس سعيّد يمثّل "تصحيحا لمسار الثورة" وأنّه هو الذي "خلّص تونس من منظومة حركة النّهضة الرّجعيّة ووضع السّلطة مجدّدا بيد الشّعب" يمثّل كذبة تكفّلت الأيّام والوقائع بكشفها وبتعرية طبيعة صاحبه. وسيكون لهذا الكتاب من الأفضال في مزيد فضح هذه الكذبة ونسفها الشّيء الكثير والحال أنّ بعض الفئات من المجتمع ما زالت مغلّطة ولم يحصل لديها الوعي بَعْدُ بمخاطر هذا الشّعبويّ المنقلب الذي لا يرى العالم إلّا من ثقب حساباته الخاصة وعطشه اللّامحدود للحكم والسّلطان.
وفي الأخير لا بدّ من ملاحظة أنّ من مزايا هذا المؤّلّف أنّه، إلى جانب الجهد التّفسيري الذي يميّزه والذي هو موجّه إلى إنقاذ أوسع الفئات من تأثيرات الشّعبويّة المقيتة وخلق الفراغ من حولها ومن حول قيس سعيّد، فسح المجال للخوض فيما تفرضه المرحلة الجديدة من مهمّات خصوصيّة. إنّ مهمّة النضال من أجل إسقاط الديكتاتورية عادت إلى مقدّمة المهمّات المطروحة على الشّعب. إن إسقاط الدكتاتورية هو اليوم كما كان بالأمس، قبل ثورة 2010-2011، المقدّمة "الطبيعيّة" والمفتاح الضروريّ والمدخل السّليم للمرور هذه المرّة مباشرة إلى مهمّة إنجاز التّغيير الجذريّ والعميق في بلادنا أي القضاء على منظومة الاستعمار الجديد الجاثمة عليها وعلى شعبنا ومجتمعنا.
إنّ تحقيق النجاح في هذه المقدّمة/المدخل يقتضي اّتباع خطّ سير مستقلّ عن البرجوازية الكبيرة العميلة وتعبيراتها مهما كان موقعها اليوم من السّلطة. والحذر كل الحذر، وهو ما نبّه إليه الكاتب من "المنطق النفعي البائس" الذي "لا يخدم سوى اليمين الرجعي البائس بكلّ مكوّناته لأنّه يكسبه عذريّة جديدة ويسمح له بالعودة إلى الحكم وكأنّ شيئا لم يكن" ليعيد إنتاج نفس المصائب والكوارث. فلا خلاص للشعب إلا بـ"طور جديد من الثورة التونسية" كما جاء على لسان الكاتب. وتجدر الملاحظة إلى أنّ القارئ سيجد في الصفحة 62 وما تلاها من هذا الكتاب تفاصيل وتدقيقات تهمّ هذا الموضوع على غاية من الوضوح والأهميّة.
فقراءة ممتعة للجميع.
جِيلاني الهَمَّامِي
تونس، سبتمبر 2024