رمضان: شهر الاستهلاك المفرط بجيوب مثقوبة


جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن - العدد: 7921 - 2024 / 3 / 19 - 22:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

حلّ شهر رمضان الذي يمثل، علاوة على طفرة التدين التي تصحبه، شهر الطفرة الاستهلاكية الأكبر في كل سنة. فخلال هذا الشهر تنفلت الرغبة في الاستهلاك بما لا يضاهيها في بقية فترات العام. وينجم عن ذلك سلسلة من التداعيات على عموم الاقتصاد، حركة الإنتاج والتخزين والتوزيع والاسعار، كما على ميزانيات الاسر وبالتالي على المقدرة الشرائية وعلى السلوك الاستهلاكي الفردي والجماعي وما إلى ذلك من جوانب الحياة الاجتماعية.
البطالة آفة الآفات
يعود رمضان هذه السنة في أوضاع خاصة جدا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بما يضفي على كل الجوانب المتصلة بها في حياة الناس صعوبة أكبر وقساوة مضاعفة. فالبلاد تعيش تحت وقع أزمة اقتصادية حادة فرضت على جماهير الشعب ظروف التقشف في كل أبعادها. من مظاهر ذلك انسداد افاق التشغيل. فقد قررت الدولة منذ سنوات غلق باب الانتداب في الوظيفة العمومية وفي الشركات والدواوين التابعة لها بحكم تضخم عدد العاملين بهذين القطاعين وبالتالي تضخم كتلة الأجور فيهما. أما القطاع الخاص فهو علاوة على قدرته المحدودة على خلق مواطن الشغل (مؤسسات صغرى ومتوسطة وقدرة ضعيفة على الرسملة) فقد عرف نزيفا مع تفاقم مظاهر الازمة وعلى وجه أخص مع أزمة الكوفيد حيث أغلقت عديد المؤسسات أبوابها وهاجرت العديد من الاستثمارات إلى أسواق أخرى مثل المغرب ومصر. ومن المعلوم أن سوق الشغل التونسية تستقبل سنويا ما لا يقل عن 78 ألف طالب شغل جديد (طلبات إضافية demande additionnelle) فيما لا توفر منذ سنوات ما لا يزيد عن 30 ألف في أحسن الحالات. إن البلاد تعج بما لا يقل عن مليون عاطل من كل الأصناف شبابنا وكهولا، أصحاب شهادات عليا وأصحاب مهارات مهنية وغير متعلمين وغيرهم أي أكثر بقليل من الرقم الذي تعترف به الاحصائيات الرسمية 15 % من اليد العاملة في سن الشغل. هؤلاء جميعا ليس لهم أدنى دخل ويواجهون الحياة كل يوم نفس أسباب الشقاء والبؤس علما وأن الظرف الاقتصادي لا يوفر أي فرصة هامشية "لتدبير الراس" وإيجاد أبسط الحلول التي توفر ما يسد الرمق.
شعب الفقراء والمعوزين
إلى جانب هذا العدد الضخم من العاطلين يعيش حوالي 400 ألف عائلة تونسية على منحة العائلات المعوزة والتي لا تزيد عن 200 وبضعة دينارات و"الكرني الأصفر" وهو الدخل الوحيد لهذا العدد الكبير من العائلات لأن وزارة الشؤون الاجتماعية تشطب من القائمة كل عائلة أصبح لها مورد رزق آخر غير المنحة. ولا جدال في أن هذا المبلغ في ظل المستوى العام للأسعار لا يكفي لسد عشر حاجات فرد من العائلة ناهيك عن عائلة بأكملها خاصة في المدن حيث تكاليف السكن (الاكرية) والتنقل والتغذية والدراسة عالية وبلغت في السنوات الأخيرة مستوى غير مسبوق.
وعلى صعيد آخر شهدت المقدرة الشرائية في السنوات الأخيرة تراجعا مفزعا ذلك أن نسق الزيادات في الأجور لم يواكب بالمرة ارتفاع الأسعار. حتى سياسة الزيادات الثلاثية التي ارساها بن علي منذ بداية التسعينات والتي كانت هي الأخرى أداة لإلقاء مسؤولية الازمة على كاهل الشعب توقف العمل بها وكفت عن أن تلعب دور المسكن الذي كانت تلعبه. وحتى بعض الاتفاقيات الممضاة والتي فيها مردود مالي فقد تنكرت لها الحكومة أو الخواص بل أكثر من ذلك صدرت أوامر حكومية للوزارات والمصالح التابعة لها بغلق باب التفاوض مع النقابات وهو ما شجع الأعراف على السير على خطاها. لقد تعطل الحوار الاجتماعي بشكل يكاد يكون نهائيا وهناك مساعي للقضاء عليه تماما وتكبد الشغالون جراء ذلك خسائر كبرى في مستوى أجورهم وظروف عملهم وحقوقهم المادية والمعنوية الأخرى.
إن مستوى الأجور في تونس ما انفك يتراجع مقارنة بما هو موجود في البلدان المجاورة والاقتصاديات المشابهة لنا. فالأجر الأدنى الصناعي في تونس هو الأضعف في حوض البحر الأبيض المتوسط. ومنذ سنة 2016 تم التراجع في تنظير الأجر الأدنى الفلاحي بالأجر الأدنى الصناعي وتمت العودة لتثبيت الفوارق القديمة بينهما كما جرى به العمل من قبل منذ عهد بورقيبة.
كما يعتبر معدل الأجور العام من أضعف المعدلات وما انفك هذا المعدل يفقد قيمته مع اتساع الهوة بين نسق الزيادات في الأسعار ونسق الترفيع في الأجور. علما وأن أكثر من 87 % من الأسعار محررة ولا تخضع إلا لقانون السوق، قانون العرض والطلب. وبالنظر للانخرام الكبير الذي لحق بمنظومات الإنتاج فإن العرض في مختلف البضائع والمنتوجات قد تراجع بشكل مهول ما أدى بالتالي الى اختلال التوازن مع الطلب وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الاختلال التهاب الأسعار. ومما زاد المشكل حدة هو تفاقم العجز التجاري بالنظر الى لجوء الدولة الى توريد كل حاجات الاستهلاك العائلي وحاجات المؤسسات الإنتاجية والخدماتية. وبطبيعة الحال كان لذلك أثار وخيمة في مستوى ارتفاع نسبة التضخم المورد وتراجع قيمة الدينار التونسي بشكل مهول. ونجم عن هذا التفاقم أن اضطرت الدولة الى اتخاذ إجراءات تقشفية بالحد من كميات التوريد في الكثير من المواد والبضائع للضغط على العجز. هذا ما زاد في ندرة الكثير من السلع والمنتوجات وخاصة المواد الغذائية الأساسية.
"شدّان الصف" تقليد اجتماعي جديد
لم يسبق في تاريخ التونسيين بما في ذلك في فترة الستينات أن رضخوا لمهانة "شدان الصف" لساعات طوال ومنذ الصباح الباكر وفي كل الأوقات للحصول على "خبزة" أو كيلوغرام من السكر أو من أحد مشتقات الحبوب، "الفارينة" أو "السميد" أو للفوز بعلبة حليب وفي وقت من الأوقات قارورة من المشروبات الغازية أو قطعة زبدة والقائمة طويلة. ولأول مرة في تاريخ تونس أصبح المواطن مجبرا على الخضوع لتقنين شراءاته rationnement من هذه المادة أو تلك ويجبر على أن لا يتجاوز علبتين من الحليب أو كيلوغرام واحد من السكر وما الى ذلك من "التقنينات". ولا يتوقف الأمر عند هذه النوعية من المواد بل يتعداها إلى الكثير من البضائع والحاجات الأخرى مثل الأدوية حيث تم حذف المئات منها من السوق التونسية والكثير من المواد نصف المصنعة الصالحة للكثير من الأنشطة التحويلية. وقد شكل هذا النقص دافعا لانفجار اللهفة على هذه المواد وغيرها وارتفاع الطلب بشكل مهول رغم محدودية الإمكانيات المادية وضعف الدخل.
وقد تمكنت السلطة من إقناع أوساط واسعة من الناس بأن السبب في هذه الحالة البائسة هو الاحتكار ولوبيات الفساد وما إلى ذلك من الدعايات والمغالطات. لا شك وان منظومة التوزيع مثلها مثل كل المنظومات الأخرى واقعة تحت سيطرة اللوبيات والسماسرة والمهربين ولكن ذلك لا ينفي أيضا أن آلة الإنتاج في تونس قد تعطلت وتكاد تتوقف عن العمل أصلا الأمر الذي جعل الكثير من المواد مفقودة من السوق. ففي ميدان الحبوب مثلا لم يتعدّ إنتاجنا السنة الماضية 2.7 مليون قنطار (مقابل 7.5 مليون قنطار سنة 2022) (1) مقابل معدل استهلاك سنوي لا يقل عن خمسة ملايين طن سنويا (2). ولم يكن بمقدور الدولة سد الفارق عن طريق التوريد لأسباب كثيرة منها ما هو عالمي وخارج عن نطاقنا مثل الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الحبوب والمواد الأولية بصفة عامة ومنها ما هو مرتبط بأوضاعنا الاقتصادية والمالية وخاصة محدودية الاعتمادات المرصودة لذلك الخ... ففي هذا المجال مثلا لا يمكن لعاقل أن يصدق أن المسألة تعود إلى "الاحتكار" و"اللوبيات"، وهي موجودة فعلا وفرضت ارتفاع أسعار الخبز مثلا كأمر واقع.
الديماغوجيا هو الحل
عندما تعجز الدولة عن توفير الحلول الحقيقية وتختار طريق التضليل والمغالطة تصرف كل جهودها الى استبدال كل السرديات بسردية "مقاومة الفساد" و"نظافة اليد" وهي سردية لقت رواجا لدى أوساط واسعة من الشعب التونسي ولكنها بدأت تفقد بريقها لأن الشعب الجائع والعاطل عن العمل والبائس لم تعد تغنيه هذه الخطب الطنانة ولا تسمنه من جوع. والامر الأكيد أن السلطة على يقين أنها لا تستطيع أن تعول الى ما لا نهاية له على هذا الخطاب الذي سيصبح لا محالة ممجوجا وغير ذي فاعلية. ولكنها في الوقت ذاته تفتقد لأي بديل عن رفع الشعارات واللعب على أوتار المشاعر. لذلك من المرجح أن تستمر دعايتها على هذا النحو ويبدو مما نلاحظه في الزيارات المكثفة للرئيس قيس سعيد أن هذه السردية، الديماغوجيا في نسختها الشعبوية، ستكون مادة للحملة الانتخابية القادمة و"ماعون صنعة" للمستقبل ككل.
جيلاني الهمامي

الهوامش
(1) – أنظر جريدة la Presse على الرابط التالي :
Récolte des Céréales en 2023 : Un rendement en baisse de 60% ! | La Presse de Tunisie
( 2 ) – أنظر دراسة الأستاذة روضة الخالدي (خبيرة في الاقتصاد الفلاحي) وسعدية بوعلي (خبيرة تقنية) بعنوان :
ANALYSE DE LA FILIÈRE CÉRÉALIERE EN TUNISIE ET IDENTIFICATION DES PRINCIPAUX POINTS DE DYSFONCTIONNEMENT À L ORIGINE DES PERTES - صفحة 26