وداعا، أخي وصديقي، حبيب بسباس
جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7936 - 2024 / 4 / 3 - 00:47
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
اختطفت يد الموت، المناضل النقابي والصديق العزيز الحبيب بسباس الكاتب العام الأسبق للجامعة العامة للبنوك والمؤسسات المالية التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل. تدرّج حبيب في المسؤولية النقابية من النقابة الأساسية للبنك الوطني الفلاحي حتى أصبح كاتبا عاما لجامعة البنوك في وقت أصبح هذا القطاع من القطاعات الوازنة نقابيا في الاتحاد والحركة النقابية. وبوجود حبيب على رأس الجامعة اكتسب القطاع مكانة أكبر وأهم في النضال المطلبي ولكن أيضا في المشهد النقابي العام ولعب دورا في الصراعات الداخلية. كان حبيب في أكثر من مرة مرشحا لأن يكون في القيادة النقابية (المكتب التنفيذي المنتخب) ولكن حسابات الأيام الأخيرة لضبط "القائمة" كانت في كل مرة تستبعده خشية شخصيته القوية ومواقفه الجريئة والمستقلة. كان حبيب بسباس من المعارضين الاشداء للبيروقراطية النقابية في عهد إسماعيل السحباني وكان من ضمن عدد قليل من أعضاء الهيئة الإدارية الذين يهابهم المكتب التنفيذي ويقرأ لرأيهم ألف حساب.
في بداية التسعينات قام إسماعيل السحباني بدعم من السلطة بحملة تصفية واسعة داخل الاتحاد تزامنت مع انطلاق نظام بن علي في هجومه على خصومه السياسيين المتطرفين "يمينا" ويسارا، حتى انحصرت المعارضة النقابية في عدد من الوجوه والمسؤولين من داخل الهيئة الإدارية مثل خيرالدين بوصلاح عضو المكتب التنفيذي والحبيب بسباس (جامعة البنوك) وجيلاني الهمامي (جامعة البريد) وعلي الضاوي (نقابة العدلية) ومنير لعذاري (نقابة الإذاعة والتلفزة)، ومن خارج الهيئة الإدارية عبد المجيد الصحراوي وأحمد رميلة عضوي المكتب التنفيذي الوطني الذين وقع طردهما من قبل ومن رشيد النجار عضو الاتحاد الجهوي وجامعة الفلاحة سابقا و"جماعة المنار" (علي رمضان وعبد النور المدّاحي) ومحمد النفاتي (الكاتب العام الأسبق لجامعة المهن المختلفة).
عندما اشتدّ الخلاف بين السحباني وجامعة البنوك قام حبيب بسباس بتوقيف تحويل عائدات انخراطات أعوان البنوك إلى المركزية النقابية وحولها الى الحساب الخاص للجامعة وأغلق "حنفية" كانت تدر على الاتحاد مدخولا هاما. وقد رأى السحباني في ذلك تحديا له وهو الذي لا ترد له كلمة فجُنّ جنونه وحاول بطل الطرق استرجاع التحويل كما كان من قبل من ناحية والانتقام من حبيب بسباس شخصيا من ناحية ثانية. ولكن كل مساعيه باءت بالفشل.
أذكر أنّنا كمعارضة نقابية من داخل الهيئة الإدارية قرّرنا في مستهل سنة 1997 تصعيد الصّراع مع البيروقراطية والسّحباني شخصيّا. ففي بداية شهر أفريل قرّرنا إصدار عريضة نطالب فيها بانعقاد المجلس الوطني الذي لم ينعقد منذ أكثر من خمس سنوات وقد غيّبه السحباني عنوة في إطار تهميش الهياكل القيادية الموسعة لصالح المكتب التنفيذي ومؤسسة الأمانة العامة لتقييم أوضاع الاتحاد الداخلية وأدائه في علاقة بمطالب العمال من جهة والنظر في مالية الاتحاد من جهة أخرى.
تولينا انا وحبيب إعداد نص العريضة في مقهى في باب الفلة. وتولى حبيب رقنها في مكتبه في البنك. وبدأنا في الاتصال ببعض أعضاء الهيئة الإدارية وجمعنا في البداية امضاءات أربعة أعضاء (علي الضاوي وجيلاني الهمامي وحبيب بسباس وطارق ليمام) وفيما كنا نسعى إلى توسيع دائرة الامضاءات تسرّبت العريضة ووصلت إلى السحباني.
ويذكر الكثير من النقابيين القدامى انه في ذات الوقت قام كاتب عام جامعة من الجامعات (محسوب على اليسار ولا فائدة في ذكره) بوشاية لإسماعيل السحباني مفادها أن ثمة عريضة تروج ويقف وراءها بعض النقابيين الذين ينسقون مع حزب الاشتراكيين الديمقراطيين (MDS شق الخصخوصي) على حد زعمه.
مرة أخرى جُنّ جنون السحباني ونشطت سوق الوشاية و"الصبّة" وتوافد عليه كل من وجد في هذه العريضة فرصة للتقرب أكثر منه طمعا في غنيمة ما. فجمع السحباني ما يلزم من المعطيات للقيام بقضية عدلية ضد "جماعة العريضة". وكلّف بالوقت أحد موظفي الاتّحاد (يدعى سالم الجلاصي) بتقديم شكاية لمركز الشرطة فندق الغلّة (شارع شارل ديغول) بالعاصمة في كل من منجي صواب (كاتب عام نقابة أساسيّة بوزارة التجهيز) ورشيد النجّار (عضو سابق بجامعة الفلاحة) وجيلاني الهمامي (كاتب عام جامعة البريد) وأحمد رميلة (عضو مكتب تنفيذي سابق).
يوم 17 افريل 1997 اعترضني أحد اعوان البوليس التّابعين للمصلحة الاجتماعية التابعة لوزارة الداخلية (المصلحة التي تعنى بمراقبة النقابيين) العاملين في ساحة الاتحاد، عبد الواحد الكنزاري، وطلب مني الحضور إلى وزارة الداخلية بطلب من "عرفه" آنذاك فرفضت وقلت له "جيبلي استدعاء رسمي" وهو ما تم فعلا بعد سويعات.
يومها تم ايقافي على ذمّة القضيّة العدليّة التي رفعها الاتحاد ضدنا بسبب ترويج عريضة أُعْتبرتْ مسّا "من هيئة رسميّة وبث أخبار زائفة وإثارة الشغب الخ...". وجدت في منطقة الشرطة septième منجي صواب الذي كانوا داهموا منزله وفتشوه عساهم يعثروا على العريضة. وفي عشية ذلك اليوم جيء برشيد النجار ثم أحمد رميلة.
وبدأت الأبحاث وشملت كشاهدين عددا من النقابيين الآخرين على سبيل المثال لا الحصر الهادي الهذيلي وعلي فتاتي وعبد الله قرام وغيرهم
الموضوع "شكون اللي عمل العريضة وشكون اللي صحح عليها وشكون يروج فيها؟؟؟" الخ...
كانت فضيحة تنضاف إلى سجلّ البيروقراطية التي تسْتقوي بالبوليس والقضاء لحسم خلافات نقابية داخلية. وقد استجابت السلطة بكل حرص ولم تتردد في التدخل من أجل الضرب بقوة على أيدي كل من تحدثه نفسه تعكير صفو حياة بيدقها أو بالأحرى بيادقها على راس الاتحاد، السحباني وجماعته.
في فصل آخر من التاريخ الحديث للحركة النقابية التونسية وفي علاقة بالأخ والصديق حبيب بسباس أذكر أيضا يوم افتتاح مؤتمر الاتحاد في المنستير. كان عبد السلام وعلي رمضان قد تصالحا بعد أكثر من 10 سنوات جفاء وعداء وأصبحا حليفين التقيا حول تصوّر لمستقبل الاتحاد في ظل التحالف الجديد. وكان من ثمار عودة الوئام بين فرقاء "القراقنة" الاتفاق على ملامح قيادة جديدة سيواصل عبد السلام جراد قيادتها وسيكون لعلي رمضان قسم النظام الداخلي الذي عامة ما يتحكم في إدارة الشؤون الداخلية ورسم ملامح المستقبل. هذا علاوة على الاتفاق حول أمر آخر مهم وخطير وهو الانقلاب على الفصل 10 من النظام الداخلي الذي تم فرضه في مؤتمر جربة مؤتمر "التصحيح" الذي أنهى رسميّا عهد السحباني.
للتّذكير انتهت تجربة السحباني باقتياده الى السجن من أجل السرقة وسوء التصرف بعد أن انقلب عليه كل أعضاده بقيادة عبد السلام جراد ومحمد الطرابلسي باستثناء ثلاثة منهم (نور الدين الفطحلي ومصطفى بن أحمد وسالم عبد المجيد).
كانت المعارضة النقابية من داخل الاتحاد في ما يعرف وقتها بـ"حلف الشمال" قد اشتد عودها بانضمام عدد من الكتاب العامين للاتحادات الجهوية وبعض القطاعات واتفقت هي الأخرى على قائمة منافسة تتمتع بنسبة هامة من حظوظ النجاح. وهو ما أقض مضاجع "فريق التصحيح" بقيادة جراد. وقد جمعت القائمة المعارضة توفيق التّواتي (الكاتب العام للاتحاد الجهوي بالعاصمة) وجيلاني الهمامي (البريد) ونعيمة الهمامي وغيرهم. لذلك قرر جراد وعلي رمضان منع النقابيين من غير النّواب الوصول الى النّزل للحدّ ما أمكن من تأثيرهم على مجريات المؤتمر سواء فيما يتعلق بتمرير قرار الغاء الفصل العاشر أو في تأمين حظوظ نجاح القائمة. ومرة أخرى كانت السلطة طرفا منحازا إلى جانب البيروقراطية إذ استجابت لطلب الاستنجاد ببوليسها ووضعت حاجز أمنيا معزّزا على الطريق المؤدية إلى النزل ومع مرور الوقت التحقت أعداد غفيرة من النقابيين بتجمع كان تشكل وتحوّل إلى احتجاج كبير وشعارات مضادة للبيروقراطية والسلطة.
أذكر يومها أن رئيس منطقة الشرطة بباب سويقة بالعاصمة كان يقود فيالق البوليس في ذلك الحاجز الأمني وفي وقت من الأوقات جاءته التعليمات باستعمال الهراوات لتفريقنا وبادر هو شخصيا بدفعنا ونحن في الصف الأمامي من المحتجين فما كان من حبيب بسباس إلا أن كال له لكمة (عطاه بونية في صدره) كاد يسقطه أرضا.
لم أكن اتفق مع حبيب بسباس في الأيديولوجيا ولا في التوجه السياسي العام ولكن ما جمعني به كان أقوى وأشدّ من الأيديولوجيا والخط السياسي العام. لقد جمعتني به الصّداقة الصّادقة والتّضامن النقابي الحقيقي ضد التعسف وضد البيروقراطية وضد عملاء السلطة في الاتحاد. ما جمعني به وقتها شجاعته وجرأته على قول كلمة الحق وعدم الانسياق في تيار "القوادة" والتزلف "للأخ الأمين العام" أو لأعضاء المكتب التنفيذي والتسلّق والانتهازية وأخلاق صنف من الجياع الذين لا مروءة لهم.
لقد حوّل إسماعيل السحباني الاتحاد وقتها إلى ما يشبه الملك الخاص والضيعة العائلية يتصرّف فيها على هواه. وقد وجد في ظل انتشار ثقافة الطمع و"القوادة" الممزوجة بمشاعر الخوف والرعب التي أشاعها بن علي المناخ كي يستأسد. ومن المشاهد المقرفة السائدة آنذاك أن يقف له النقابيون صفين لاستقباله صباح كل يوم عندما يصل إلى دار الاتحاد ليؤدوا له التحية وشواهد الاخلاص. ومحظوظ من سلّم عليه "الأخ الأمين العام" أو ابتسم له.
كنا قلة من النقابيين عبارة عن منبوذين في الاتحاد. الجميع تقريبا يخشى حتى الوقوف معنا في بطحاء محمد علي أو في مقهى الاتحاد إذ كم من نقابي شوهد يتحدث مع أحدنا إلا وتمت مساءلته ومورست عليه شتى الضغوط في إطار محاصرة العناصر النقابية المعارضة.
كنا عندما يأتي أحدنا إلى مقر الاتحاد سرعان ما تدب حركية غير عادية وترن الهواتف في كل مكان ويسري الخبر سريان النار في الهشيم "هاو فلان جاء". وتنشط الروايات والتخمينات وتصدر التعليمات للموظفين وأعوان الحراسة بمتابعة المعني بالأمر حيثما ذهب ورد الخبر للتوّ.
في مثل هذا الحصار وفي مثل هذا الانغلاق، وجدت شخصيا في حبيب بسباس وفي خيرالدين بوصلاح وفي علي الضاوي وغيرهم صنفا من النقابيين الذين لا يهابون لا رقابة إسماعيل السحباني وعبد السلام جراد ولا تهديداتهم ولا تهديدات البوليس والسلطة. بينما كانت الغالبية العظمى ممن يدعون اليسارية في مقدمة قطعان "القوادة" و"الصبّابة" بعضهم (وهو يعتبر نفسه زعيمهم) يفاوض مقابل ذلك على ستائر فخمة لمكتبه وتمكينه من كاتبتين اثنتين بدل واحدة وعلى منحه موديل سيارة جديد كي يتفرّد به من دون بقية أعضاء القيادة. وبعضهم الآخر يلهث وراء فتات لا يزيد عن "رخصة نقابية" و"منحة مشاركة في ندوة perdieme " والبعض الآخر لا تزيد أطماعه عن "صحن ودبوزة".
في مثل ذلك العفن كان حبيب بسباس نقابيا شهما وصاحب مبدأ ومروءة.
رجل جدير بالمحبة ونقابي يستحق كل الاحترام والتقدير.
إنني لا أدعي كتابة "قصة حياة" حبيب بسباس بكل تفاصيلها بل لم أتعرض الا للقليل القليل منها. ما أردته هو رسم الملامح الكبرى لهذا النقابي صاحب التوجهات السياسية الناصرية المعروفة والذي لم يلق الحظ الذي يليق بمقامه.
لروحه السلام ولذكراه الخلود.
تونس 28 مارس 2024