بصدد التحالفات - جبهة الإنقاذ الوطني الضرورة والإرادة الجزء الاول


جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن - العدد: 7948 - 2024 / 4 / 15 - 09:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بصدد التحالفات
جبهة الإنقاذ الوطني
الضرورة والإرادة

انتهت مختلف القوى السياسية المناهضة للترويكا بزعامة حركة " النهضة " فجر يوم 26 جويلية 2013 إلى بعث " جبهة الإنقاذ الوطني " إثر اجتماع مطول جرى تحت وقع الصدمة التي خلفتها فاجعة اغتيال الشهيد محمد البراهمي على يد ميليشيات السلفية الإجرامية أمام منزله صبيحة يوم 25 جويلية 2013.

كان لهذه العملية الغادرة الجبانة الوقع العميق على معنويات ومشاعر كل القوى السياسية التقدمية والديمقراطية وعلى الجبهة الشعبية خصوصا التي فقدت في بحر نصف سنة زعيمين من زعمائها شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

فما أن أذيع خبر الفاجعة حتى هبت كل القوى بأعداد غفيرة إلى مستشفى محمود الماطري بأريانة إلى حيث نقل جثمان الشهيد ومن ثمة إلى مقر حزب العمال للاجتماع فورا مدفوعة بمشاعر الغضب والنقمة وبالكثير من الحزن والأسى. كانت ردود الأفعال العفوية على درجة من التطابق والتماهي وأشارت كلها وبلا استثناء بإصبع الاتهام إلى المجموعات الإرهابية وإلى حركة " النهضة " التي حملتها مسؤولية هذه الجريمة النكراء وردد الجميع بصوت واحد مطلب الإطاحة فورا بحكومة الترويكا وبالمجلس التأسيسي.

ختم الاجتماع الذي جمع طائفة واسعة من أحزاب الجبهة الشعبية وأحزاب الاتحاد من اجل تونس وعدد كبير من الأحزاب السياسية الأخرى من خارج هذين الكتلتين إلى جانب عدد أكبر من الجمعيات والمنظمات والشخصيات الديمقراطية المناضلة المعروفة على الساحة بالاتفاق على أرضية سياسية انبعثت على أساسها " جبهة الإنقاذ الوطني ".

ولئن لم تجد النقاشات التي دارت بخصوص تحليل وتوصيف الوضع صعوبة في إدراك اتفاق كان شبه تلقائي فقد تطلبت من جانب آخر كثيرا من الجدل لرسم برنامج العمل والأهداف المشتركة وخطة النضال المستقبلية. واستغرق النقاش حول مسألة " العصيان المدني " وقتا طويلا انتهي إلى الاتفاق على صيغة وسطى " " ليعلن في ختام تلك الجلسة التاريخية عن انبعاث " جبهة الإنقاذ الوطني " التي تشكلت لإنجاز مهمتين رئيسيتين هما : إسقاط الحكومة وحل المجلس التأسيسي.

لقد أثمرت الجلسة اتفاقا حول نص الأرضية التي على قاعدتها نشأت جبهة سياسية جمعت لفيفا سياسيا ومدنيا لم يسبق أن عرفت البلاد مثيلا له على تلك الدرجة من الاتساع والاتفاق داخل الحركة السياسية المعارضة للسلطة. ( 1 )

شكل ميلاد الجبهة، إلى جانب فعاليات تشييع الشهيد وما صاحب ذلك من تحركات شعبية واحتجاجات جماهيرية قوية في مختلف جهات البلاد، الحدث السياسي الأبرز في تلك الفترة. وكان ميلادها في الواقع تجسيدا فوريا ودون مقدمات للاتفاق الذي انطلقت بصدده تحضيرات منذ ما يقارب الشهر تقريبا. وهنا وجب القول على سبيل التذكير أن نفس هذه الأطراف التي اجتمعت على أرضية " جبهة الانفاذ " كانت قد عقدت يوم 9 جويلية أي قبل 16 يوم من اغتيال البراهمي اجتماعا بنزل أفريكا بتونس كان على رأس جدول أعماله التداول في الاعداد لمؤتمر وطني للإنفاذ كان يفترض أن تتمخض عنه جبهة سياسية واسعة وأرضية عمل مشتركة وشعارات جديدة للمرحلة أهم نقاطها حل الحكومة والمجلس التأسيسي. وللتذكير أيضا كان البراهمي من جملة من حضر يومها لهذا الاجتماع ليعلن رسميا عن الانشقاق عن حركة الشعب وبعث حزب سياسي جديد هو " التيار الشعبي " وليعلن في نفس الوقت انضمام هذا الحزب الوليد إلى الجبهة الشعبية بصورة رسمية. وقد تمخض عن هذا الاجتماع صدور بيان مشترك ( 2 ) وتشكلت لجنتان للشروع في التحضير للمؤتمر واحدة للاعداد السياسي ( اللوائح والمقررات السياسية ) والثانية لإعداد مشروع دستور بديل عن مشروع الترويكا المعروف بمشروع غرة جوان 2013 والذي كان محل جدل وانتقادات واسعة داخل المجلس التأسيسي وخارجه.

لقد عجل اغتيال البراهمي بالمرور مباشرة إلى الإعلان عن الجبهة المرتقبة دون المرور بالمؤتمر الوطني للإنفاذ المبرمج وإلى المطالبة بحل حكومة الترويكا الثانية وحل المجلس التأسيسي دون الحاجة إلى تمهيد. فعملية الاغتيال وفرت في الواقع مبررا ما بعده مبرر لرفع هذا الشعار الذي بات متداولا داخل المعارضة السياسية وفي أوساط واسعة من الرأي العام والديمقراطي في تونس.

مشروع الترويكا ومبررات " الإنقاذ "
باحت صناديق الاقتراع في انتخابات المجلس التأسيسي يوم 23 أكتوبر 2011 بأسرارها معلنة عن فوز كبير لحركة " النهضة " ( 90 مقعدا أي أكثر من 40 % ) وتقدم مفاجئ لمرشحي " العريضة الشعبية " و" المؤتمر من أجل الجمهورية " وبنسبة أقل مرشحي حزبي " التكتل " و" الحزب الديمقراطي التقدمي " فيما أصيبت القوى الثورية ومختلف تشكيلات اليسار بخيبة غير متوقعة.

ودون العودة لتقييم تلك الانتخابات ودون الغوص في تفسير أسبابها سنكتفي هنا بالإشارة إلى أهم تلك الاسباب قبل المرور إلى تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومعالم المشروع الذي أفصحت عنه حركة " النهضة " التي شكلت حكومتها مستندة على تحالف سياسي جمع حزبي " التكتل " و" المؤتمر " في ما سمي بـ" الترويكا " آنذاك.

جرت الانتخابات في جو من الشحن الأيديولوجي والسياسي تعمدت فيه " النهضة " حصر الصراع السياسي الجاري في البلاد في مسألة الهوية بين من " يخافوا ربي " من جهة والقوى العلمانيين من جهة ثانية. وجندت في ذلك جزء من وسائل الاعلام والمساجد وفعالياتها التنظيمية والجمعيات وروابط حماية الثورة وغيرهم. ورصدت لحملاتها الدعائية مبالغ مالية ضخمة ولعبت في نفس الوقت على تخلف الوعي السياسي ومشاعر الناس وعلى أوضاعهم المادية والمعنوية مقدمة نفسها في صورة الضحية في عهد الديكتاتورية لاستمالة الناخبين واستدرار عطفهم وكسب أصواتهم. وعلاوة على ذلك قد حظيت بدعم خارجي خاصة من أنظمة الخليج الرجعية.

في المقابل من ذلك دخلت قوى اليسار الثوري وعموم القوى الديمقراطية لهذه الانتخابات منقسمة على نفسها مشتتة الصفوف في وقت كانت تدرك أنها محدودة الاشعاع الجماهيري وحديثة العهد بالنسبة للبعض منها ومنعدمة الإمكانيات المادية. علما وأن أوساط واسعة من القوى الديمقراطية والتي تحرص كثيرا على التبجح بـ" حداثيتها " انجرت طوال المدة التي سبقت الانتخابات إلى فخ الصراع المغلوط بين " الهوية " و" الحداثة " بما أعطى فرصة للنهضة وغيرها من القوى اليمينية المحافظة إلى مغالطة الشعب وكسب تعاطفه.

جراء ذلك كانت النتيجة لصالح القوى الرجعية وفي مقدمتها حركة " النهضة " التي خالت وأن نتائج التصويت قد منحتها الأحقية في أن تشرع فورا في تنفيذ مشروعها الخاص ورؤيتها لتنظيم الاقتصاد والدولة والمجتمع وكل جوانب الحياة العامة.

سارع حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة بإعلان نفسه رئيسا للحكومة المرتقبة مفاجئا بذلك حتى قيادة حزبه التي وضعها أمام الأمر المقضي وراح يتصل بمختلف القوى، أحزابا ومنظمات، إما بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة ( عن طريق منصف المرزوقي في علاقة بحزب العمال مثلا ) داعيا الجميع إلى تشكيل " حكومة وحدة وطنية ". وقد تطلب منه الأمر أسابيع ليعلن عن حكومته نظرا للصعوبات التي وجدها في هذا الاتجاه. إذ أن بعض الأطراف سارعت بالبقاء في المعارضة ( حزب العمال والحزب الديمقراطي التقدمي ) مثلها مثل الاتحاد العام التونسي للشغل فيما دعا البعض الآخر إلى تشكيل " حكومة كفاءات وطنية من خارج الأحزاب " ( حركة التجديد ) وظلت أطراف أخرى تناور من أجل الحصول على مواقع مهمة في الدولة ( منصف المرزوقي وبن جعفر للحصول على رئاسة الدولة أو رئاسة المجلس التأسيسي ) أو في الحكومة ( وزارات السيادة الخ ... ).

وأمام هذه الصعوبات بدأت حركة النهضة في تغيير النبرة تدريجيا لتهاجم كل القوى التي امتنعت عن الدخول في التشكيلة الحكومية من ذلك أن أصبحت تطلق على خصومها السياسيين صفة " صفر فاصل " واعتبار المعارضة " تحالف خبيث " و" مجموعة من الفاشلين " و " جيوب الردة " كما جاء في افتتاحية جريدة الفجر الناطق باسم حركة " النهضة " بتاريخ 13 جانفي 2011. وطالت تهجماتها قيادة الاتحاد مستعملة ملفات فساد للضغط عليها وتم استصدار قرار بتحجير السفر للأمين العام عبد السلام جراد وجندت عناصر من اتباعها للتحرش بالمنظمة ككل. ولم يسلم من ذلك حتى حزب العريضة الشعبية رغم مغازلة زعيمها الهاشمي الحامدي للحركة طمعا في ضمه إلى تشكيلة الحكومة المرتقبة.

من جانب آخر سارعت حركة النهضة بالإعلان عن توجهات حكومتها الاقتصادية والاجتماعية حيث كرر المتحدثون باسمها ( البحيري وديلو وغيرهما ) الاستمرار في نفس الاختيارات وطمأنة الدوائر المالية الدولية ورفضهم اتخاذ أي قرار بخصوص مديونية تونس الموروثة عن نظام بن علي ( 3 ) بل وكثفوا من الدعوة إلى الهدنة الاجتماعية وإطلاق حملات تشويه ضد التحركات الاجتماعية والاضرابات والاحتجاجات والمطالبة بالانتظار وإمهال الحكومة الوقت اللازم لتشرع في العمل. وأخلت الوعود بتوفير اكثر من 400 الف موطن شغل مكانها للتلويح بـ" سياسة التقشف " وهو جسمه قانون المالية لسنة 2012 الذي جاء نسخة مطابقة للأصل لميزانيات حكومات بن علي. وعلى الصعيد الديبلوماسي والسياسة الخارجية فقد كشف الغنوشي وبكامل الوضوح عن توجهات الحكم في عهد " النهضة " حيث صرح يوم 30 نوفمبر 2011 امام " معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط " الأمريكي أن حكومته لا تمانع في إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني وأنها لن تقبل بإدراج فصل يجرم التطبيع معه. وهو في الحقيقة موقف كل الحركات الإسلامية الصاعدة للحكم في مصر ( الاخوان والسلفيون ) الذين أعلنوا تمسكهم باتفاقية السلام مع تل أبيب وكذلك موقف " المجلس الوطني الانتقالي للسلطة " في ليبيا ذي التوجهات " الإسلامية " الذي كشفت صحف صهيونية ( هاريتس ) عن وجود اتصالات معه لإيجاد أرضية اتفاق لربط صلات رسمية.

صادق المجلس الوطني التأسيسي يوم 22 ديسمبر 2011 على تركيبة الحكومة الجديدة ( 4 ) تضمنت 30 وزيرا و11 كاتب دولة و4 وزراء مستشارين لرئيس الحكومة حمادي الجبالي الذي قدم برنامج حكومته ذي الـ 16 نقطة وردت كلها في شكل تعميمي غامض عدا بعض الوعود بخلق 20 ألف موطن شغل وتمكين 50 الف عائلة معوزة إضافية من المنحة الشهرية المخصصة لهم.

أول ما بادرت به هذه الحكومة هو تسمية مجموعة من رموز الاعلام النوفمبري على رأس اهم المؤسسات الإعلامية العمومية، القناة الوطنية الأولى ( الصادق بوعبان ) ودار " لابراس " ( محمد نجيب الورغي مدير جريدة التجمع المنحل ) والتلفزة التونسية ( عدنان خذر ) الأمر الذي حدا بالاعلاميين إلى إعلان قرار الاضراب العام علما وأن اطراف من الترويكا نفسها ابدوا استغرابهم من هذه التسميات وعارضوها صراحة. واضطرت الحكومة تحت الضغط إلى التراجع عن قرارها. وتأتي هذه التعيينات في الحقيقة في إطار مخطط لتلجيم الاعلام وتدجينه حتى يسكت عما كانت تقترفه مجموعات من اتباع النهضة ضد الاحتجاجات الشعبية وحركة الشباب وضد المعارضين السياسيين من تهديدات وأعمال عنف. فعلى سبيل المثال اعتدت عناصر غريبة عن الجامعة على مجموعة من الطلبة ( مناضلي اتحاد الشباب ) في عدة كليات بسوسة كما عمدت هذه العناصر إلى محاصرة مبيت جامعي. وفي سياق آخر حاولت عناصر موالية للنهضة الاعتداء على النائب محمد البراهمي أمام وزارة الداخلية لترهيبه وثنيه عن تصريحاته المناهضة لقرارات علي العريض وزير الداخلية آنذاك.

ليست هذه غير عينات من ممارسات كانت تلقى التشجيع من حكومة الجبالي وتلقى صداها في تصريحات الصادق شورو ودعواته للقصاص من " جيوب الردة " حيث استشهد في إحدى جلسات المجلس التأسيسي بالآية " إنما يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ويصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ".

هكذا إذن كشفت حركة النهضة – في ظل صمت وتواطؤ حلفائها في الترويكا " عن وجهها الحقيقي وأماطت اللثام عن طبيعة المشروع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تنوي فرضه على الشعب التونسي الذي لم ينقض عن الثورة التي أطلقها ضد الديكتاتورية والاستغلال والفساد. وسنرى فيما يلي سلسلة التطورات التي جاءت كلها لتؤيد هذا التوجه وتؤكد صحة المؤشرات المشار إليها.

تواترت الأحداث وتسارعت في نفس الاتجاه. من جهة تصاعدت حركة الاحتجاج في مناطق عدة من البلاد وشملت قطاعات وأصناف مهنية متنوعة بما في ذلك في صفوف الأمنيين ومن جهة ثانية تكثفت أعمال العنف بمباركة الحكومة وتأييدها المباشر وغير المباشر. فإلى جانب الاعتداء على النائب محمد البراهمي والصحفي سفيان بن حميدة أمام وزارة الداخلية من قبل مجموعة من أنصار النهضة المؤيدين لقرار علي العريض بإقالة منصف العجيمي أحد مسؤولي الوزارة تعمدت مجموعات مماثلة الاعتداء على محاولة الأمنيين الاعتصام أمام قصر الحكومة بالقصبة وهاجمت مجموعات أخرى محاولة الاعتصام في باردو من طرف عدد من النشطاء والمواطنين ولم يسلم الاتحاد الجهوي للشغل من اعتداءات أنصار النهضة بمناسبة إحيائه لذكرى تأسيس الاتحاد وهوجم تجمع الصحافيين في ساحة القصبة الخ ...

في هذا المناخ المتوتر جدت حادثتان لهما دلالة خاصة. تتمثل الأولى في إصدار الباجي قائد السبسي يوم 26 جانفي 2012 بيانا سياسيا انتقد فيه الأحزاب الفائزة في الانتخابات التي أضاعت وقتا طويلا في تقاسم المناصب بينها ودعاها إلى الالتزام بالاتفاق الأخلاقي القاضي بأن لا تتجاوز الفترة الانتقالية وإجراء الانتخابات لأكثر من سنة ودعا بقية الأحزاب إلى الانصهار في " تكتل سياسي موحد ". وسيكون لهذه المبادرة لاحقا تأثير في المسار السياسي العام لبلادنا وتأثير خاص في مسار الالتفاف على الثورة من زوايا أخرى وبمرامي غير مرامي مسار الالتفاف الرسمي الذي تمثله الترويكا ومكوناتها. اما الثانية فتتمثل في العملية الإرهابية التي جدت يوم غرة فيفري 2012 في بير علي بن خليفة التي شكلت " باكورة " الأعمال الإرهابية في تونس والتي هي الأخرى سيكون لها شأن في اتجاه مغاير تماما مازالت البلاد تعاني من تداعياتها إلى اليوم.

لم تكن مبادرة الباجي اجتهاد فردي معزول بل جاءت كتعبير عن مشاعر الخوف وكردة فعل من شرائح من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة من اختلال موازين القوى السياسية في تونس على إثر انتخابات المجلس التأسيسي وتشكل الترويكا وراء حركة النهضة. لذلك رحبت " حركة التجديد " و" الحزب الديمقراطي التقدمي " و" أفاق تونس " وشخصيات سياسية أخرى بعضها كان يدور في فلك " التجمع " المنحل بهذه المبادرة وعبرت فورا عن رغبتها في الانضمام إليها معتبرين أنه من شانها أن تعيد تشكيل المشهد السياسي وخلق توازن يمكن أن يضمن التداول على السلطة ويقي البلاد من هيمنة قوة سياسية أحادية وتغولها. في المقابل من ذلك شنت أوساط قريبة من حركة " النهضة " وأخرى محسوبة على " المؤتمر من أجل الجمهورية " هجوما لاذعا على هذه المبادرة ونادت بمحاسبته على تجاوزاته في عهد بن علي وبعد الثورة متهمة إياه بالسعي إلى التضييق على الحكومة ومحاولة الانقلاب على الثورة والشرعية. وذهب البعض إلى القول بأن هذه المبادرة هي صنيعة " الدساترة " ومحاولة إحياء التجمع في شكل جديد ومسعى لجر البلاد من جديد إلى ديكتاتورية أخرى.

هكذا إذن ظهرت أولى معالم الصراع السياسي الجديد داخل التعبيرات السياسية للبرجوازية التونسية بين القوى التقليدية التي فقدت حزبها الحاكم " التجمع " فراحت تبحث عن بديل عنه قادر على تأمين مصالحها من جهة وبين القوى اليمينية المحافظة الجديدة التي استوت على كرسي الحكم دون أن يكون لها امتداد داخل الطبقة البرجوازية والتي يلزمها مدة من الزمن لجذبها تحت تأثيرها أو خلق قاعدتها الاجتماعية الخاصة بها.

إن إعلان الباجي عن مبادرته كان في الحقيقة إشارة الانطلاق لمسار من الصراع داخل البرجوازية ولكن أيضا بين الشعب والرجعية التي باتت اليوم منقسمة على نفسها بين الرجعية الحداثية والرجعية الظلامية والمحافظة.

بموازاة مع ذلك نشأ مسار صراع يبدو في ظاهره من طبيعة أخرى وبخصائص ومميزات مغايرة كانت عملية بير علي بن خليفة إشارة انطلاقه وهو مسار الصراع ضد الإرهاب والمجموعات الإرهابية وما هو في الحقيقة غير الوجه البشع لمسعى الالتفاف على الثورة والانحراف بها انحرافا كاملا من ثورة شعبية تقدمية تحررية إلى نزعة رجعية تتجه الاتجاه المعاكس تماما نحو بناء خلافة إسلامية ظلامية منغلقة من طراز ما أقدمت عليه ما يسمى بـ " دولة داعش ". لقد استفادت هذه الظاهرة البغيضة من وضع الحرية ولكن خاصة من تساهل حكومة الترويكا معها ومن مغازلة النهضة لها كي تتنظم وتتوسع وتبني مؤسساتها وجهازها العسكري وشبكاتها التجارية وعلاقاتها مع تنظيمات الإرهاب الدولي وتصبح رقما مهما في المعادلة السياسية والأمنية في بلادنا.

جاء ذلك في سياق حسابات حركة " النهضة " السياسية حالما صعدت للحكم. وليس أدل على ذلك من الخطاب الشهير لحمادي الجبالي رئيس حكومتها يوم 13 نوفمبر 2011 في سوسة أي قبل أن يستلم كرسي الحكومة والذي قال فيه لأنصاره " أنتم في الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله ". ولم يكن ذلك تصريحا اعتباطيا أو مجرد زلة لسان بقدر ما كان كلام مقصودا يؤشر على حقيقة البرنامج الذي يعد به البلاد وتبطنه حركته " النهضة ".

ذهب في اعتقاد النهضة أن نتائج الانتخابات التي منحتها تفوقا عريضا على بقية خصومها السياسيين من اليسار ومن القوى الإصلاحية وأن حل حزب " التجمع " بما يعني انقراضه من الساحة قد أخلى لها الجو كي تعجل ببسط نفوذها على البلاد ووضع مشروعها " الاخواني "موضع تنفيذ. ولعل ما زاد في قناعتها بذلك صعود " الاخوان المسلمين " في مصر والمغرب علاوة على مسكهم بالحكم في تركيا بمباركة من القوى العظمى ( الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وأمراء الخليج ) أي ما معناه أن عصر سيطرة تيار الاخوان المسلمين قد حل وأن حلم " الجماعة " قد بات واقعا لا مهرب منه. وعلى هذا الأساس بدأت حركة " النهضة " تكشف رويدا رويدا عن حقيقة نواياها. ولو لا الصد الذي وجدته من القوى الديمقراطية رغم ضعفها وخاصة من قبل الحركة الشعبية العفوية التي لم تهدأ بعد لكانت دخلت في تنفيذ مخططها برمته ودفعة واحدة.

ومهما كان من أمر فقد تواترت الأحداث في تونس بما كان يوحي أن الترويكا بقيادة " النهضة " ماضية رغم كل الصعوبات في إقامة الدولة الإسلامية المحافظة كما بشرت به حركة " الاخوان المسلمين " من زمن بعيد. وسنرى فيما يلي جملة التطورات التي كانت تصب في هذا الاتجاه.

أولى الإشارات جاءت على لسان أكثر من قيادي في حركة النهضة وخاصة الصادق شورو والصحبي عتيق رئيس كتلة حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي بصدد النقاشات حول مشروع الدستور إذ حاولوا منذ البداية أي عند نقاش الفصل الأول للدستور فرض اعتماد " الشريعة المصدر الأول والوحيد " وجندوا أتباعهم يوم 16 مارس 2012 للتظاهر أمام المجلس للمناداة بذلك. وأمام الصد الذي أبداه المجتمع المدني وأطياف واسعة من الشعب وقواه الديمقراطية لهذا التوجه حاولت حركة النهضة تليين خطابها مستبدلة مصطلح " الشريعة " بـ " منظومة القيم الإسلامية " ولكن المسعى ظل هو نفسه حيث جدد الصحبي عتيق في مداخلة في المجلس مطالبة حركته بـ" صياغة دستور يحترم المرجعية التشريعية (الإسلامية) على نحو لا يناقض ثوابت القرآن والسنة النبوية الشريفة " معارضا الفصل بين الدين والسياسة بقوله " الإسلام لم يعرف في نصوصه ولا تاريخه فصلاً بين الدين والسياسة " والدين لا يمكن أن يكون شأناً خاصاً في الضمير الداخلي للإنسان إنما هو نظام عام ومنهج للحياة.. وهو عقيدة وعبادة وخلق وشريعة متكاملة وهو منهاج كامل للحياة يتصل بحياة الفرد وشؤون الأسرة وأوضاع المجتمع وأسس الدولة وعلاقات العالم".
يتبع ...