جورجيا ميلوني وقيس سعيد والهدايا المتبادلة


جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن - العدد: 7956 - 2024 / 4 / 23 - 20:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

جورجيا ميلوني وقيس سعيد
والهدايا المتبادلة


كثّفت رئيسة الحكومة الإيطالية من زيارتها إلى تونس. فما السرّ في ذلك؟ هل محبة منها في بلادنا أم في الأمر "إن"؟ المعروف أن لا عاطفة في السياسة كما يقال. ومما لا شك فيه أن ميلوني لا تأتي إلا لقضاء حاجة. وفي آخر زيارة لها وهي الثالثة من نوعها في أقل من سنة، والتي لم تدم غير ساعتين او ثلاث، ثمة حاجات جاءت ميلوني لقضائها. لكن لعل الغرض الأساسي من مجيئها هو حسابات سياسية مباشرة في أفق شهر جوان القادم. لذلك انتقلت مباشرة من تونس إلى بروكسيل حيث يعقد مجلس الاتحاد الأوروبي آخر اجتماع له قبل انتخابات البرلمان الأوروبي ما بين 6 و9 جوان القادم.

بعبارة أخرى تندرج هذه الزيارة، كما كل التحركات الأخرى التي تقوم بها ميلوني هذه الأيام، تماما مثل غيرها من قادة الأحزاب السياسية في مختلف بلدان أوروبا، ضمن الاستعدادات الجارية على قدم وساق للاستحقاق الانتخابي الكبير القادم الذي تعلق عليه كل القوى المتنافسة آمالا كبرى. فأوروبا الان في مفترق الطرق بين أن تظل تحت أغلبية اليمين التقليدي أو أن تسقط بين براثن اليمين المتطرف الفاشستي. وهو ما تتنبأ به الكثير من المؤسسات البحثية في أوروبا من ذلك الدراسة التي أصدرها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية شهر جانفي الماضي ( Europeen Council on Foreign Relations ECFR.

فاليمين المتطرف، الذي يتحرك ضمنه حزب جورجيا ميلوني "إخوان إيطاليا" fratelli d’Italia، يسعى إلى تعزيز مكاسبه السياسية والانتخابية على غرار الانتخابات السابقة سنة 2019 حيث مرّ من 37 مقعدا إلى 115 مقعدا في البرلمان الأوروبي. يسعى هذه المرة أن يكون هو القوة الثانية او الثالثة في أوروبا. وتعطيه استطلاعات الراي الأخيرة هذه المكانة. فأقصى اليمين قوي في أوروبا وبالتحديد في العديد من بلدانها وفي مقدمتها إيطاليا حيث يتقدم حزب ميلوني على كل منافسيه بنسبة 34% من الأصوات في آخر انتخابات جرت في إيطاليا السنة الماضية. وإلى جانب إيطاليا يتمتع أقصى اليمين بقوة ذات بال في المجر وفرنسا والبلدان الإسكندنافية والنمسا الخ... وقد أعلن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في الدراسة المشار إليها صيحة فزع بالنظر للنتائج المتوقع أن يحصل عليها أقصى اليمين الأوروبي شهر جوان القادم. وحسب هذه الدراسة من المنتظر أن تفوز أحزاب اليمين المتطرف في الانتخابات القادمة في تسعة بلدان هي بلجيكا وفرنسا وبولونيا وتشيكيا وسلوفاكيا والنمسا وهولندا إلى جانب إيطاليا والمجر فيما يمكن أن تحل في المرتبة الثانية في كل من تسعة بلدان أخرى.

إن أحزاب أقصى اليمين في أوروبا، ومن ضمنها حزب "إخوان إيطاليا"، أحزاب شعبوية يمينية متطرفة ومحافظة حد الشوفينية تقوم سياستها على معاداة الأجانب ومناهضة الهجرة وهي حركات فاشية بصدد استغلال أزمة الرأسمالية الأوروبية لمغالطة الراي العام واقتلاع أصوات جماهير الشعوب الأوروبية بما في ذلك الطبقات الشعبية التي تدفع ثمن الازمة على نحو غير مسبوق.

جورجيا ميلوني كانت قفزت بحزبها إلى مقدمة المشهد السياسي الإيطالي بناء على سياستها المعادية للمهاجرين. فحول هذا الموضوع قادت حملتها الانتخابية وفازت بنسبة 34 % من الأصوات لتشكل تحالفا حكوميا يمينيا مع بقية قوى اليمين المتطرف المسماة "وسط اليمين"، حزب "فورصا إيطاليا" Forza Italia بقيادة انطونوي تاجاني وحزب Lega بقيادة اليميني المتطرف المعروف ماطيو سالفيني Matteo Salvini.

بعد أكثر من سنة في الحكم لم تبرهن ميلوني بعد على درجة كبيرة من المقدرة على إخراج الاقتصاد الإيطالي من صعوباته. فإيطاليا ما تزال ثاني بلد أوروبي يعاني من مديونية عالية بعد اليونان. وحتى إن تراجعت نسبة البطالة وعادت دينامية الاقتصاد للعمل فإنها لم تبلغ النتائج التي وعدت بها الايطاليين. مقابل هذه الحالة من "المراوحة في نفس المكان" تقريبا على المستوى الداخلي مازالت ميلوني تعوّل على تحقيق مكاسب بواسطة ملفات من السياسة الخارجية وخاصة ملف الهجرة.

وحتى لا تذهب ميلوني فارغة اليدين إلى بروكسيل حيث أقيم اجتماع المجلس الأوروبي الأخير سارعت إلى تونس لإحياء اتفاقية 16 جويلية الماضي التي اعتبرها الكثير أنها قد فشلت ولم تحقق الأهداف المرسومة لها ولم تكن في مستوى الضجة الإعلامية التي أقيمت حولها في إيطاليا كما في تونس. فخلال السنة المنقضة وصل الى شواطئ إيطاليا (حوالي 150 ألف مهاجر غير نظامي) أي ضعف ما وصل من المهاجرين غير النظاميين سنة 2022. لذلك كان على ميلوني أن تستنجد مجددا بقيس سعيد لاقتلاع اتفاق جديد تستطيع التباهي به في اجتماع بروكسيل وتعتمده كمادة للتدليل على نجاح سياسة اليمين المتطرف في الانتخابات القادمة. وكان لها ذلك مقابل ثلاثة اتفاقيات في ميادين غير موضوع الهجرة.

لم تأت ميلوني الى تونس فارغة اليدين فقد حملت معها وعودا بقرض 100 مليون أورو لدعم الميزانية واتفاقيتين أخريين واحدة للتعاون بين وزارات التعليم العالي والبحث العلمي في البلدين وأخرى حول خط تمويل بـ 55 مليون أورو لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة.

قيس سعيد الذي يلهث وراء مثل هذه المبالغ الصغيرة لضخ ما تيسّر في ميزانية الدولة التي تعاني من مصاعب جمة في ظل انسداد افاق الاقتراض (خاصة الخارجي) لم ير مانعا في أن يرد على الهدية بهدية. فمقابل بعض "الأوروات" مكّن ميلوني من كل ما تحتاجه كي تعزز موقعها في إيطاليا ولكن ايضا في الحسابات الأوروبية. وبطبيعة الحال كان لا بد أن يردد نفس الشعارات "تونس لن تقبل بان تلعب دور الشرطي لحماية الشواطئ الجنوبية لأوروبا" حفاظا منه على صورته وهو مقدم بدوره على انتخابات الخريف القادم. وعكس اتجاه هذه الشعارات كان قد تقمص هذا الدور من زمان.

يعني في النهاية كل من الطرفين يعتبر نفسه مستفيدا من هذا الاتفاق الجديد ولكن مع فارق وهو ان ميلوني حققت مصلحة لحزبها ولتحالفها الحاكم وربما لبرنامجها الاقتصادي والاجتماعي فيما لم يحقق قيس سعيد غير قليل من أضغاث أحلام مر الآن أكثر من سنة وهو يلاحقها.

كان مفهوما أن تركز إيطاليا تحت حكم الفاشست على تونس لسببين اثنين أولهما أن ميلوني تبني كامل سياستها للوصول للحكم وللبقاء فيه على ملف الهجرة وثانيهما أن تونس هي مصدر كبير لتدفق أفواج المهاجرين غير النظاميين. ولكن مع مرور الوقت تحولت نوايا ميلوني، واليمين الإيطالي بشكل عام إلى إحياء أحلام إيطاليا القديمة في أن تكون تونس تابعة لها وتحت نفوذها. ويبدو أن هذا ما هو بصدد الحصول الآن مع قيس سعيد.

ويؤكد ما تسرب من أخبار أن المباحثات بين سعيد وميلوني في الجولة الأخيرة تناولت بالدرس مستقبل العلاقات في ضوء التحولات التي يمكن أن تحصل وخاصة في حالة عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض في واشنطن. ويجري الحديث حول أدوار سيضطلع بها قيس سعيد بعلاقة بإيطاليا والسعودية في مسار سياسات أمريكية جديدة في المنطقة تقوم أساسا على التطبيع مع الكيان الصهيوني وإعادة الحياة لاتفاقيات ابراهام. ولنا عودة لهذا الموضوع.