الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية وصعود نزعة الحرب وقوى اليمين المتطرف
جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7970 - 2024 / 5 / 7 - 16:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية
وصعود نزعة الحرب
وقوى اليمين المتطرف
يعيش النظام الرأسمالي العالمي اليوم، ومنذ خريف 2008، واحدة من أشد الازمات التي عرفها في تاريخه. وقد بلغت حالة من التعفن غير مسبوقة في كل المستويات تقريبا، الاقتصادية والمالية والنقدية والسياسية والديبلوماسية والعسكرية والاجتماعية والبيئية. كثيرة هي المؤشرات الدالة على ذلك التي تنذر بالخطر في كل هذه المجالات، ومن أهمها المؤشرات المتصلة بنسب التباطئ الكبيرة في النمو الاقتصادي وأزمة كل القطاعات المنتجة وغير المنتجة عدا قطاع الصناعات الحربية والارتفاع الحاد في المديونية وبنسب التضخم وارتفاع أسعار المواد الأولية وخاصة أسعار الطاقة والتدهور المفزع للمقدرة الشرائية للفئات الشعبية واشتداد وتيرة أزمة الغذاء على الصعيد العالمي وتفاقم نسب الفقر وانتشار العمل الهش وتعمق هوة الفوارق بين الطبقات وبين الشعوب والبلدان والجهات.
في هذا المضمار مثلا أشار تقرير أكسفام OXFAM بمناسبة منتدى دافوس الاقتصادي شهر جانفي الماضي إلى "الزيادة المذهلة في الثروة في أيدي أقلية من المليارديرات، وتركيز السلطة الاقتصادية والسياسية الاحتكارية في أيدي حفنة من الشركات العالمية العملاقة"(1). كما أشار إلى ما جاء في عديد الاحصائيات أن 0.001 % من الشركات تحقق ثلث إجمالي أرباح الشركات في العالم.
مثال آخر ساطع أشار إليه تقرير أكسفام وهو أن خمسة أغنى رأسماليين في العالم ضاعفوا ثروتهم منذ سنة 2020 ذلك أنهم في بداية ازمة الكوفيد حققوا أرباحا بمعدل 14 مليار دولار في الساعة.
ومن غير المنتظر أن تتحسن الأمور بقدر ما تشير كل المعطيات إلى استفحال هذه الازمة. وقد أكد البنك العالمي هذه الحقيقة في تقريره جانفي 2024 بعنوان "الافاق الاقتصادية العالمية" (1) حيث جاء في مقدمته ما يلي "من المتوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي عامه الثالث على التوالي من التباطؤ في عام 2024، مع توقع معدل نمو يبلغ 2.4%. والسبب هو السياسات النقدية التقييدية وشروط الائتمان، وتباطؤ التجارة العالمية، وضعف ديناميكيات الاستثمار. أدى الصراع الأخير في الشرق الأوسط إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية. والتعاون العالمي ضروري لمعالجة المستويات المرتفعة من الديون، وتغير المناخ، وتجزئة التجارة، وانعدام الأمن الغذائي، والصراعات".
لقد أججت هذه الأوضاع المتأزمة التي يشهدها النظام الرأسمالي العالمي التناقضات بين مختلف كبريات الدول والشركات الاحتكارية الرأسمالية وستؤججها أكثر فأكثر مع تصاعد وتيرة الازمة. ونشهد اليوم تأكيدات واضحة على انتهاء عصر العالم ذي القطب الواحد كما نشهد دخول العالم في طور جديد تشتد فيه الصراعات التجارية والاقتصادية والعسكرية بين مختلف الأقطاب الامبريالية. ومن نتائج هذه الصراعات بشكل مباشر اشتداد وتائر التسابق نحو التسلح والتحرشات العسكرية من جهة وصعود القوى اليمينية المتطرفة والتنظيمات الفاشية الجديدة.
التسلح وصناعة الحروب
يُعدّ معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (سيبري SIPRI) من أكثر المراجع مصداقية في ما يقدمه من معطيات تتعلق بالسلام وقضايا التسلح. وفي تقرير صدر عنه يوم 22 أفريل الجاري بعنوان "ارتفاع الإنفاق العسكري العالمي وسط الحرب والتوترات المتزايدة وانعدام الأمن جاء ما يلي "ارتفع الإنفاق العسكري العالمي للعام التاسع على التوالي ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 2.443 مليار دولار. ولأول مرة منذ عام 2009، زاد الإنفاق العسكري في جميع المناطق الجغرافية الخمس التي حددها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، مع تسجيل زيادات كبيرة بشكل خاص في أوروبا وآسيا وأوقيانوسيا والشرق الأوسط”.
ويأتي ترتيب القوى المتسابقة من حيث التكلفة السنوية المخصصة للإنفاق على التسلح، كما جاء في التقرير، على نحو تتصدره الولايات المتحدة الامريكية بـ 916 مليار دولار ثم الصين بـ 296 مليار دولار فروسيا بـ 109 مليار دولار ثم الهند بـ 83.6 مليار والسعودية في المرتبة الخامسة بـ 75.8 مليار دولار. ويعكس هذا الترتيب إلى حد بعيد مساعي وأطماع أطراف الصراع العسكري الجاري اليوم. ومن جانب آخر فإن هذا التسابق يعكس أيضا حالة التوتر التي باتت عليها العلاقات الدولية ناهيك وأن عديد البؤر تعيش في حالة حرب، أوكرانيا وفلسطين، أو هي على شفا حرب يمكن أن تندلع بين الحين والحين وخاصة منطقة الشرق الأدنى (إيران) وجنوب شرق آسيا (تايوان وكوريا).
إن التسلّح وتطوير قطاع التسليح والصناعات الحربية والإتجار بالأسلحة أصبحت لدى كبريات الامبرياليات ولدى الاحتكارات العظمى في السنوات الأخيرة مجالا أساسيا للاستثمار وتحقيق الأرباح حتى بات واحدا من المخارج التي يعول عليها في معالجة أزمة النظام الرأسمالي العالمي. لكن النسق الذي يجري به التسابق نحو التسلح سيؤدي حتما إلى حرب يأمل من ورائها نادي الكبار، دولا واحتكارات وطغم، تحقيق حل أكثر جذرية لنظامهم، يدمر أكبر قدر ممكن من قوى الإنتاج ومما تراكم من أسلحة ومنتوجات بشكل يفتح الباب للبدء من جديد في حلقة تراكم رأسمالية (un nouveau cycle d’accumulation) ولكنه قد ينتهي بالقضاء على الوجود البشري. فترسانة الأسلحة التي تتوفر عليها كبريات الامبرياليات، الولايات المتحدة الامريكية والصين والناتو وروسيا والهند وخاصة منها الترسانة النووية بإمكانها أن تقضي نهائيا على الكرة الأرضية وعلى مجمل عناصر الحياة.
هذا هو المصير الذي يمكن أن يؤول إليه المجتمع الإنساني في ظل النظام الرأسمالي. ويزداد التخوف من هذا الانحراف الخطير الذي زُجّ بالمجتمع الدولي فيه مع تصاعد نفوذ القوى اليمينية المتطرفة الفاشستية التي باتت تمثل التعبيرة السياسية الأكثر رواجا نيابة عن الاحتكارات الكبرى ورأس المال المتعفن والاوليغرشات المالية في العالم.
صعود اليمين المتطرف
إن المتمعن في خارطة القوى المؤثرة في الساحة السياسية العالمية أي التي تمسك بالحكم في كبريات الدول، الولايات المتحدة الامريكية والهند وروسيا والأرجنتين وعموم أوروبا وكندا يلاحظ دون عناء هيمنة الأحزاب والحركات الشعبوية اليمينية الشوفينية المتطرفة والفاشستية. فكل هذه البلدان وهي الأكثر تأثيرا في مجرى الحياة الاقتصادية والسلام الدولي والاستقرار إما تقع الآن تحت سيطرة أطراف سياسية يمينية متطرفة أو هي مهددة على المستوى المنظور بالوقوع تحتها.
فالولايات المتحدة الامريكية مهددة بعودة الشعبوي ترمب (رغم أن إدارة "الديمقراطي" بايدن لا تقل عنه غطرسة وفاشية) والغالبية العظمى من بلدان أوروبا مرشحة بأن تقع تحت حكم اليمين المتطرف. وقد جاءت نتائج الانتخابات المحلية في كل من هولندا والمجر وإيطاليا والسويد وفنلندا وسلوفاكيا في المدة الأخيرة لتؤكد هذا المنحى. وتفيد الكثير من الدراسات والاحصائيات أن أكثر من نصف بلدان الاتحاد (27 بلدا) مرشح على المدى المباشر بأن يكون بيد ائتلاف حكومي يقوده اليمين المتطرف. لذلك ينتظر أن يصبح التوجه الذي يسيطر على نطاق واسع في أوساط شعوب أوروبا واحدا من أكبر القوى في البرلمان الأوروبي إثر انتخابات شهر جوان القادم. وتعطيه استطلاعات الراي إمكانية حصد ربع المقاعد من أصل 705 مقعدا في هذا البرلمان. حتى الأمثلة القليلة التي تُعتبر استثناء أوروبيا مثل ايرلندا واسبانيا فقد أكدت الانتخابات الأخيرة وزن التيارات اليمينية الفاشية فيها (حزب فوكس Vox القوة الثالثة في اسبانيا والذي يسيطر على 5 مناطق بالتحالف مع نظيره اليميني المتطرف الحزب الجمهوري PP، وظهور، ولأول مرة منذ الثلاثينات من القرن الماضي في ايرلندا، مجموعات يمينية متطرفة "هوية إيرلندا Identity Ireland والحزب الوطني National Party وغيرها كانت وراء أحداث سنة 2022 وأحداث نوفمبر 2023 الدامية في العاصمة دبلين).
أما في الهند التي تعيش على وقع انتخابات تشريعية انطلقت يوم الجمعة الماضية وستستمر الى غاية يوم 16 جوان القادم وتعتبر أضخم انتخابات في التاريخ حيث سيشارك فيها 970 مليون ناخب يرشح "التحالف الوطني الديمقراطي" المؤلف من 35 حزب والذي يقوده الوزير الأول الحالي نارندرا مودي زعيم الحزب اليميني الطائفي الهندوسي المتطرف "حزب بهاراتيا جاناتا" للفوز بها للمرة الثالثة على التوالي.
ومعلوم أن الشعبوي اليميني الفاشستي خافير ميلاي كان فاز بالانتخابات في الارجنتين في نوفمبر الماضي بناء على برنامج شعبوي نيوليبرالي وقد سارع فور نجاحه بزيارة الكيان الصهيوني والإعلان عن نقل سفارة بلاده إلى القدس.
وفي شهر مارس الماضي تم انتخاب فلاديمير بوتين مجددا لرئاسة روسيا. وهو رغم تناقضاته مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلف شمال الأطلسي فإنه لا يختلف عنهم من حيث طبيعة التوجهات الاقتصادية الرأسمالية الليبرالية المتوحشة ومن حيث نزعته العسكراتية وسياسته الامبريالية التوسعية. فما يختلف فيه عنهم وعن كل القوى الامبريالية الأخرى هو في الحقيقة تباين أهداف كل واحد منهم في هذا الصّراع من أجل إعادة اقتسام العالم وترتيب خارطة مناطق النفوذ والمصالح.
إن العالم يمر بمنعرج خطير ويتهدده خطر سيطرة القوى الموغلة في الرجعية التي من خصائصها إثارة النزاعات وإشعال فتائل الحروب. ومعلوم ان أي حرب ستندلع هنا أو هناك من العالم ستكون الشعوب شحما لمدافعها لكن هذه المرة ستكون البشرية جمعاء مهددة بالانقراض جرائها.
ومازال أمل في المستقبل
هل هذا هو القدر الوحيد والمحتوم للإنسانية في ظل هذا النظام الذي فقد كثيرا من مقومات بقائه واستمراره؟ لا أبدا. فالأمل في خلاص البشرية لا يزال قائما. وسيكون لنا عودة لهذا الموضوع بشيء من التدقيق والتفصيل.
جيلاني الهمامي
تونس في 25 أفريل 2024
الهوامش
1 – أنظر التقرير على الرابط التالي :
L’effondrement et la barbarie du capitalisme, et les arguments irréfutables en faveur du socialisme international - World Socialist Web Site (wsws.org)
2 – أنظر تقرير البنك العالمي – جانفي 2024 على الرابط التالي :
content (worldbank.org)
3 – تقرير معهد ستوكهولم لابحاث السلام – 22 أفريل 2024، أنظر الرابط التالي
Tendances des dépenses militaires mondiales, 2023 | Le SIPRI