مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة لكتاب صادر بنفس العنوان) - الجزء الأول
جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7944 - 2024 / 4 / 11 - 00:10
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مساهمة في تقييم التجربة
الاشتراكية السوفياتية
الجزء الأول
لماذا فشلت التجربة الاشتراكية الأولى في تاريخ البشرية، التجربة السوفياتية؟ كيف حصل ذلك وما هي الأسباب الحقيقية؟ أسئلة لا جدال في أنه من غير اليسير بالمرة الإجابة عنها بصورة موثوقة ومقنعة ونهائية. بل لا بد من القول أن محاولات كثيرة من منطلقات متباينة جرت في هذا الصدد ومع ذلك ما تزال هذه الأسئلة تطرح نفسها بكل حدة وإلحاحيه رغم فيض الكتابات التي صدرت في الموضوع. وقد اتخذت هذه المسألة بمناسبة مائوية ثورة أكتوبر السنة الماضية أهمية خاصة فصدرت بمناسبتها مساهمات وأفكار جديدة – إيجابا وسلبا – أعادت طرح الموضوع من جديد في ظرف تبدد فيه بعض ما بثته الضجة الدعاية البرجوزاية ضد التجربة السوفياتية من مغالطات وشكوك حول الاشتراكية بصورة عامة. وقد ساهمت الأزمة الاقتصادية والمالية للمنظومة الرأسمالية العالمية التي لم تجد منذ خريف 2008 منفذا للخروج منها في انقشاع جزء من ضبابية ونذكر جميعا العودة القوية للاطلاع على بعض مراجع الماركسية والرواج الواسع لكتاب " رأس المال ل" كارل ماركس على سبيل المثال.
نحاول في هذه المساهمة تقديم حصيلة بحث وتفكير ونقاش نظمه الحزب في الفترة التحضيرية لمؤتمره الخامس وتبقى هذه المساهمة مفتوحة لمزيد الاثراء والتعميق حول أكثر من جانب إذ أنها لا تعدو أن تكون سوى جملة من الاستنتاجات والتقديرات أولية لعدد من القضايا والسياسات والاحداث التاريخية بناء على ما توفر من مصادر ومراجع تتصل بالتجربة السوفياتية. وعلى قدر ما حاولنا التقيد بمقتضيات الموضوعية في البحث عن الحقيقة انقدنا في العمل على بلورة هذه الاستنتاجات والأحكام بخلفية أيديولوجية وسياسية واضحة نابعة من قناعات الحزب وخطه. بلغة أخرى وحتى تكون مساهمتنا أقرب ما يكون من الموضوعية لم نتقيد برواية محددة ولم نفضل تفسيرا عن آخر. فمثلما اعتمدنا على المعطيات الرسمية المتوفرة – على قلتها – أولينا نفس القدر من الأهمية للكتابات المعارضة والمعادية للتجربة وأخذنا بالكثير مما جاء فيها من معطيات وأخبار كلما بدت ذات مصداقية ومتفق عليها من أكثر من جهة.
إن التزام الموضوعية لا يفترض بالضرورة اتخاذ موقف الحياد حيال الاحداث والتطورات التي شهدتها التجربة السوفياتية أو حيال القوى والأطراف والشخصيات التي قادتها أو أثرت فيها. لقد انطلقنا في هذا العمل كماركسيين لينينيين وحرصنا كل الحرص أن يكون تقييمنا للتجربة من هذه الزاوية بالذات.
ننبه في البداية إلى أن هذا العمل ليس بالبحث الأكاديمي بل هو وجهة نظر سياسية استوجبت الكثير من البحث في تفاصيل التجربة وأطوارها وفي الأدوار التي لعبها رموزها المعروفون لذلك قد يبدو للقارئ أننا أثقلناها بكثير من السرد التاريخي وهو ما فعلنا عنوة حتى تكون قراءتنا لتلك الأحداث والأطوار والأدوار بناء على تملك دقائقها وتفاصيل مجرياتها.
إن الإقدام على خوض هذه المغامرة لا ينبع في الواقع من غرور مثقفاتي ولا من رغبة في التلهي بنبش الماضي ولا هو بداعي ملأ فراغ تشتكيه الحركة الشيوعية في العالم وفي بلادنا بقدر ما هي مهمة تقتضيها حاجتنا لفهم ما حصل وفرز الحقيقي فيه من الأكاذيب التي ألصقت بالتجربة. ومما لا شك فيه أن إعادة الاعتبار للاشتراكية العلمية في المواجهة الكبرى التي تقابل الشعوب والطبقات الكادحة وعلى رأسها الطبقة العاملة في أصقاع الدنيا والتي للأسف ما زالت موازين القوى فيها راجحة لصالح طبقة الملاكين وتياراتها السياسية الرجعية وطغم راس المال الكبير تتطلب فيما تتطلب من عموم الثوريين الماركسيين اليوم التوصل إلى الكشف عن الأسباب الحقيقية التي أدت بهذه التجربة الرائدة إلى ما آلت إليه بعيدا عن نوازع العاطفة وكذلك عن الأحكام المتسرعة أو الانجرار ببلاهة وراء ما تروجه الكتابات المغرضة.
إن الانطلاق في هذه المغامرة أمر محفوف بكثير من المخاطر، مخاطر الانزلاق إلى التسطيح والتعميمات او السقوط في التبرير أو الانجرار وراء الأحكام المعادية وتكرار ما حفلت به مئات بل آلاف الكتابات البرجوازية من الأكاذيب التي سقط بعضها في الاسفاف والادعاء واختلاق المعطيات الكاذبة والتهويل والمبالغات خاصة كلما تعلق الأمر بشخص ستالين. والحقيقة أن الباحث المتأني بمقدوره أن يجد الكثير من المواد المفيدة التي تجعل الانطلاق في هذا العمل لا يبدأ من الصفر ذلك أن المكتبة الماركسية تحتوي على عدد مهم من الدراسات الجديرة بالاحترام والتنويه مثلما تزخر بعدد لا يحصى ولا يعد من المراجع البرجوازية المعادية.
لقد ركزت أغلب الكتابات المعادية على الجوانب السياسية في التجربة الاشتراكية السوفياتية من منطلق تشويه نظرية " ديكتاتورية البروليتاريا " و" المركزية الديمقراطية " ومن أجل إبراز " محاسن الديمقراطية البرجوازية " و" العالم الحر " و" أبدية المنظومة الرأسمالية ". ولعل أخطر هذه الكتابات هي تلك التي اتخذت من الدفاع عن الماركسية غطاء لإكساء تقييماتها بشيء من المصداقية الزائفة ولكنها سقطت –شاءت أم أبت – في نفس الغايات والمرامي التي انقادت بها كتابات أعداء الاشتراكية.
وقبل أن نلج إلى مباشرة أغوار الموضوع يجدر أن نخصص – وعلى سبيل الاعلام والتذكير فقط – بأصناف التقييمات التي " أنجزت " من منطلقات وبغايات طبقية وسياسية هادفة وغير بريئة.
لذلك تراءى لنا من المهم أن نتطرق إلى الموضوع بتخصيص فصل أول لاستعراض أبرز التقييمات المعروفة والتي تلتقي كلها في تشويه التجربة وإن انطلقت من منطلقات مختلفة. أما جوهر وجهة النظر التي نساهم بها في هذا المضمار فرأينا أن تكون في مسألتين اثنتين هما تقييم التجربة من الناحية السياسية أي كل ما يتعلق بنمط الحكم – ديكتاتورية البروليتاريا – وعلاقته بالديمقراطية ودور الحزب فيه وعلاقة هذا الأخير بمؤسسات الدولة وخصصنا لذلك فصلا مستقلا عن فصل آخر يتعلق بمسألة بناء الاشتراكية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. وتبقى الغاية من كل ذلك هي طبعا البحث عن الأسباب التي أدت إلى تفسخ الاشتراكية وعودة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي.
أصناف من التقييمات
تعج الساحة الفكرية بتقييمات شتى للتجربة الاشتراكية ذهب أصحابها كل مذهبه الأيديولوجي والفكري والسياسي. ولئن اختلفت في زوايا النظر لحصيلة حوالي ثلاثين سنة من عمر التجربة فإن ما يجمعها – في نهاية المطاف - هو معاداة الماركسية ومحاولة التدليل على أن المثل الشيوعي ليس غير وهم وحلم مثالي لا صلة له بالواقع سواء أعلنت فشل التجربة السوفياتية فشلا ذريعا أو اتجهت نحو تضخيم حجم الأخطاء المقترفة خلال ثلاثين سنة من عمرها. حول هذا الاستنتاج تلتقي التقييمات البرجوازية الليبرالية الرجعية المعادية صراحة للثورة عامة وللاشتراكية تحديدا والتقييمات الاشتراكية الديمقراطية الإصلاحية وتقييمات التيارات الفوضوية وتيارات أخرى ادعت التشبث بالماركسية ولكنها هاجمت التجربة السوفياتية - وحقبة ستالين خاصة - باسم الدفاع عن الاشتراكية. نحاول فيما يلي استعراض مضمون هذه التقييمات واستنتاجاتها وأحكامها وجوهر الرسائل التي عملت على بثها على أوسع نطاق.
ولعل الأدب البرجوازي المدافع عن قيم الفرد والمبادرة الخاصة ونظام السوق والملكية الفردية والاستغلال والمناهض بالتالي لأي شكل من أشكال تغيير هذه المنظومة الرأسمالية هو الأغزر في هذا الصدد ويعسر حقا حصر ما صدر من مؤلفات ضمن الحملات والحروب الأيديولوجية ضد الماركسية التي رعتها الدول ومؤسسات البحث والجامعات وحتى وكالات الاستخبارات والتجسس.
ولا غرابة في ذلك إذ أن " الفكرة الشيوعية " التي كما قال ماركس وانجلز في البيان الشيوعي " شبحٌ ينتاب أوروبا - شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدت في اطراد رهيب قوى أوروبا العجوز كلها: البابا و القيصر, مترنيخ و غيزو, الراديكاليون الفرنسيون و البوليس الألماني " كانت على الدوام محل هجومات وحملات دعائية معادية بل حملات شيطنة وتشويه وكذب. وقد اتخذت هذه الحملات أبعادا أكبر بما لا يقاس ضد الشيوعيين الروس لا فقط أيام الثورة وإنما على امتداد السنوات التي عاشتها هذه التجربة، التجربة الاشتراكية السوفياتية. لا غرابة في ذلك بما أن الشيوعيين الروس أعطوا للفكرة الشيوعية، لهذا " الشبح الشائن " انطلاقة جديدة بعد أن خفت بريقها نسبيا في منشئها الأصلي أوروبا الغربية ودكوا أركان قلعة الرجعية الأوروبية الأكثر تخلفا، القيصرية الروسية.
كانت الحملات الدعائية المعادية للاشتراكية وللثورة البلشفية واحدة من الأسلحة التي اعتمدتها الرجعية العالمية لمواجهة خطر الثورة بل وتحولت في وقت من الأوقات، عندما فشلت الأسلحة الأخرى، البنادق والمدافع والطائرات في الإطاحة بسلطة العمال والفلاحين إلى اهم سلاح لمحاربة الاشتراكية. وقد تبين مع مر التاريخ أن مفعول الأكاذيب والتشويهات قد حقق ما لم تقو على تحقيقه الأسلحة الأخرى. وما كان لهذه الأدوات أن تفعل مفعولها لو لا المادة التي وجدتها لدى " أبناء " التجربة الذين وجهوا أسلحتهم صوبها هي بالذات بدل أن يوجهوها للعدو الحقيقي. ويدرك الجميع قيمة المعطيات التي زخرت بها كتابات تروتسكي وغيره ممن يطلق عليهم اسم " المعارضة " les dissidents ومولت الدعايات الغربية ومؤسسات البحث المعادية في أوروبا وأمريكا واليابان وغيرهم. ويبقى الخطاب السري لـ" نيكيتا خروتشوف " في أعقاب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الروسي ( 1956 ) من أكثر المواد أهمية في تمويل حملات تشويه التجربة الاشتراكية السوفياتية. بل يمكن القول أنه شكل واحدا من أخطر أسس ثقافة مرحلة الحرب الباردة وإلى اليوم، هذه المرحلة التي عرفت صدور عشرات الآلاف من المؤلفات التي ركزت هجوماتها على ستالين.
ويمكن الاكتفاء بالإشارة إلى أبرز المؤلفات المعروفة ( الفرنسية والأمريكية والانجليزية ) التي يتمحور مضمونها عامة حول الاشادة بتفوق الرأسمالية على الاقتصاد الاشتراكي وتفوق الديمقراطية البرجوازية على ديكتاتورية البروليتاريا. وقد برز متخصصون في تاريخ الاتحاد السوفياتي من مؤرخي اليمين الفرنسي مثل هيلين كارير دونكوص Helene Carrere d’Encausse الخبيرة لدى البنك الاوروبي للإنشاء والتعمير وصاحبة البرنامج النيوليبرالي لإعادة إعمار بلدان أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين ( 1 ) ونيكولا وارث Nicolas Werth الذي صدر له حوالي 20 مؤلف في الموضوع مولتها منظمة هوفر الأمريكية ( نسبة إلى الرئيس الأمريكي الجمهوري الأسبق هربرت هوفر Herbert Hooverوهي من أهم مؤسسات البحث الأمريكية المحافظة المعروفة ( 2 ) وستيفان كورتوا Stéphane Courtois الذي تكفل بكتابة مقدمة كتاب " السجل الأسود للشيوعية " ( 3 ) وألان بلوم Alain Blum ( 4 ) والمختصين الأمريكان في التاريخ السوفياتي القدامى منهم مثل ويليام هورست William Herast الذي سخر إمبراطورتيه الإعلامية للدعاية النازية ولمعاداة الشيوعية والاتحاد السوفياتي ولستالين بصورة خاصة وكذلك الجدد منهم مثل شيلا فيتزباتريك ( 5 ) Sheila Fitzpatrick ومارتن ميليا Martin Melia ( 6 ). وماتزال الأفكار المعادية للشيوعية التي تتداولها وسائل الاعلام والكتاب البرجوازيون تنهل إلى اليوم من مضامين النازية التي اشتغلت على ترويجها مؤسسات هيرست لسنوات طويلة ( 7 ). وقد كشف الكاتب الكندي دوقلاس توتل Douglas Tottle في كتاب " الاختلاس والمجاعة والفاشية " ( la fraude, la famine et le fascisme ) المنشور في طورنطو سنة 1987 عن الطرق التي كان يعتمدها مراسلو صحف هيرست لصناعة الأكاذيب وترويج مغالطات أثرت وللأسف بالغ التأثير في الرأي العام الأمريكي لعشريات متتالية وإلى اليوم.
وقد ورثت وكالات المخابرات الأمريكية CIA والانجليزية M21 عن هيرست مادة دعائية ضخمة عملت على نشرها وأغدقت على مروجيها أموالا طائلة مثل عون المخابرات البريطاني كونكويست Conquiest الذي ألف كتابيه " الإرهاب الأكبر " la grande terreur ( 1969 ) و" حصاد الألم " la moisson de la douleur ( 1986 ) اللذين اعتمد فيهما على معطيات من سجلات القستابو gestapo النازية.
ويعتبر " الكتاب الأسود للشيوعية " لمجموعة من المؤلفين الفرنسيين الصادر سنة 1997 هو الحوصلة المكثفة لمضمون هذه الحملات. وقد تجرّأ المؤرخ اليميني الفرنسي بيار كورتوا في مقدمة هذا الكتاب إلى اعتبار الشيوعية رديفا للنازية وجب تجريمها وملاحقة معتنقيها في أوروبا وفي العالم قاطبة. وقد لاقى هذا الطرح انتقادات حادة حتى في الأوساط المثقفة اليمينية الفرنسية التي اعتبرت أن ما ذهب إليه من قبيل المبالغات الفجة وغير الجديرة بالاحترام والتصديق.
وفي ذات السياق انساق العديد من المؤلفين العرب من مدارس برجوازية محافظة وليبرالية وإسلامية مناهضة للاشتراكية مثل الدكتور فائق عبد الجبار صاحب كتاب " ما بعد ماركس " الذي يقدم نموذجا عن التفكير السائد لدى التيار الفكري العربي المعادي للاشتراكية إذ لا يتوقف فقط عند الحكم على تجربة الاتحاد السوفياتي بأنها نموذجا " يقوم على بنية سياسية شديدة التمركز والاستبداد وعلى بناء اقتصادي اوامري ضعيف الإنتاجية وخاضع لتحكم طبقة بيروقراطية متنعمة " ( 8 ) ويضيف في نفس الاتجاه " كان النموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي بناه لينين هو نموذج رأسمالي حكومي مؤقت بانتظار النجدة التي لم تأت. وان هذا النموذج سار في اتجاه التطور الذي تنبّأ به بليخانوف وكاوتسكي وفيبر وحتى روزا لوكسمبورغ أي قيام دولة بيروقراطية مركزية استبدادية تفتقر إلى أي معلم ديمقراطي ( حتى للبلاشفة أنفسهم ناهيك عن المجتمع ) وتجمع في آن السلطة السياسية بالسلطة الاقتصادية وتهمين على إنتاج الثقافة على يد طبقة بيروقراطية تحكم باسم التاريخ وباسم الطبقة العاملة ... ". ( 9 ) بل مرّ إلى التشكيك في قيمة الماركسية أصلا التي في نظره ليست سوى دراسة النمط الرأسمالي في مرحلة من مراحل تطوره في أوروبا بل وفي بريطانيا وفرنسا فقط ليخلص إلى القول " النظرية الماركسية هي نظرية تحليل النظام الرأسمالي ونقده، ونظرية البحث عن الإمكانات التاريخية لنقد الرأسمالية وتجاوزها بل هذا التحليل انحصر في أوروبا الغربية وكرس مادة أبحاثه للفترة من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر ... " ( 10 ).
أما في تونس فيعتبر الكتاب الضخم لمحمد الكيلاني ( التجربة السوفياتية اشتراكية ام رأسمالية ) واحدا من أبرز المؤلفات التي نقلت إلى الساحة التونسية، وبأمانة كبيرة، البضاعة البرجوازية التي حفلت بها أسواق الدعائية الرأسمالية المعادية للشيوعية وللاتحاد السوفياتي وستالين. وهو في بعض مقاطع منه نقل حرفي لبعض ما جاء في مؤلفات بوريس سوفارين وتوني كليف وفيجيس وعامر عبدالله الذين استشهد بهم وضمّن هذه الاستشهادات في استنتاجاته على أنها حقائق مسلم بصحتها.
ومن جانب آخر ذهب إلى حد اعتبار أصل الداء متأت من اللينينية نفسها حيث يقول " فقد أخذت عملية تصفية الديمقراطية داخل الأحزاب الشيوعية عامة والحزب الشيوعي السوفياتي على وجه التحديد أحجاما ومستويات مرعبة تؤكد أن المسألة تتجاوز الميولات الدكتاتورية لستالين لتتصل بالأسس النظرية والأيديولوجية التي تقوم عليها، أي اللينينية.." ( 11 ).
أما التيار الاشتراكي الديمقراطي سليل الأممية الثانية التي أعلنت إفلاسها مبكرا قبل حتى قيام ثورة أكتوبر فقد تناولت هي الأخرى تقييم التجربة السوفياتية ظاهريا من مواقع الدفاع عن الاشتراكية ومعارضة الرأسمالية ولكنها في الحقيقة لم تختلف في تحاليلها عما روجته الدعاية الليبرالية وما عبرت عنه من عداوة أيديولوجية للتجربة السوفياتية وللماركسية أصلا حتى ان بعض رموزها لم يتحرج بتاتا من التنكر حتى للقشرة الاشتراكية الكاذبة وراح يدافع صراحة وبصورة مفضوحة عن الرأسمالية في أبشع نسخها الليبرالية الجديدة.
دون إطالة في هذا الجانب نشير فقط إلى أراء بعض الرموز القدامى والجدد للتيار " الاشتراكي الديمقراطي ". لا يختلف اثنان في أن أبرز رموز هذا التيار التاريخيين هو الألماني كارل كاوتسكي منظر هذه المدرسة وزعيمها السياسي لفترة طويلة. وحتى نفهم سياق النقود التي وجهها كاوتسكي للتجربة لا بد من الإشارة ولو بعجالة لما كان يتباين فيه مع الماركسية بخصوص مسألة الثورة البروليتارية والتحولات التاريخية للمجتمع الانساني المعاصر وقضية الاشتراكية على وجه التحديد وسبل بلوغها.
فإذا كانت الاشتراكية الديمقراطية في عهد كاوتسكي – أي قبل أن تفتضح تماما – لم تكن تعترف بأبدية النظام الرأسمالي ولا تعتبر الاشتراكية فالشيوعية والمجتمع الخالي من الطبقات واضمحلال الدولة مجرد يوتوبيا utopie فإنها في خضم النضال الطبقي الذي عرفته المجتمعات الأوروبية آنذاك حذت حذو الأحزاب البرجوازية في الاعتقاد بأنه بالإمكان تغيير الرأسمالية والوصول إلى الاشتراكية عبر البرلمانات والديمقراطية البرجوازية. ومن هذا المنطلق واجه الاشتراكيون الديمقراطيون ( المناشفة وغيرهم ) الثورة البلشفية في روسيا بناء على تحليلهم القائل بأن روسيا هذا البلد المتخلف اقتصاديا واجتماعيا غير مؤهل للثورة الاشتراكية واعتبروا أن أية محاولة في هذا الاتجاه محكوم عليها مسبقا بالفشل. وعندما أعلن في الاتحاد السوفياتي سنة 1921 عن تبني " السياسة الاقتصادية الجديدة " NEP بديلا عن سياسة شيوعية الحرب اتخذوا من ذلك حجة على صحة نظريتهم التي لم تكن تعني فقط روسيا وإنما أيضا كل بلدان أوروبا إذ يكفي هنا التذكير بالدور التخريبي الذي لعبوه لإفشال الثورة في ألمانيا.
وبما أن الاشتراكيون الديمقراطيون اعتبروا الثورة البلشفية لم تكن تستجيب لحاجة تاريخية واجتماعية بقدر ما كانت بمثابة مغامرة إرادوية أحسن إنجازها البلاشفة في ظرف تاريخي كانت البرجوازية الأوروبية والعالمية منشغلة عن روسيا بالحرب وبما أن استمرار النظام البرجوازي في أهم البلدان الأوروبية والرأسمالية عامة كان " مفيدا " للطبقة العاملة والشعوب في أكثر من وجه على حد اعتقادهم، فإن فشل التجربة السوفياتية جاء في نظرهم ليؤكد صحة ما ذهبوا إليه من قبل. يقول كاوتسكي في مقال بعنوان " نحن والبلاشفة " نشره في مارس 1918 " إن محاولة البروليتاريا الروسية تقويض سلطة رأس المال وإحلال الاشتراكية محلها كان امرا لا بد منه ولكن فشلهم في ذلك كان حتميا لنفس الأسباب في ثورات 1848 و1871 ". ويضيف " أن ميزة المناشفة هي انهم أدركوا أن الثورة الاجتماعية غير ممكنة ما لم تبلغ الرأسمالية درجة معينة من التطور لم تحصل بعد في روسيا ". ويستنتج من ذلك أن " البلاشفة الذين تصدروا نضال البروليتاريا الروسية وكانوا أوفياء للمشاعر الثورية للطبقة العاملة اشتركوا معها في وهم الثورة وانجروا وراءها واقتادوها إلى تجارب لن تنتهي إلا بهزيمة البروليتاريا ". وفي معرض تشكيكهم بالثورة البلشفية امتدح " الاشتراكيون الديمقراطيون " النموذج الألماني حيث تهيمن أفكارهم وقالوا بتفوق البروليتاريا الألمانية عدديا على نظيرتها الروسية نتيجة التطور الصناعي الذي عرفه الاقتصاد الألماني بما يبوئها افتكاك السلطة السياسية عبر الانتخابات وبسط نفوذها على الاقتصاد بواسطة الدولة الديمقراطية. أما البروليتاريا الروسية ضعيفة العدد نتيجة تخلف الصناعة هناك فهي وإن تمكنت من افتكاك السلطة السياسية فإنها ستكون مجبرة على السيطرة على فروع الصناعة المحدودة بمحاكاة ما اعتمدته البروليتاريا الفرنسية زمن ثورة 1848 و1871 لا بواسطة " الدولة الديمقراطية " وإنما عن طريق النقابات. ولكي يضفي على هذا التحليل كساء ماركسيا ينتقي كاوتسكي من كتاب صراع الطبقات في فرنسا لماركس الجملة التالية " إن تطور البروليتاريا مرتبط بتطور البرجوازية الصناعية. ففي ظل سيطرة هذه الأخيرة تحقق الطبقة العاملة تواجدها على النطاق الوطني الذي يجعل من ثورتها ثورة وطنية عامة وحيثما كانت الصناعة الرأسمالية متقطعة فإن القضاء على السيطرة الرأسمالية لا يمكن ان تكون مضمون ثورة وطنية " ( 12 ). لقد عارض كاوتسكي وبليخانوف والمناشفة وطائفة أخرى من التيارات الاشتراكية الديمقراطية ( وحتى جناح أقلي في البلاشفة بقيادة ريازانوف Riazanov ) المناوئين لما أسموه دكتاتورية لينين وتروتسكي، قيام الثورة البلشفية وتنبؤوا لها بالفشل المحتوم والسريع تقودهم في ذلك قناعتهم بأن " المستقبل للوسط " كما قال كاوتسكي. لكن هذا الوسط ما لبث أن كشف عن حقيقته اليمينية المفضوحة في خطاب كارل شميت زعيم الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان أحفاد كاوتسكي وإيبرت وغيرهما حيث قال بمناسبة إحياء مائوية الحزب الاشتراكي الألماني ( 1863 – 1963 ) " لقد رفضت قيادة الحزب ثورة 1918 ولكنها حين اندلعت أخذ فريديريك ايبرت وغيره الأمور بأيديهم وأنقذوا الديمقراطية وحالوا دون حصول تجربة تؤدي إلى ديكتاتورية البروليتاريا " ويضيف بكل وقاحة " إن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني يريد أن يكون حزبا وطنيا شعبيا وأوروبيا فلم يعد حزب طبقة محددة. نحن لا نريد مشركة الانسان بل نريد أنسنة المجتمع " ( 13 ).
من التقييمات الأخرى الجديرة بالاهتمام، لا لثراء مضمونها أو لصحة ما انتهت إليه من استخلاصات ودروس وإنما لطبيعة الحجج التي قدمتها لتفسير فشل تجربة الاتحاد السوفياتي وهي تنطلق من منطلقات ماركسية وتحاول احتكار تمثيل ماركس وانجلز وحتى لينين، هي التقييم التروتسكي.
ولئن كنا نخصص للطرح التروتسكي في الثورة البلشفية ملحقا خاصا نورده في آخر هذا النص فإننا نود لا محالة التوقف عند المحاور الرئيسية للاستنتاجات التي بلورها التيار التروتسكي بخصوص تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية وأسباب فشلها.
وجب في البداية التذكير بأن ليون التروتسكي عرف مسارا ثوريا خاصا به منذ أن تعرف على لينين في لندن وعينه هذا الأخير في هيئة تحرير الايسكرا ( الشرارة ) المنبر الذي تم اعتماده لتوحيد " الاشتراكيين الديمقراطيين " الروس في حزب واحد ومنظم. كانت جريدة " الايسكرا " الأداة التي أعد بها الاشتراكيون الديمقراطيون ( أي الماركسيون آنذاك ) المؤتمر الثاني للحزب الذي كان بمثابة المؤتمر التأسيسي والذي ما أن انعقد حتى انقسم الحزب الوليد إلى قسمين، أغلبية وراء لينين ( البلاشفة ) وأقلية وراء مارتوف ومارتينوف واكسلرود ( المناشفة ) واتخذ تروتسكي موقفا وسطيا بينهما مع ميل طفيف لأطروحات المناشفة حول الثورة الروسية وسبل تحقيقها وحول ماهية الحزب ونمط تنظيمه. وظل على هذا الموقف حتى شهر جويلية سنة 1917 تاريخ اقترابه من لينين والبلاشفة الذين كانوا يعدون على قدم وساق للثورة والتحق في مؤتمر الحزب ( جويلية - اوت 1917 ) بالبلاشفة وانتخب عضوا باللجنة المركزية للحزب البلشفي.
كان تروتسكي على هامش الصراع الذي خاضه لينين ورفاقه ضد الأطروحات الأخرى وخاصة الاطروحات المنشفية وقد ظل وفيا لطرحه الخاص " الثورة الدائمة " التي بلور أولى أفكارها مع بارفوس Parvus على هامش ثورة 1905. وشق طريقه الخاص حيثما حل في المهجر على رأس جريدته " البرافدا " في النمسا وما أن عاد إلى روسيا ربيع سنة 1917 التحق بمجموعته المعروفة " Interrayons " قبل ان يلتحق بصفوف الحزب البلشفي. لم يكن ذلك في الحقيقة بناء على تقييم تجربته السابقة وسلسلة المواقف التي اتخذها طوالها ولا يمكن اعتبار اعترافه بموقفه الوسطي والتصالحي مع المناشفة يفيد بالمرة أنه اندمج كليا وبصورة عميقة بخط البلاشفة. فما من شك أن اتفاقه مع لينين والحزب ككل في تلك الظروف العاصفة لم يسمح بترف النبش في الماضي ولكن ذلك الاتفاق كان يفتقد للوحدة العميقة التي لا تقبل الاختلاف أو الغموض التي تحدث عنها لينين بخصوص وحدة الخط الأيديولوجي للحزب من الطراز اللينيني. وبمعنى ما تكفلت استحقاقات الوضع الثوري التي عاشته روسيا وقتها والاستعدادات الحثيثة لثورة أكتوبر بطي صفحة الماضي.
لمع نجم تروتسكي طوال السنوات الأولى بعد الثورة وتقلد مسؤوليات كبرى في الدولة الجديدة وأساسا على رأس الديبلوماسية السوفياتية ثم على رأس الجيش الأحمر الذي كان يخوض غمار الحرب الأهلية ضد " الحرس الأبيض " والتدخل العسكري الامبريالي على أكثر من جبهة. ولكن ذلك لم يمنع من ظهور خلافات سياسية حول قضايا أساسية واجهتها الثورة مثل صلح بريست ليتوفسك والموقف من النقابات والموقف من المعارضة العمالية واستبدال " شيوعية الحرب " بـ" السياسة الاقتصادية الجديدة " وحول قرار حل المجموعات والتكتلات داخل الحزب في المؤتمر العاشر سنة 1921. في كل هذه القضايا تأرجح تروتسكي بين مواقف إصلاحية تارة ويسراوية تارة أخرى نالت حضها من النقد والنقد اللاذع أحيانا من قبل قادة الحزب والدولة، لينين وستالين وكامينيف وبوخارين وزينوفييف وغيرهم. وفي خضم كل ذلك استمر تروتسكي وفيا لأطروحته القديمة حول " الثورة الدائمة " التي ولئن وضعتها احداث الثورة والحرب الاهلية جانبا فإنه سرعان ما عاد لطرحها من جديد لتصبح في مقدمة نقاط الخلاف مع قيادة الحزب البلشفي في السنوات الأخيرة من حياة لينين وابتداء من سنة 1924 تحديدا. وإلى جانب هذه المسألة شرع تروتسكي في صب انتقاداته على نظام عمل الحزب وعلاقته بالدولة. وبما اننا خصصنا جزء مستقلا بمسألة " الثورة الدائمة " وأوجه الخلاف فيها مع الطرح البلشفي آنذاك فإننا نركز فيما يلي على نقاط الخلاف الأخرى وتطور الجدل حولها ومآلاته ومآلات تروتسكي نفسه.
انتهى تروتسكي إلى الحسم في التجربة السوفياتية بصورة مبكرة فأصدر حكمه بفشلها وتفسخها منذ سنة 1936 أي قبل المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي الذي أعلن فيه خروتشيف رسميا بدء العهد التحريفي أي قبل عشرين سنة من ذلك حيث يقول في كتابة " الثورة المغدورة " الحزب البلشفي القديم قد مات وليس هناك قوة يمكنها إحياؤه وباتت الثورة من جديد أمر لا محيد عنه ولم يعد الأمر يتعلق بتهديد حزب ثان مثلما كان مطروحا منذ 12 أو 13 سنة خلت ولكن بضرورة هذا الحزب القوة الوحيدة القادرة على مواصلة الثورة.." ( 14 ). غير أنه ينبغي القول أن مسارا طويلا قد جرى تقلب فيه تروتسكي على مواقف وأحكام ومواقف متضاربة ومتناقضة في كثير من الأحيان.
فعلاوة على الشطحات التي عبر عنها بصدد عدد من المسائل بعد أكتوبر 17 وقبل وفاة لينين فقد واصل في ذات الاتجاه إبان وفاة هذا الأخير. وجه تروتسكي أولى سهامه للحزب واتخذ من مقاومة البيروقراطية في الحزب مطية لحملاته. جذور هذه الحملة تعود في الحقيقة لفترة زمنية قديمة نسبيا وتتعلق بتصورات تروتسكي للتنظيم الحزبي وخلافه القديم مع البلاشفة والذي ولئن انضم إليهم قبيل الثورة بأسابيع فإنه لم يتخلى أبدا عن تصوراته رغم النقد الذاتي الذي قام به علنا والذي جاء فيه " إن الاختلافات العميقة التي فرقت بيني والبلاشفة لسنوات كاملة والتي وضعتني في بعض الحالات في معارضة شديدة ضد البلشفية تجسدت بكل وضوح في الموقف من الشق المنشفي. لقد بدأت باعتناق نظرة خاطئة تماما مفادها ان مسار الثورة والضغوط التي تمارسها الجماهير البروليتارية ستجبر الشقين لا محالة على السير في نفس الاتجاه واعتبرت بالتالي أن الانشقاق داخل القوى الثورية كان قطيعة لا فائدة منها. غير ان الدور النشيط كان في هذا الانشقاق إلى جانب البلاشفة - بما أنه وعلى رأي لينين لا يمكن ضمان الطابع الثوري لحزب البروليتاريا إلا بالتباين وبشكل قاس لا الأيديولوجي فقط بل وكذلك التنظيمي ( وقد أثبتت الأيام تماما صحة هذا الخط السياسي ) – وحملتني نزعتي " التوافقية " في الكثير من المنعطفات الحاسمة إلى مصادمات معادية مع البلشفية " ( 15 )
لكن ومع ذلك لم يبرح قناعاته القديمة كلما حانت الفرصة وكان اتفاق الصلح مع ألمانيا في ربيع سنة 1918 أول فرصة ليؤكد تروتسكي أن التحاقه بصفوف الحزب البلشفي وتقلده لذلك المنصب القيادي الرفيع فيه لم يكن كافيا. ثم ما لبث ان اكد نظرته الفردية واستهتاره بالتنظيم بعيد الجدل الذي أثاره بخصوص دور النقابات في تلك الفترة الحساسة الأمر الذي جر اللجنة المركزية إلى تخصيص دورتين من اجتماعاتها ( 9 نوفمبر و7 ديسمبر 1920 ) لإجراء نقاش عميق وشاق في الموضوع كما يقول لينين في مقاله الذي نقتطف منه الفقرة التالية " انظروا قليلا : بعد جلستين عامتين للجنة المركزية ( 9 نوفمبر و7 ديسمبر ) خصصتا لنقاش مفصل شديد التفصيل وطويل وشيق للمقترحات الأولية لأطروحات الرفيق تروتسكي والحزب بخصوص النقابات يبقى رفيق وحده ضد 19 فيشكل من حوله مجموعة من خارج اللجنة المركزية ويقدم " مؤلفا " " جماعيا " لهذه المجموعة كبرنامج يقترحه على المؤتمر " للاختيار بين توجهين " ... فهل يمكننا ان ننكر أنه حتى على افتراض أن " المهمات والأساليب الجديدة " كما وصفها الرفيق تروتسكي كانت صحيحة تماما، والتي هي في الواقع خاطئة تماما ( وهو ما سأبينه لاحقا ) فإن تروتسكي بمثل هذا السلوك الفردي يلحق بشخصه وفي نفس بالوقت بالحزب وبالحركة النقابية وبتربية الملايين من أعضاء النقابات وبالجمهورية ضررا " ( 16 ). جاءت محاولة تروتسكي الانشقاقية في مناخ عام خيمت عليه مخلفات احداث كرونشتات وتوسع تأثير اطروحات " المعارضة العمالية " وانشطتها بشكل بدأ يبعث الكثير من الارتباك والشكوك في مبادئ الثورة في وقت كانت تجربة الدولة الاشتراكية الوليدة وقد أنهكتها الحرب الأهلية والعدوان الخارجي تعاني من مصاعب اقتصادية واجتماعية حقيقية. ورغم أن تروتسكي نفسه كان محل انتقادات لاذعة من " المعارضة العمالية " التي تعتبره المسؤول الأول عن العنف الذي ووجهت به انتفاضة كرونشتات كما تعتبره أحد أكبر رموز الديكتاتورية والبيروقراطية الناشئة ( إلى جانب لينين ) ورغم انه كان من اشد المنتقدين لأطروحات هذه المعارضة فإنه في الواقع بمحاولته الانشقاقية هذه إنما كان يغذي مناخ الارتباك العام والفوضى التي تتهدد التجربة. ( 17 ).
لذك وعلى خلفية هذه الحادثة وردا على اطروحات " المعارضة العمالية " وأنشطتها قرر المؤتمر العاشر للحزب ( 8 – 16 مارس 1921 ) حل كل المجموعات ومنع التيارات داخل الحزب. لكن ذلك لم يمنع تروتسكي من ان يعود ليحاول من جديد بعث مجموعة في ما يسمى بـ" إعلان الـ 46 " la declaration des 46 ( 18 ) في رسالة سرية إلى المكتب السياسي للحزب لطرح نقاش جديد حول " غياب الديمقراطية داخل الحزب " وظهور نزعة بيروقراطية فيه وحول " ثغرات عمل القيادة في المجال الاقتصادي " لتدعو في الأخير إلى " ضرورة عقد جلسة خاصة لأعضاء اللجنة المركزية ". لقد أكد تروتسكي صحة الحكم الذي أطلقه عليه لينين حين قال "إن المشاركين القدامى في الحركة الماركسية الروسية يعرفون جيدا تروتسكي ولا فائدة في أن أحدثهم عنه. ولكن الجدد من الطبقة العاملة لا يعرفونه ولا بد أن أحدثهم عنه ذلك أنه شخصية نموذجية من المجموعات الصغيرة الخمس العاملة بالمهجر والذين يتأرجحون بين التصفوية والحزب. ففي عهد الأيسكرا القديمة ( 1901 – 1903 ) أطلق على هؤلاء المترددون الذين يتنقلون بين معسكر " الاقتصادويين " ومعسكر الأيسكرا والعكس بالعكس اسم " ...... طوشينو " ( هكذا كان يسمى زمن فترات القلاقل في روسيا القديمة المناضلون الذين يتنقلون من معسكر إلى آخر ). وعندما نتحدث عن التيار التصفوي فإننا نعني به تيارا أيديولوجيا تشكل طيلة سنوات تعود جذوره للمنشفية والاقتصادوية كما تجلوا طيلة العشرين السنة الأخيرة من تاريخ الماركسية وهو تيار مرتبط بأيديولوجيا طبقة محددة هي البرجوازية الليبرالية. ويعلن " .... طوشينو " أنفسهم فوق الشقوق لسبب بسيط وهو انهم يستمدون أفكارهم يوما من هذا الشق ويوما من الشق الآخر. لقد كان تروتسكي سنوات 1901 – 1903 ايسكريا ولعب كما يقول عنه ريازانوف دورا متميزا في مؤتمر 1903 ولعب دور " عصا لينين " وفي أواخر سنة 1903 أصبح تروتسكي منشفيا شرسا أي أنه انتقل من معسكر الايسكرا إلى " الاقتصادويين " وأعلن أن هناك " هوة سحيقة بين الايسكرا القديمة والايسكرا الجديدة ". سنوات 1904 – 1905 غادر المناشفة وتبنى موقفا متذبذبا : تارة يتعاون مع مارتينوف ( اقتصادوي ) وتارة يعلن نظريته التافهة حول " الثورة الدائمة ". وفي سنوات 1906 – 1907 اقترب من البلاشفة وفي ربيع 1907 أعلن انحيازه إلى روزا لوكسمبورغ. ... وبعد تردد كبير " اللا- انشقاقي " انحدر نحو اليمين واصطف في أوت 1912 إلى جانب كتلة التصفويين. والآن انزاح عنهم ولكنه في الحقيقة يردد أفكارهم الصغيرة البائسة .. " ( 19 ).
ويقول لينين في موقع " إذا لم نكن نعرف كيف نتأقلم، وإن لم نكن مستعدين كي نزحف على البطن في الوحل فإننا لسنا بثوريين وإنما مجرد ثرثارين. وإذا كنت أرى أن نسير على هذا النحو ليس لأن الأمر يروق لي بل لأنه ليس هناك من حل آخر ولأن التاريخ لا تمنحنا الفرصة لإنضاج الثورة في كل مكان وفي نفس الوقت. هكذا إذا فإن الجمهورية السوفياتية الناشئة دفعت ثمنا باهضا بسبب المغامرية والانهزامية الثرثارة لدى تروتسكي وهي الخصائص الأساسية لنظريته الرديئة حول الثورة الدائمة التي بحسبها لا شيء يصلح أو يمكن أن يحصل عن ثورة ما لم تكن مصحوبة بثورة عالمية ... " ( 20 ).
من التقييمات " الماركسية " أيضا التقييم الماوي للتجربة السوفياتية والحلول التي تم اعتمادها لمكافحة أسباب نشوء التحريفية لئلا تقع التجربة الصينية فيما وقعت فيه تجربة السوفيات.
دخل الحزب الشيوعي الصيني في مواجهة أيديولوجية وسياسية على إثر إعلان خروتشوف عن توجهه التحريفي في نهاية المؤتمر 20 للحزب الشيوعي السوفياتي ( 1956 ). وقد مرت هذه المواجهة بثلاثة أطوار كبرى تصاعدت حدتها تدريجيا إلى ان بلغت حالة القطيعة التامة بين الحزبين السوفياتي والصيني. ففي البداية تبنى الصينيون الانتقادات التي وجهها خروتشوف لستالين تحت عنوان انتقاد " عبادة الشخصية " واعتبروا ذلك مؤشر صحة. جاء في " جريدة الشعب " Renmin Ribao الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني في مقال بعنوان " حول التجربة التاريخية لديكتاتورية البروليتاريا " صادر بتاريخ 5 أفريل 1956 " ولأن ستالين لم يتصرف على هذا النحو، فإنه اقترف في الفترة الأخيرة من حياته أخطاء فادحة في عمله بصفته القائد الأول للحزب والدولة. لقد أصبح مغرورا شديد الاعتداد بنفسه وغاب عنه التروي وظهرت عليه الذاتية والميول نحو النظرة الجزئية فاتخذ قرارات خاطئة بخصوص قضايا مهمة أدت إلى نتائج وخيمة..." ( 21 ). ومن مؤاخذات الحزب الشيوعي الصيني لستالين هو انه بعد أن كسب ثقة الشعب السوفياتي " بالغ في تضخيم دوره وفرض سلطته الشخصية بدلا عن القيادة الجماعية " رغم انه من الناحية النظرية كان يقر بأن التاريخ من صنع الجماهير وأن الحزب ينبغي أن يظل بصلة متينة بالجماهير وأن يشيع في صفوفه الديمقراطية والنقد والنقد الذاتي. وبما أنه كان في ذات الوقت " يشجع على عبادة الشخصية ويتخذ قرارات فردية اعتباطية فقد ظهر عند ستالين في المدة الأخيرة من حياته انفصام بين النظرية والممارسة في هذه القضية بالذات " ( 22 ). على هذا الأساس اعتبر الشيوعيون الصينيون أن ما تمخض عن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي خطوة إيجابية وكتبت " جريدة الشعب " في مقال صادر في ديسمبر 1957 " لقد اتخذ الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي جملة من الإجراءات لتصحيح أخطاء ستالين ولمعالجة النتائج المنجرة عنها. وقد بدأت هذه الإجراءات تؤتي أكلها. لقد برهن مؤتمره العشرين على صرامة فائقة وشجاعة كبيرة للقضاء على عبادة شخصية ستالين والكشف عن خطورة أخطائه ولتصفية تبعات هذه الأخطاء. إن الماركسيين اللينينيين في العالم وكل الذين يتعاطفون مع قضية الشيوعية يساندون جهود الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي من أجل تصحيح الأخطاء ويتمنون ان تكلل جهودهم بالنجاح " ( 23 ).
هذا لا ينفي ان قادة الحزب الشيوعي الصيني ظلوا يعتبرون ستالين زعيما شيوعيا فذا قاد دولة دكتاتورية البروليتاريا ونجح في بناء الاشتراكية وجعل من التجربة السوفياتية المثال الناجح الذي ألهم البروليتاريا في العالم والشعوب وفتح لهم أفقا واسعا للتحرر. ويعتبر الصينيون أن ستالين كان وفيا للتعاليم الماركسية وللزعيم السوفياتي لينين وأنه يمثل مرجعا ماركسيا كلاسيكيا رغم كل النقود التي يمكن ان توجه له.
استمر القادة الصينيون في الدفاع عن ستالين – ولكن دون حماس – بعلاقة بموقفه من التحريفية اليوغسلافية وبصورة مباشرة لإعلان تبانهم مع تراجع خروتشوف عن موقف الحزب الشيوعي السوفياتي من اطروحات تيتو التحريفية. ولكنهم لم يجرؤوا بعد على توجيه سهامهم مباشرة وبوضوح ضد الشعارات التي رفعها خروتشوف مثل " الانتقال السلمي ". وابتداء من سنة 1959 ارتفعت نبرة الانتقادات الصينية وانطلقت قيادة الحزب الشيوعي الصيني في الإفصاح عن موقفها بأكثر وضوح وصراحة وقد دشنت حملتها بإصدار كراس " تحيا الماركسية اللينينية " بمناسبة الذكرى تسعين لميلاد لينين جاء فيه بالخصوص " هكذا إذن وعلى خلاف التحريفيين المعاصرين الذين يسعون إلى شل إرادة الشعب بعبارات جوفاء حول الانتقال السلمي، يرى الماركسيون اللينينيون أن إمكانية المرور سلميا إلى الاشتراكية لا يمكن ان تتم إلا في ضوء شروط خاصة جدا بكل بلد وفي ظرف محدد. ولا ينبغي مطلقا أن تبني البروليتاريا من جانب أحادي أفكارها ومبادئها السياسية وكل نشاطها دون أسس سوى على تقدير أن البرجوازية مستعدة للتغيير السلمي " ( 24 ) .
في شهر نوفمبر 1960 انعقد بموسكو المؤتمر الدولي للأحزاب الشيوعية في العالم أو ما يعرف بـ" مؤتمر الـ 81 حزبا " وشكل منعرجا في الصراع بين الحزب الشيوعي السوفياتي الذي وقع نهائيا تحت هيمنة الرؤى التحريفية الخروتشوفية وغالبية الأحزاب الشيوعية الأوروبية ( الحزب الفرنسي بقيادة موريس طوريز والحزب الإيطالي بقيادة طولياتي الخ ... ) التي اصطفت وراءه من جهة وبين القطب المناهض للتحريفية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني وحزب العمل الالباني. صراع تبودلت فيه بين الطرفين سلسلة من الرسائل أفصح فيها الصينيون عن انتقادات نظرية وسياسية صريحة وشديدة اللهجة وتعتبر الوثيقة المعروفة بـ" رسالة الـ 25 نقطة " وعنوانها الأصلي " مقترحات تتعلق بالخط العام للحركة الشيوعية العالمية – 1963 " ( 25 ) أبرز وثيقة تلخص وجهة نظر الحزب الشيوعي الصيني وماو تسي تونغ من جملة القضايا التي باتت موضوع خلاف لما في ذلك الموقف من ستالين وقد جاء في هذه الرسالة " إلى جانب ذلك نرجو أيضا أن نتمكن خلال لقاءاتنا من تبادل وجهات النظر وبكل صراحة في القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل النقود الموجهة ضد ستالين وبعض القضايا الأخرى المبدئية التي تهم الحركة الشيوعية العالمية والتي أثيرت في المؤتمرين 20 و22 للحزب الشيوعي السوفياتي " ( 26 ).
ما يهمنا في الحقيقة هو مضمون التقييم الذي خرجت به القيادة الصينية على امتداد هذه الفترة من الصراع ضد التحريفية الخروتشوفية. فان يناهض الحزب الشيوعي الصيني التوجهات التي اتخذها الحزب البلشفي تحت قيادة خروتشوف يعني – بالنتيجة منطقيا – تبني التجربة السوفياتية والدفاع عن ستالين والقيادة البلشفية التي أشرفت على بنائها. هذا ما يمكن أن يوحي به الموقف العام غير أن الحقيقة غير ذلك. نستشف ذلك من السياسات التي اتبعتها القيادة الصينية طوال سنوات الستين والتي تقف وراءها أسباب داخلية ( بعد فشل سياسة " القفزة الكبرى إلى الأمام " le grand bond en avant نهاية الخمسينات وتنحي ماو عن رئاسة الدولة ولكن أيضا الدروس المستخلصة من مآل التجربة السوفياتية وانحرافها على يد خروتشوف. واحد من هذه الدروس، وربما أهمها، كما جاء في نص صادر بجريدة الحزب الشيوعي الصيني في شهر ديسمبر 1957 بعنوان " مرة أخرى حول التجربة التاريخية لديكتاتورية البروليتاريا " هو " أن لهذه الأخطاء جذور اجتماعية وتاريخية وترتبط أساسا بميدان الأيديولوجيا والمعرفة. ومن الممكن ان يسقط فيها رفاق آخرون كما سقط فيها غيرهم من قبل. لذلك ينبغي الاستفادة من هذا الدرس الجدي بعد أن بدأت عملية التصحيح وذلك من أجل رفع وعي الشيوعيين والاحتياط من أمكانية تكرار مثل هذه الأخطاء " ( 27 ).
بناء على مثل هذه الاستنتاجات ظهرت ونمت فكرة " الثورة الثقافية " الصينية التي اعتبرت الدواء الناجع لحماية التجربة الاشتراكية الصينية من الانحراف والانزياح عن الخط الاشتراكي الماركسي اللينيني وبالتالي السير نحو التفسخ. غير انه وكما هو معروف اليوم سرعان ما انقلبت " الثورة الثقافية " إلى شكل من أشكال الإرهاب الفكري انتهت بأعمال العنف المعروفة سنة 1966 وإلى أخذ القرار بالتخلي عنها ومحاكمة العناصر القيادية التي كانت ضالعة فيها.
الهوامش
( 1 ) – هيلين كارير دونكوس (Helene Carrere d’Encausse) كاتبة واكاديمية فرنسية من أصول جورجية- اشتغلت مستشارة على البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية وألفت أكثر من 20 كتاب حول الاتحاد السوفياتي. من أكثر الكتاب الفرنسيين عداء للشيوعية وللتجربة السوفياتية. من أشهر كتبها " الإمبراطورية المتفجرة " 1978.
( 2 ) – نيكولا وارث Nicolas Werth – مؤرخ فرنسي من أصل روسي – ألف أكثر من 10 كتب حول تاريخ الاتحاد السوفياتي وساهم في المؤلف الجماعي " الكتاب الأسود للشيوعية " ولكنه تبرّأ مما جاء في مقدمته التي وضعها ستيفان كورتوا.
( 3 ) – ستيفان كورتوا Stéphane Courtois مؤرخ فرنسي بدأ حياته ناشطا ضمن مجموعة " ماركسية لينينية ماوية " اسمها " عاشت الشيوعية " ثم غادرها وتراءس تحرير مجلة " الشيوعية " Communisme – ألف عديد الكتب وأشرف على عديد البحوث والدراسات حول الشيوعية والاتحاد السوفياتي. كتب مقدمة " التاريخ الأسود للشيوعية " التي اعتبرها الكثير من المؤرخين بما في ذلك شديدي العداوة للماركسية أنها مقدمة ضعيفة المصداقية وتتضمن معطيات كاذبة.
( 4 ) – ألان بلوم Alain Blum مؤرخ فرنسي متخصص في الدراسات السياسية والديموغرافية للاتحاد السوفياتي نشر عديد الكتب وساهم في أعمال مشتركة مع آخرين. متحصل على دكتورا في النظم الديموغرافية السوفياتية وهو واحد من أبرز ممثلي المدرسة الليبرالية المعادية للشيوعية.
( 5 ) – شيلا فيتزباتريك Sheila Fitzpatrick باحثة أمريكية من أصل أسترالي أستاذة بجامعة شيكاغو اهتمت بالجوانب الاجتماعية والثقافية في الحياة اليومية في تاريخ الاتحاد السوفياتي. ألفت واشتركت في العديد من المؤلفات حول تاريخ الاتحاد السوفياتي.
( 6 ) – مارتن ماليا Martin Malia مؤرخ أمريكي ليبرالي ومعادي جدا للاشتراكية ومن المؤرخين الذين يتبنون نظرية تشبيه الشيوعية بالنازية كتب عديد الكتب منها " المأساة السوفياتية"
( 7 ) – ذكره الكاتب ماريو سوزا في كتابه " الأكاذيب حول تاريخ الاتحاد السوفياتي " – ماريو سوزا – 1998. LES MENSONGES SUR L’HISTOIRE DE L’-union- SOVIETIQUE Mario Sousa 1998 أنظر على الرابط التالي :
http://rocml.org/wp-content/uploads/2015/02/ROCML_Mensonges_Sur_Histoire_URSS_Fr.pdf
( 8 ) – الدكتور فائق عبد الجبار، ما بعد ماركس. ص .....،
( 9 ) – نفس المصدر.
( 10 ) – نفس المصدر.
( 11 ) – محمد الكيلاني، التجربة السوفياتية اشتراكية ام رأسمالية؟ ص 74
( 12 ) – كارل ماركس، صراع الطبقات في فرنسا - ص 100
( 13 ) – كارل شميت، ص 59
( 14 ) – ليون تروتسكي، الثورة المغدورة -
( 15 ) – ليون تروتسكي،
( 16 ) – لينين،
( 17 ) – وجه تروتسكي لـ" لمعارضة العمالية " نقودا لاذعة نورد منها مثلا قوله " ......
( 18 ) – إعلان الـ46 أنظر على الرابط التالي :
https://bataillesocialiste.wordpress.com/1923-10-declaration-des-46
( 19 ) – لينين، حول الاخلال بالوحدة المتستر بالصراخ عن الوحدة، المختارات المجلد الخامس، ص 142. المختارات دار التقدم موسكو 1978
( 20 ) – المصدر السابق.
( 21 ) – جريدة الشعب Renmin ribao لسان حال الحزب الشيوعي الصيني- عدد 5 أفريل 1956 أنظر الرابط :
http://lesmaterialistes.com/encore-fois-propos-experience-historique-dictature-proletariat-1957
( 22 ) – المصدر السابق.
( 23 ) - جريدة Renmin Ribao من مقال بعنوان " مرة أخرى حول التجربة التاريخية لديكتاتورية البروليتاريا " – ديسمبر 1975 على نفس الرابط أعلاه.
( 24 ) – الحزب الشيوعي الصيني، كراس " لتحيا الماركسية اللينينية " – 16 أفريل 1960. أنظر الرابط التالي :
http://www.centremlm.be/La-brochure-Vive-le-leninisme-1re-partie-Pour-le-90eme-anniversaire-de-la
( 25 ) – اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، مقترحات تتعلق بالخط العام للحركة الشيوعية العالمية، 14 جوان 1963 أنظر الرابط التالي :
http://www.centremlm.be/Propositions-concernant-la-ligne-generale-du-Mouvement-Communiste-International
( 26 ) – المصدر السابق.
( 27 ) – " الجريدة الشعبية "، " مرة أخرى حول التجربة التاريخية لديكتاتورية البروليتاريا " ...
في منهجية التقييم
إن القيام بقراءة علمية وموضوعية ونزيهة للتجربة الاشتراكية السوفياتية– سواء كانت معها او ضدها او نقدية حيالها – ولأسباب فشلها امر ليس بالمتاح ولا هو بالسهل ويتطلب فيما يتطلب اعتماد منهجية علمية وموضوعية ونزيهة هي الأخرى. فبحسب المقدمات تكون الاستنتاجات. مثل هذا العمل صعب أولا بسبب شح المعطيات الصحيحة والمحايدة من جهة وكثرة المعطيات والأحكام المتهافتة المبنية على أفكار مسبقة أو المنقادة بأهداف معادية. فكما لا ينبغي التسليم بالمعطيات الرسمية – أي الصادرة عن السلطة السوفياتية والحزب البلشفي – من غير المقبول أن يقع تصديق ما تم ترويجه من قبل مؤسسات صنع الكذب في البلدان الرأسمالية رغم أن تقييما موضوعيا يقتضي الاطلاع على هذا وذاك من المعطيات والأفكار والتحاليل. وهو ما دأبت عليه في هذا العمل بالعودة للمراجع – المناصرة للتجربة والمعادية لها في ذات الوقت – ومقارنتها لفرز أقربها للصحة دون الادعاء أنني ألممت بكل ما كتب ونشر حول الموضوع.
أمر آخر لا بد من الإشارة إليه هو ان الحكم على التجربة ينبغي أن يتوخى الحذر في قراءة المعطيات وتناولها في سياقها التاريخي وما حف بها من ملابسات سياسية محلية أي في الاتحاد السوفياتي في خضم بناء التجربة الاشتراكية والصراعات السياسية والطبقية التي تخللتها من جهة ومميزات الأوضاع الدولية ما بين الحربين العالميتين وحتى بعد الحرب الكبرى الثانية. بمعنى آخر لا يمكن إسقاط الوعي الحاصل الآن – لا فقط على الصعيد الأيديولوجي والسياسي وإنما أيضا على المستوى العلمي والتقني – على وعي تلك الفترة على صعيد عام وبالخصوص لدى الطبقة العاملة الروسية والسلطة البلشفية والحزب الشيوعي الروسي وقادته. إن تطور العلوم الاقتصادية والاجتماعية قد وفرت حلولا إضافية ما كان من الممكن الاستفادة منها آنذاك في بناء التجربة السوفياتية بحيث لا يمكن محاكمتها بناء على مستجدات جدت بعد أن حصل ما حصل من انحرافات وما تسرب إليها من انخرام.
نقول ذلك لا لتبرير الأخطاء والنواقص وإنما حتى تكون الأحكام نسبية وآخذة في الاعتبار ظروف العصر ومستوى الوعي الحاصل فيه.
من جانب آخر ينبغي الفصل بين تقييم التجربة والموقف من النظرية الماركسية اللينينية لأن التجربة السوفياتية – وأي تجربة أخرى – لا توفر بالضرورة الدليل الكافي على صحة النظرية أو خطئها لأنها تبقى في نهاية الأمر مجرد تطبيق واجتهاد له خصوصياته الموضوعية والذاتية. أما النظرية التي صاغها وطورها ماركس نفسه على مر السنين في ضوء جملة من المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تفعل غير أن وضعت الأسس العامة في تحليل المجتمع البرجوازي وقوانين تطوره ومآلاته الحتمية فلم تقدم صيغة نمطية ولا دليلا تطبيقيا ملموسا حتى وإن كانت كما قال لينين " مرشدا للعمل " وليست ديانة صالحة لكل زمان ومكان. لقد حكم الكثير من المحللين على الماركسية بالفشل وعدم صلوحيتها فاعتبرها البعض مجرد يوتوبيا بمجرد أن فشلت التجربة السوفياتية محاولين اعتبار ذلك دليلا قاطعا على صحة ما ذهبوا إليه من أحكام واستنتاجات نهائية.
ومعلوم ان ثورة أكتوبر الاشتراكية كانت أول ثورة ظافرة للطبقة العاملة وكان عليها أن تخوض تجربتها في تسيير شؤون السلطة الجديدة سلطة العمال والفلاحين وأن تشق طريقها لتضع معالم الطريق إلى النظام الاشتراكي فالشيوعي بمجهودها الخاص وبالتعويل على امكانياتها استنادا إلى القوانين العامة التي وضعها ماركس وانجلز. بلغة أخرى لم يكن متاحا لها ان تستفيد من تجارب سابقة ولا أن تحترس من أخطاء محددة سبقتها إليها تجارب أخرى. لذلك فإن الحكم على نظرية الاشتراكية العلمية بالفشل اعتمادا على فشل أول تجربة عملية هو تجني على التجربة والنظرية في ذات الوقت لأن ما من نظام اقتصادي اجتماعي جديد من الأنظمة السابقة ( العبودية والاقطاع والرأسمالية ) لم يتمكن من الانتشار والسيطرة إلا وخاض تجارب ومحاولات كثيرة عرف فيها انتصارات وانتكاسات كثيرة قبل أن يستقر. فالرأسمالية لم تستقر بصورة نهائية إلا بعد أربعة قرون من الصراع مع الاقطاع تخللتها ثورات ومحاولات وحروب كثيرة. ومن جهة أخرى فإن الرأسمالية التي نشأت في فرنسا أو في ألمانيا وفي روسيا بالتحديد موضوع نقاشنا لم تتبع كلها نفس المسار وتطورت بأنساق مختلفة وانتهت إلى أشكال حكم مختلفة فأقامت أنظمة حكم متنوعة لا تتفق إلا في جوهر وظيفتها الطبقية أي تكريس سيادة الطبقة الجديدة طبقة البرجوازية ورأس المال.
لذلك فإن الجزم بأن الاشتراكية والشيوعية " انتهت " بمجرد فشل أولى تجاربها هو في الحقيقة استنتاج متعسف على منطق تطور التاريخ والمجتمع منطلقه الحقيقي هو الدفاع على النظام الرأسمالي بصيغ مختلفة حتى وإن تخفى بعض أصحاب هذه التقييمات وراء الدفاع على " الديمقراطية " ونبذ " الديكتاتورية " أو الانتصار " للاشتراكية " وما إلى ذلك من المغالطات الفاشلة.
لقد هاجم المثقفون المتحذلقون الذين يبطنون للماركسية وللاشتراكية أشد العداء ويتظاهرون بما يخالف حقيقتهم، تجربة الاتحاد السوفياتي مركزين على ما يتعلق بالجانب السياسي أساسا ليثبتوا لا فقط أن التجربة كانت استبدادية على حد زعمهم بل وأن الماركسية نفسها " عقيدة شمولية ". ولئن كانت هذه الجوانب مهمة في حد ذاتها لكن التركيز في نقد التجربة حصرا من هذه الزاوية إنما الغاية منه إيجاد القرائن الدامغة على مساوئ الاشتراكية – والتي تم تضخيمها قصدا – والعمل – في المقابل من ذلك – على طمس الأسباب العميقة لنشوء مثل تلك التجاوزات والمبالغات وكذلك على تجاهل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية الأخرى أي تحرير قوى الإنتاج بشكل منقطع النظير وتنمية الاقتصاد والطاقات الإنتاجية للمجتمع وتطوير إطار الحياة العامة. إن هذه التقييمات التي ركزت على هذا الجانب وطمست ما عداه أو ربطته دوما بما يتعلق بالحكم وإدارة شؤون السلطة واعتبرته مجرد ملحق بـ" الاستبداد " البلشفي والستاليني لا يمكن اعتبارها تقييمات جديرة بالثقة على الأقل من زاوية المنهجية.
ومعلوم أن هذا الصنف من التحاليل كان قد راج على أوسع نطاق خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نهائيا وسقوط جدار برلين ليستدل البعض بذلك على أن فشل التجربة دليل على أن الاشتراكية كفت عن أن تكون بديلا وأن لا مكان لها كي تكون حتى مجرد احتمال لتغيير مسار المجتمع الإنساني الذي بدا وكأنه محكوم عليه بقبول الحقيقة الدامغة القائلة بأن الرأسمالية التي لم تفقد حيويتها وقوتها هي النظام الأبدي والدليل على صحته وأبديته هو استمراريته.
هنا قد يكون من المفيد التوقف قليلا عند ما وجب الانتباه إليه للفصل بين ما جاءت به الماركسية ولو بصورة مقتضبة وإجمالية وما تميزت به التجربة السوفياتية التي لا تمثل النموذج المخبري للاشتراكية التي تحدث عنها ماركس بقدر ما هي تجربة لها خصوصياته املاها واقع مخصوص وظروف ملموسة لا تنطبق عليها المواصفات الأساسية العامة للمجتمع الرأسمالي التقليدي الذي درسه ماركس. يجدر إذن ان نتوقف عند الخطوط الكبرى لنظرية ماركس للحكم في النهاية على الاستنتاجات التي تتعمد الخلط من اجل تبرير محاولتها دحض الماركسية أصلا لا فقط الحط من التجربة والطعن فيها.
درس ماركس المجتمع الرأسمالي على أساس الجدل المادي أي نظرية القوانين العامة المطابقة للصيرورة الواقعية. درس ماركس النظام الرأسمالي في أوروبا وهو بصدد التشكل ورصد أليات تشكله وبنى على أساس ذلك تصوره للانتقال إلى الاشتراكية. وإذا أردنا رصد هذه الأسس أي الواقع الموضوعي الذي يحتم الانتقال إلى الاشتراكية فيمكن حوصلتها في أن صيرورة انتقال أوروبا إلى الرأسمالية ستتوسع لتشمل العالم كله عملا بما جاء في البيان الشيوعي ان البرجوازية " تخلق عالما على صورتها " وان العالم القديم سيتلاشى ليمحي تدريجيا وبصورة نهائية. ويتأسس انتشار الرأسمالية على انتشار الصناعة والإنتاج الكبير على حساب الإنتاج الطبيعي القديم ( الأرض ) وان هذا التحول سيؤدي حتما إلى تحويل الغالبية الكبرى من المجتمع إلى " عبيد جدد " إلى عمال الذي سيشكلون طبقة جديدة تتناقض مصالحها مع مصالح الأقلية البرجوازية تناقضا لا يمكن حله إلا بالقضاء على النظام الرأسمالي الذي انتجها. ويتمثل هذا التناقض في التضاد الواضح بين قوى الإنتاج ( العمل ) وعلاقات الإنتاج ( الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ) هذا التناقض الذي لا تحله إلا الاشتراكية أي الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ووصول الطبقة العاملة للسلطة وممارسة ديكتاتوريتها إلى غاية انتفاء الطبقات وصراع الطبقات واضمحلال الدولة أي انتفاء ديكتاتورية البروليتاريا نفسها.
هذه الصورة الاجمالية لصيرورة تطور المجتمع المعاصر ايدتها التطورات اللاحقة بعد وفاة ماركس رغم التحول الذي شهدته الرأسمالية من مرحلة التبادل الحر إلى مرحلة الاحتكارات والامبريالية والتي حالت دون ان تنتشر الرأسمالية في شكلها الصافي بشكل متناسق في جميع أرجاء العالم بما لا يسمح بتبسيط التناقضات الاجتماعية ما بين الأقلية البرجوازية المستأثرة بملكية وسائل الإنتاج ومنتوج العمل الاجتماعي في كل المجتمعات وطبقة البروليتاريا العالمية.
إن التشويهات والتعقيدات التي أدخلتها مرحلة الاحتكارات على الصيرورة الطبيعية والواقعية للمجتمع المعاصر في مناطق كثيرة من العالم كما تحدث عنها ماركس لم يمنع من أن تستمر لا محالة وبما تقتضي دوما بل وتستوجب ذات الحل الذي بلوره ماركس أي الاشتراكية.
وعلى صعيد آخر فإن الحكم على التجربة السوفياتية دون الأخذ في الاعتبار الخصائص الاقتصادية والاجتماعية التاريخية لروسيا ودون التمعن في خصائص القوى السياسية التي قادت الثورة، ثورة أكتوبر، ونعني الحزب البلشفي سينتهي بلا شك إلى استنتاجات متسرعة وسطحية ومجانبة للموضوعية والنزاهة.
كانت روسيا أكثر البلدان الرأسمالية الأوروبية تخلفا لم تتخلص من بقايا الإنتاج القديمة ما قبل رأسمالية وتغلب على نشاطه الاقتصادي الزراعة أمام الصناعة الناشئة. وبحكم وضعها هذا لم تكن في صدارة البلدان المرشحة لثورة اشتراكية مثلما كان الأمر بالنسبة لبلدان أوروبية لأخرى ( ألمانيا وانجلترا وفرنسا ... ) ولم تدخلها الأفكار الثورية الماركسية الا متأخرة نسبيا حيث كانت الفوضوية والشعبوية تحظى بتأثير واسع وكان لا بد من خوض صراع مرير ضد هذا التيار واطروحاته التي كانت تبشر بـ" اشتراكية " قاعدتها المشاعة القروية الروسية ( المير ) والتعاونيات المهنية التقليدية ( الأرتيل Artel ) دون الحاجة للمرور عبر الرأسمالية.
وقد لعب مؤلف لينين ( تطور الرأسمالية في روسيا ) الدور الحاسم في دحض هذه الأطروحة وتبيان طبيعة المجتمع الروسي استنادا إلى دراسة علمية وإحصائيات ملموسة ومن ثمة وضع ملامح الثورة الاجتماعية التي تحتاجها روسيا.
لقد أثبت لينين بتمام الوضوح نمو الرأسمالية والصناعة الكبيرة ( إلى جانب الأصناف الأخرى من الصناعة ) المتسارع في روسيا واتجاه المشاعة القديمة إلى التفكك والاندثار وتطور التمايز الطبقي في الريف موضحا ان الطبقة العاملة المتنامية من حيث العدد والتمركز هي المرشح لأن تقود الثورة القادمة والقضاء على القيصرية. بمعنى آخر وضع لينين، بدراسته لطبيعة المجتمع الروسي واتجاه تطوره العام، أسس نظرية الثورة الروسية التي يمكن القول – بمعنى من المعاني – كانت ثورة استثنائية قياسا بما كان يتوقع للثورة في البلدان الصناعية المتقدمة ثورة اشتراكية ستتولى القيام بجملة من المهام البرجوازية بدلا عن البرجوازية ذاتها في ربط متواصل مع مهام الثورة الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة وحليفها طبقة الفلاحين الثورية.
بهذا المعنى قام لينين بتطوير الماركسية ويقول " فنحن لا نعتبر أبدا نظرية ماركس شيئا كاملا لا يجوز المساس به؛ بل إننا مقتنعون، على العكس، بأنها لم تفعل غير أن وضعت حجر الزاوية لذلك العلم الذي يترتب على الاشتراكيين أن يدفعوه إلى الأبعد في جميع الاتجاهات، إذا شاءوا ألا يتأخروا عن موكب الحياة. ونحن نعتقد أنه من الضروري بخاصة أن يدرس الاشتراكيون الروس ويطوروا نظرية ماركس بصورة مستقلة لأن هذه النظرية لا تعطي سوى موضوعات توجيهية عامة تطبق مثلا في بريطانيا على غير ما تطبق في فرنسا، وفي فرنسا على غير ما تطبق في ألمانيا، وفي ألمانيا على غير ما تطبق في روسيا "( 1 ).
فما يميز هذه الثورة إذن هي كونها نشأت في بلد مازال يعاني من تخلف الصناعة وطغيان النشاط الفلاحي بقيادة الطبقة العاملة التي اخذت على عاتقها حسم قضايا ومسائل ليست في الأصل – من الناحية النظرية المجردة – من صلاحياتها القيام بها من زاوية الصيرورة التاريخية أي ما يعني أن تتولى طوال فترة من الزمن بعد ظفرها بالسلطة " رعاية " جملة من الإجراءات ذات طابع رأسمالي للقضاء دون ان تسمح لها بمسار التراكم الرأسمالي الطبيعي لئلا تسيطر الرأسمالية مجددا وتتحول إلى عائق آخر في وجه البناء الاشتراكي.
يطرح إذن عند تقييم التجربة الاشتراكية أخذ هذه الخاصية بعين الاعتبار وهي مسألة جوهرية في التقييم وجرى بصددها صراع حاد قبل نجاح الثورة ( مع المناشفة والتيارات الإصلاحية وحتى مع قادة من الحزب البلشفي مثل بوخارين وغيره ) وبعدها إلى غاية الانطلاق في حملة تعميم الصناعة ومشركة الفلاحة وهي مرحلة سنعود إليها لاحقا للتدقيق في خصائصها وتداعياتها على مسار بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي.
بقي ثمة مسالتان أخريان لا بد من أخذهما في الاعتبار عند تقييم التجربة هما مميزات الحزب الذي قاد الثورة أي الحزب البلشفي من جهة والحيز الزمني السريع نسبيا الذي أنجزت فيه الثورة بقيادة الحزب البلشفي ( حوالي 20 سنة فقط على تأسيسه ) مقارنة بالثورة في بلدان أخرى كانت ظروفها أكثر نضجا ولها خبرة أوسع.
يتمتع الحزب البلشفي بخصائص كثيرة ميزته عن باقي الأحزاب " الاشتراكية الديمقراطية " ( بتسمية العصر آنذاك ) يطول الحديث فيها. وبما ان المقام ليس مقامه فنركز فقط على ميزة واحدة متصلة بالموضوع، موضوع منهجية التقييم والاعتبارات الواجب الانتباه إليه. هذه الميزة هي ان الحزب على الرغم مما يعرف عنه من مركزية قالت عنها روزا لوكسمبورغ انها مركزية " مشطة " ومنافية لمبادئ الديمقراطية فإنه تشكل منذ نشوئه من مجموعات تنتسب للفكر الاشتراكي وكان لا بد في كل مرة وبخصوص أي قضية من القضايا التي طرحها النضال الثوري في روسيا من ان يخاض بينها صراع حاد لتبلور مقاربات مختلفة ومتباينة. لذلك عرفت الحياة الفكرية والسياسية داخل الحزب وحوله ثراء منقطع النظير. وإذا كان للينين الدور الحاسم في بلورة اطروحات البلاشفة ( كشق من شقوق الاشتراكية الديمقراطية الروسية والذي لم يكن يسيطر تماما على الحركة مثلما قد يتبادر لذهن البعض ) وفي رسم معالم الثورة، ثورة أكتوبر فإن العديد من القادة الثوريين داخل الحزب ( ستالين وكتاباته حول المسألة القومية وبوخارين حول بناء الاشتراكية وقضايا فلسفية أخرى وراديك وغيرهم ) وخارج الحزب من أمثال تروتسكي وبليخانوف ومارتوف وغيرهم اشتركوا مع لينين في عدد من الأطروحات واختلفوا معه في عدد آخر ولم يكن بالوسع دحض تصوراتهم وتنظيراتهم إلا في صراع مرير منذ المؤتمر الثاني للحزب سنة 1903 حتى أيام الثورة. والحقيقة أن هذا الصراع لم يتوقف عند نجاح الثورة بل استمر حول القضايا التي استحدثتها الثورة وعملية البناء. وجرت هذه الصراعات حول صلح بريست ليتوفسك وحول دور النقابات والسياسة الاقتصادية وحول علاقة الحزب بالطبقة وديكتاتورية الطبقة وديكتاتورية الحزب ومسألة نشوء البيروقراطية وحول الثورة العالمية ومسألة بناء الاشتراكية في بلد واحد وما إلى ذلك من القضايا الأخرى.
هذا الصراع الحاد وازاه مناخ ديمقراطي في المجادلات الفكرية والتنظيرات السياسية وهي سمة قلما وجدت في تجارب أخرى ولكنه في ذات الوقت كانت له دلالة هامة هي أن خط الثورة والبناء الاشتراكي في ظروف الهجوم المضاد في الداخل ( الحرب الأهلية ) والخارج لم يكن أمرا جاهزا بقدر ما تمت بلورته في مسار من البحث العسير والاجتهاد المضني. ما يعني أن بناء التجربة الاشتراكية وتمتين أسس سلطة الطبقة العاملة وتوسيعها جرى بشيء من التعقيد والصعوبة التي من شأنها أن ترجح في أوقات معينة ميلا نحو مقاربات تقتضيها الأوضاع الصعبة والتي تتجشم تنازلات ( مثل صلح بريست ليتوفسك ) أو مبالغات وتشدد تثير تساؤلات عما إذا كانت مبادئ الديمقراطية والحرية ودور الجماهير في تسيير شؤون الدولة الجديدة والاقتصاد الاشتراكي بقيت مصانة ام لا؟
ومهما كان من أمر فإن تقييما موضوعيا لهذه التجربة لا يمكن أن يحصر زاوية النظر فقط في ما حققته من مكاسب غير مسبوقة في تاريخ البشرية لفائدة العمال وعموم الكادحين ولا في النقائص التي شابتها والأخطاء التي تخللتها والثغرات التي حصلت فيها فأودت بها بالنتيجة إلى الفشل والتفسخ.
وبما أن تقييمنا يتجه أكثر نحو البحث في أسباب الفشل أكثر مما يتجه إلى الإشادة بالمكاسب والمنجزات فإننا وتقيدا بمقتضيات الموضوعية والحكم المتوازن على حصيلة هذه التجربة نستعرض على سبيل التذكير السريع بالمكاسب والمنجزات على أن نخصص الجانب الأكبر من العمل للبحث في أسباب الفشل في محورين كبيرين هما الجانب السياسي والجانب الاقتصادي الاجتماعي.
الهوامش
( 1 ) – لينين، برنامجنا. أكتوبر 1899. مختارات لينين، المجلد الأول، ص 499. دار التقدم موسكو 1978.
حصيلة التجربة :
مكاسب ومنجزات لا يمكن نكرانها
حققت ثورة أكتوبر للطبقة العاملة والشعوب والبشرية قاطبة مكاسب لا ينكرها إلا عدو أو جحود أو متجني. وهي مكاسب كثيرة ومتنوعة شملت أوجها متعددة من الحياة منها الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والفنية والرياضية يمكن تصنيفها في محاور ثلاثة كبرى سنأتي عليها لاحقا بشيء من التفصيل:
1 – تطوير الاقتصاد الروسي وتحويل الاتحاد السوفياتي في حيز زمني وجيز من بلد متخلف إلى اقتصاد منتج وقوي، الاقتصاد الثاني في العالم، وتحرير القوى المنتجة وتخليصها من قيود القنانة والاستغلال والتهميش والاضطهاد وتحويلها إلى طاقة عمل وتسيير وتدبير لا محدودة وتقليص الفوارق الاجتماعية بين أفراد المجتمع وبين الرجال والنساء وبين أهل الريف وسكان المدن وبين مختلف القوميات التي وحدها وصهرها في كيان موحد ومنسجم كما نجح في القضاء المبرم على أمراض البطالة والجوع والفقر والمرض التي كانت تنخر المجتمع الروسي ووفر عوامل حياة الرفاه العام وتنمية الثقافة والفن بكل فروعه والبحث العلمي والرياضة.
2 – تدشين مرحلة جديدة في نضال الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة من أجل التحرر الوطني والاجتماعي وإجبار البرجوازية العالمية على تقديم تنازلات سياسية واجتماعية للتخفيف من حدة الاحتقان الاجتماعي والسياسي والعسكري على النطاق العالمي ( برنامج الرئيس الأمريكي ويلسون المعروف بـ 14 نقطة، الاتفاقيات الدولية حول الشغل وحقوق العمال والنساء والأطفال الخ ... ). ما من شك أن هذه الإجراءات لم يكن القصد منها مطلقا الاعتراف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها أو حقوق العمال المادية والمعنوية كما لم تكن إجراءات نابعة من قناعة بشرعيتها وإنما جاءت تحت ضغط النضالات العمالية والشعبية ومن جهة أخرى كان القصد منها التمويه على حركة الشعوب والطبقة العاملة لمنع تطورها واجتناب تحولها إلى ثورات تعصف بالنظام البرجوازي وفي نفس الوقت سحب البساط من تحت أقدام النظام الجديد في الاتحاد السوفياتي وتفويت فرصة تأثيره في النضالات الجارية في أكثر من مكان في العالم. لقد جسدت الثورة الاشتراكية في روسيا المعاني العميقة للتضامن الأممي بين فصائل الطبقة العاملة في جميع البلدان والشعوب التائقة إلى التحرر والاستقلال ذلك أن سارع الحزب البلشفي بقيادة لينين إلى تأسيس الأممية الثالثة كإطار للنضال المشترك والتخطيط على نطاق عالمي للثورة والانعتاق.
3 – مواجهة النزعات الفاشستية الصاعدة في أوروبا عامة وفي إيطاليا وألمانيا خاصة ودحر عدوانها ولعب الدور الرئيسي في الإطاحة بها وتخليص البشرية من واحد من أبشع التهديدات مقابل تضحيات جسيمة لم يسبق أن تكبدها شعب في العالم ( تدمير أكثر من 14 ألف مدينة وقرية وتخريب مصانع ومدارس وكليات وسكك الحديد والمزارع الخ ... ) وخسائر بشرية غير مسبوقة ( 27 مليون قتيل من ضمنهم خيرة القادة العسكريين والسياسيين والحزبيين البلاشفة ).
عندما كان النظام الرأسمالي يتخبط في أشد ازمة اقتصادية كان الاتحاد السوفياتي انطلق في تنفيذ أول مخططاته التنموية ( المخطط الخماسي 1928 – 1933 ) الذي انتهى بنتائج باهرة فاقت التوقعات. وقد تمكن الاتحاد السوفياتي بفضل هذا المخطط من بلوغ مستوى ما قبل الثورة أي مستويات 1913 في الإنتاج الصناعي وفي الصناعات الثقيلة خاصة ( صناعة وسائل الإنتاج ). اما في الفلاحة التي تزامن فيها هذا المخطط مع إطلاق حملة مشركة الفلاحة فقد ارتقى الاتحاد السوفياتي إلى المراتب الدولية المتقدمة في انتاج العديد من المنتوجات الفلاحية وخاصة الحبوب. بلغة أخرى خرج الاتحاد السوفياتي من الخراب الذي خلفته 7 سنوات من الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية ووضع أسس تصنيع البلاد ومكننة الفلاحة ووضع الملامح الأولى لاقتصاد الوفرة. وكانت أولى الآثار الاجتماعية تحرير قوى الإنتاج وتوسيع القاعدة الاجتماعية لديكتاتورية البروليتاريا في المدينة والريف والقضاء على البطالة وتحسين مستوى عيش الجماهير. هذه أولى منجزات النظام الجديد. ولعله من المفيد أن نذكر أن نظام السوفياتات كان منذ أيامه الأولى قد أصدر سلسلة من المراسيم أهمها :
- مرسوم حول " السلم الديمقراطية العادلة .. دون إلحاق ولا تعويضات .." وجاء في نفس المرسوم " إن الحكومة تعتبر أن الاستمرار في حرب تقتسم فيها الأمم القوية والغنية الشعوب الضعيفة المستعمرة هو واحدة من أكبر الجرائم في حق البشرية " ونص نفس المرسوم على إلغاء الاتفاقيات السرية والقيام " بمفاهمات علنية أمام الشعب بأسره ... ". وعرضت الحكومة على البلدان المتحاربة هدنة لمواصلة التفاوض قصد التوصل لحل دائم للحرب ( الحرب العالمية الكبرى التي كانت روسيا القيصرية طرفا فيها ).
- مرسوم حول " المساواة والسيادة لكل شعوب روسيا " و" حقها في تقرير مصيرها بحرية بما في ذلك حقها في الانفصال وتكوين دول مستقلة " وكذلك " إلغاء كل الامتيازات والقيود المضروبة على الأقليات القومية والاثنية على التراب الروسي ". ونتيجة لذلك أعلنت فنلندا يوم 6 ديسمبر 1917 وأوكرانيا يوم 22 جانفي 1922 وبولونيا يوم 11 نوفمبر 1918 استقلالها وتشكل اتحاد من 17 جمهورية سوفياتية سمي الاتحاد السوفياتي.
- مراسيم حول المساواة بين المواطنين وإلغاء المراتب الشرفية للنبلاء وتأميم ممتلكاتهم والفصل بين الدولة والكنيسة ( 23 جانفي 1918 ) والمساواة بين النساء والرجال في الحقوق ومنها حق الانتخاب الزواج والطلاق وإلغاء كل مظاهر الميز ضد الأطفال غير الشرعيين ( ديسمبر 1917 ) والحق في الإجهاض للنساء ( 1920 ).
- مراسيم حول إلغاء عقوبة الإعدام ( فيفري 1918 ) وحول حرية التعبير والصحافة علما وان صحافة الأحزاب الاشتراكية الإصلاحية المعارضة استمرت في الصدور حتى جويلية 1918 بالنسبة لصحف الحزب الاشتراكي الثوري وحتى سنة 1919 بالنسبة لصحف حزب المناشفة وسنة 1921 لصحف الفوضويين. ولم يقع منع هذه الصحف إلا حينما أصبحت تنشر بلاغات لحمل السلاح ضد السلطة الجديدة وتجنيد المواطنين للجبهة.
- المرسوم حول الأرض وهو ثاني إجراءات الحكومة السوفياتية إبان انتصابها وجاء فيه أن الأرض وخبايا الأرض ملك للدولة " ولا يمكن بيع أو شراء أو رهن الأرض ". وبموجبه تم افتكاك أملاك الكنيسة وكبار الملاكين العقاريين دون تعويضات.
وقد تولى قانون 6 فيفري 1918 تفصيل كيفية الانتفاع بالأراضي على النحو التالي : " في حدود الجمهورية الاتحادية السوفياتية يمكن أن يتمتع بالأرض قصد توفير الحاجات العامة والخاصة :
o أ – للأعمال التربوية والثقافية : الدولة ممثلة في هيئات الحكم السوفياتي والمنظمات العمومية تحت مراقبة وبترخيص من السلطة السوفياتية المحلية
o ب – الاستغلال الفلاحي : البلديات الريفية والجمعيات الفلاحية والتجمعات الريفية والعائلات والأشخاص ( الفصل 20 )
- مرسوم 27 أكتوبر 1917 المتعلق بإعلان نظام 8 ساعات عمل في اليوم وتعميم نظام الرقابة العمالية على إنتاج وحفظ وبيع وشراء جميع البضائع والمواد الأساسية في جميع المؤسسات التي تشغل أكثر من خمس عمال ( 05 ) وجاء أيضا في هذا المرسوم " جميع دفاتر المحاسبة، دون استثناء، وكذلك مخزونات ومستودعات الآلات والمواد، دون استثناء، ينبغي أن تكون مفتوحة لممثلي العمال والمستخدمين المنتخبين ..وتعتبر قرارات ممثلي العمال والمستخدمين المنتخبين إجبارية التنفيذ على أرباب المؤسسات ولا يمكن إلغاء هذه القرارات إلا من طرف النقابات والمؤتمرات النقابية ...".
وقد قامت الحكومة بعد ذلك خلال سنة 1918 بتأميم كبريات المؤسسات الصناعية التي تحولت إلى ملك للدولة يسيرها ممثلو العمال المنتخبين تحت رقابة السلطة السوفياتية. وتم إنشاء " المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني " بتركيبة عمالية عبر ممثليهم المنتخبين كما تم إنشاء معهد الاحصاء الوطني.
- أعلنت الحكومة السوفياتية يوم 14 ديسمبر 1917 أن " كل البنوك الخاصة والمصارف وقع إدماجها في بنك الدولة .. التي تأخذ على عاتقها أصول والتزامات المؤسسات المؤممة .. وأن مصالح المودعين بهذه المؤسسات محفوظة "
- مرسوم 29 ديسمبر 1917 القاضي بإلغاء الديون الخارجية أي ديون القيصر لدى فرنسا وانجلترا خاصة والتي بعد إلغائها فتحت مفاوضات بشأنها ولكنها توقفت من الجانب السوفياتي إثر المؤتمر الاقتصادي الدولي بجنوة في إيطاليا سنة 1922 الذي استصدرت فيه الدول الامبريالية قرارا بإجبار الاتحاد السوفياتي على تسديد تلك الديون.
- مرسوم إرساء نظام الضمان الاجتماعي الصادر في شهر نوفمبر 1917 ( ممضى من طرف شليابنيكوف مفوض أي وزير الشغل في الحكومة السوفياتية ) والذي جاء فيه خاصة :
o تعميم التأمينات الاجتماعية على جميع الأجراء دون استثناء وسكان المدن والأرياف
o تعميم التأمينات على جميع حالات العجز عن العمل وخاصة المرض والإعاقة والقصور البدني والشيخوخة والولادة وعند وفاة القرين أو الوالدين وكذلك عند البطالة
o إجبارية تحميل كامل ا لأعباء الاجتماعية على أصحاب المؤسسات
o صرف مبلغ يساوي على الأقل إجمالي الأجر عند العجز عن العمل أو في حالة البطالة
o تسيير صناديق التأمينات الاجتماعية من طرف المؤمنين أنفسهم بصورة مستقلة تماما
وهو أول نظام تأمين اجتماعي يصدر في العالم ومنه استوحت الأنظمة البرجوازية أنظمتها ما بين الحربين ثم وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
- مراسيم حول إجبارية التعليم ومجانيته وانطلاق حملة " جبهة ضد الأمية " ابتداء من 10 ديسمبر 1919 التربية والتعليم والقيام بإصلاح التعلم في إطارها تم تبسيط الأبجدية الروسية ووضع أبجديات للقوميات التي لا تمارس الكتابة
- سلسلة من المراسيم المتعلقة بتنمية الأدب والفن وتمويلات كبرى لفتح متاحف ودور الفن وتشجيع الفنانين على الإنتاج الأدبي والفني.
وفي الحقيقة لم تكن هذه المراسيم غير بداية في مسار بناء شامل ومتشابك الأبعاد حقق فيه للاتحاد السوفياتي نتائج باهرة وخطى خطوات شاسعة على درب التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري برؤية جديدة مغايرة جوهريا لما أنجزته الرأسمالية في البلدان الأخرى.
وإذا كان ثمة أمر لا يمكن أن نغفله في تعداد منجزات التجربة الاشتراكية السوفياتية – وهو ما لا ينكر حتى ألد أعداء الاشتراكية والاتحاد السوفياتي – هو الدور المحدد الذي لعبه الشعب السوفياتي والجيش الأحمر وستالين شخصيا في الانتصار على الجيوش النازية التي غزت مناطق شاسعة من التراب السوفياتي ودمرت كل ما اعترض سبيلها من بنية أساسية وقرى ومدن ومزارع ومعامل ومعاهد وكليات ومستشفيات وقتلت ما يزيد عن 27 مليون بشر حتى وصلت إلى مشارف موسكو وبيتروقراد ولو لا الصمود الأسطوري للشعب السوفياتي وجيشه ولو لا صلابة قيادته البلشفية لاستولى هتلر على هذا البلد ولعرفت البشرية منعرجا حاسما وخطيرا في تاريخها. فلا غرو إذن اليوم أن نقول أن تخليص البشرية من ذلك المصير المؤلم يعود الفضل فيه أساسا للاتحاد السوفياتي شعبا وجيشا وقيادة.
وكما سبق أن قلنا سنكتفي بهذه الإشارات لبعض ما تحقق من إيجابي خلال فترة وجيزة من التجربة الاشتراكية ( 30 سنة فقط ) قبل أن تدركها التحريفية الخروتشوفية وتجري على مسارها انقلابا أفضى في نهاية المطاف إلى تفسخها النهائي والتام وعودتها المعلنة والمكشوفة لحضيرة الرأسمالية. نكتفي بهذا رغم أن التقييم العلمي والحقيقي يقتضي إعطاء كل جانب من جوانبه، بشكل نزيه ومتوازن، حقه الكامل، وهو ما تعنيه كلمة تقييم un bilan بتمام الدقة.
إن هذه المنجزات لا يمكن أن تحجب عنا بطبيعة الحال النقائص والأخطاء والاخلالات التي عرفتها التجربة ويمكن القول انه بالنتيجة لا بد من الاعتراف أن التجربة باءت تاريخيا بالفشل الأمر الذي يطرح على كل مناضل نزيه ومتجرد من الدوافع العاطفية والدغمائية ومن العدائية الأيديولوجية أو المجانية، أن يركز جهوده أكثر على الأسباب الدفينة للفشل لا تبريرها ولا الوقوف عند التغني بالمكاسب التي أصبحت اليوم كما يقال أثرا بعد عين ولا أيضا ترديد الدعايات المعادية والكاذبة.
إنجازات ومكاسب ولكن ...
رغم كل ما يمكن أن نحصي ونعد من منجزات في رصيد التجربة فإن ما يزيد عن ثلاثين سنة من البناء الاشتراكي والسلطة السوفياتية انتهت بانقلاب شكل المؤتمر 20 للحزب الشيوعي السوفياتي الإعلان الرسمي عنه وانطلاق مسار جديد مسار التحريفية الخروتشوفية اليمينية.
بطبيعة الحال لا يمكن لعاقل أن يفسر هذا الانقلاب فقط بالدور الفردي لنيكيتا خروتشوف باعتباره العامل الوحيد والحاسم في حصول هذا المنعرج التاريخي الخطير إذ لا بد من الاعتراف ان أسبابا أعمق من ذلك كانت وراء نشوء هذا التوجه ولا بد أن هناك جملة من المعطيات والمراكمات الجزئية البسيطة قد حصلت من قبل مهدت لظهور هذا المنعطف فضلا عن ان المسألة لا يمكن أن تنحصر فقط في تلك التفاصيل التي جرت أثناء فعاليات المؤتمر 20 أو خلال السنوات الثلاث التي سبقته بعد وفاة ستالين.
إن تفسيرا جديا لما حصل في المؤتمر 20 يتطلب بل شك التعمق في البحث في كامل التجربة ومنعرجاتها وأهم أطوارها والتطورات الكمية الجزئية والنوعية التي تخللتها والظواهر التي يمكن ان تكون قد ساهمت بهذا القدر أو ذاك في توفير المناخ لحصول هذا المنعرج الذي لا يمكن ان يكون غير تعبيرا عن اكتمال الشروط الموضوعية والذاتية ليتجلى بصورة صريحة في قرارات رسمية وإعلان التوجهات الجديدة.
وكما يقول ماركس " إن الناس يصنعون تاريخهم بيدهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم. أنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم بل في ظل ظروف يواجهون بها وهي معطاة ومنقولة لهم من الماضي " ( 1 ) فإن السوفيات صنعوا التاريخ بيدهم وأقاموا سلطة العمال والفلاحين بإرادتهم وعلى النحو الذي ارتأوه آنذاك ولكن أيضا وفق ما املته عليهم الظروف الثورية المتفجرة في بلادهم ولكنهم لم يقووا على عودة صور الماضي التي تسربت إلى صرح البناء العظيم الذي أقاموه. ولا يمكن بحال ان يكون الأمر من صنع شخص " فذ " اسمه نيكيتا خروتشوف والذي لا يعدو في نهاية المطاف إلا أن يكون نتاج مسار كامل حصل فيه ما لم يدركه القائمون على السلطة بكل مؤسساتها وآلياتها. وإلا بماذا نفسر استكانة الطبقة العاملة الروسية وعموم الكادحين حيال هذا الانقلاب؟ وبماذا نفسر استسلام بقية قيادة الحزب والدولة، البلاشفة القدامى، من أمثال مولوتوف وكاقانوفيتش ومالينكوف الذين أجبروا على الصمت واقتيدوا للإقامة الجبرية صاغرين؟
لذلك تبدو المسألة أعمق من ان يقف البحث فيها عند ظواهر الأشياء على أهمية بعض المعطيات والتفاصيل التي قد تكون لعبت دورا مؤثرا في تمرير خطة الانقلاب الخروتشوفية. معنى ذلك لا بد من تعميق النظر في مسألتين اثنتين على الأقل عسى ان نعثر على الأسباب الحقيقية والعميقة التي مهدت تدريجيا للانقلاب الذي جدّ في المؤتمر 20 للحزب البلشفي وهما :
- نظام ديكتاتورية البروليتاريا في التجربة السوفياتية هل كانت ديكتاتورية الطبقة العاملة فعلا أم ديكتاتورية الحزب الممثل للطبقة وبدلا عنها وما مدى حصانتها أمام إمكانيات الارتداد؟
- معنى الاشتراكية وتجلياتها في مسار تفكيك علاقات الإنتاج القديمة ( الرأسمالية وما قبل رأسمالية ) والمجتمع البديل ومدى تطابق مسار التراكم الحاصل من خلاله مع مقتضيات التراكم الاشتراكي الحقيقي باتجاه إقامة نظام الحرية التامة التي ينتفي فيها استغلال الانسان للإنسان؟
ومما لا شك فيه أن البحث في هذين المحورين لا بد وان يأخذ في الاعتبار جملة من العوامل التاريخية الخاصة بالتجربة السوفياتية سواء منها المتصلة بخصائص المجتمع الروسي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والحضارية أو التي انطبعت بها أحداث الثورة قبل وأثناء أكتوبر 17 وبعده وكذلك الظروف الدولية التي حفت بالثورة والتي عايشتها التجربة السوفياتية طيلة ثلاثين سنة وتفاعلت معها.
الهوامش
( 1 ) – كارل ماركس، 18 برومر لويس بونابارت – مختارات ماركس انجلز – المجلد الأول، ص 151. دار التقدم – موسكو 1975.