تونس في لعبة الاصطفافات والمحاور


جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن - العدد: 7987 - 2024 / 5 / 24 - 06:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كتبت جريدة لوموند الفرنسية le Monde في عددها ليوم الخميس 23 ماي 2024 وفي الصفحة الثالثة بعنوان "تونس تمتن روابطها مع روسيا" أن جريدة الجمهورية la Republica الإيطالية أوردت خبرا عن نزول طائرات عسكرية روسية يوم الاحد 19 ماي الجاري بمطار جزيرة جربة. وقالت لوموند أن أي احتمال تطور للعلاقات التونسية الروسية يتعارض مع ما هو معروف عن انحيازها التقليدي للمعسكر الغربي وارتباط جيشها ارتباطا وثيقا بالولايات المتحدة الامريكية. وأكدت الجريدة أن السلطات التونسية لازمت الصمت حيال هذا الخبر فيما ردّت روسيا عن طريق سفارتها في طرابلس – وليس عبر سفارتها في تونس – واعتبرت هذا الخبر عار من الصحة وهو مجرد "أكاذيب". وأوردت الجريدة عن مصدر ديبلوماسي غربي قوله "لقد كان هناك فعلا تحركات لطائرات روسية (في مطار جربة) ولكننا نجهل طبيعتها" فيما اعتبرت بعض الأوساط الأمنية في تونس، حسب جريدة لوموند، أن "طائرات نقل بضائع" و"رحلات مستأجرة" مدنية (charters) واعتبر البعض الآخر أن الأمر يتعلق بقوات ذات صلة بالشركة الأمنية المعروفة سابقا باسم "فاغنر" Wagner والتي تغير اسمها لتصبح “افريكا كوربس” Africa Corps حطت على مطار جربة للاستراحة لا أكثر.
وقد ذهب البعض الى اعتبار هذه الحركة عادية وليست جديدة ذلك أن الطائرات الروسية تعودت على الهبوط بمطار جربة خاصة في المدة الأخيرة للتزود بالنزين ولم يسبق أن اتخذت هذه العمليات طابعا عسكريا.
ولكن وبصرف النظر عن هذه المعطيات التي لا تزال غير دقيقة فإن هبوط طائرات روسية على أرض مطار جربة يأتي ليؤكد ظاهرة التسرب غير المعلن الروسي الى تونس. وللتدليل على ذلك ذكرت جريدة لوموند بالحركة البحرية الروسية الحثيثة في الموانئ التونسية ومنها رسو الباخرة الروسية، محل عقوبات أمريكية على خلفية الحرب على أوكرانيا، ميكانيك ماكارين Mekhanik Makarin في ميناء سوسة قادمة من بنغازي في طريقها الى ميناء مورمانسك الروسي. وأشارت الى عودة هذه الباخرة المرتقبة الى المياه التونسية حيث من المبرمج أن ترسو من جديد يوم 8 جوان القادم بميناء صفاقس.
ومما لا شك فيه، رغم أنه من السابق لأوانه الحديث عن تغيير استراتيجي، أن العلاقات التونسية الروسية بصدد التطور. فوزير الخارجية لافروف زار تونس، بعد أن تعطلت هذه الزيارة في مناسبتين سابقتين جراء ضغوط مارستها الولايات المتحدة الامريكية، في شهر ديسمبر 2023. وقد جاءت تلك الزيارة في وقت شهدت فيه المبادلات التجارية بين البلدين، وإن كانت على حساب تونس، نموا سريعا. فصادرات الحبوب الروسية باتجاه تونس شهدت خلال 2023 زيادة بنسبة 534 % مقارنة بالسنة التي سبقتها بقيمة 1.1 مليار دينار حسب معهد الإحصاء.
ورغم العقوبات الدولية المسلطة على روسيا فإن تونس ضاعفت وارداتها من الفحم ومشتقات البترول الروسي سنة 2023 ثلاثة اضعاف وارداتها سنة 2022 ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية استوردت تونس من البترول الروسي أكثر مما استوردته طيلة التسع سنوات الماضية.
أما على المستوى السياسي فإن الهيئة العليا للانتخابات في تونس كانت أمضت يوم 15 مارس الماضي مذكرة تفاهم مع نظيرتها الروسية، وكان فاروق بوعسكر رئيس الهيئة شارك، في إطار ذلك، من 15 الى 17 مارس في مراقبة الانتخابات الروسية التي فاز فيها بوتين بنسبة 87 % والتي سجّلت حسب وسائل إعلام روسية مستقلة جملة من الاخلالات.
ومن جانب آخر فقد لوحظ في الأيام الأخيرة انتشارا واسعا لحملة اشهارية لفائدة القناة التلفزية "روسيا اليوم" باللغة العربية التي تمولها الحكومة الروسية. وسبق قبل أيام قليلة أن فتحت هذه القناة مكتبا لها في الجزائر العاصمة وانتدبت مبعوثة خاصة لها في تونس. وتنظم السفارة الروسية عبر المركز الثقافي الروسي العديد من التظاهرات حول اللغة والثقافة في روسيا وتاريخها وتشارك في التظاهرات الثقافية التونسية منها معرض تونس الدولي للكتاب.
صحيح أن حضور روسيا في الساحة التونسية مازال نسبيا محتشما ولكن المجال مفتوح لأن يتطور خاصة في ظل تنامي الإحساس بمنطق الكيل بمكيالين بمناسبة الحرب على غزة التي عرّت أمريكا والأوروبيين أخلاقيا. وفي مناخ مماثل وبالنظر للتمدد الروسي في ليبيا والساحل الافريقي فإن قيس سعيد "بمثابة ثمرة قد نضجت وتنتظر لحظة سقوطها حسب قانون الجاذبية في السلة الروسية" كما قال الباحث في Royal United Services Institute for Defence and Security Studies جلال الحرشاوي.
إن تونس التي سبق وأن منحتها الولايات المتحدة الامريكية سنة 2015 صفة "الشريك المتميز من خارج الحلف الأطلسي" ويفترض أن تكون على الموقف الأمريكي بخصوص الحرب في أوكرانيا قد بدأت تدخل ضمن منطقة الغموض والشك. وقد يكون من الصعب أن توفق في لعبة المحاور والاصطفافات التي تذهب باتجاه الاشتداد في ضوء احتدام الصراعات بين القوى الكبرى على إعادة رسم خارطة النفوذ في المنطقة وفي العالم.
تتميز الشعبوية بالانتقائية وبتركيب كل رؤاها من عناصر خليط وذلك من أجل إخراج مقولات متميزة ومختلفة عما تعود به الناس بما في ذلك في العلاقات الخارجية والديبلوماسية. ذلك ما نلمسه في التمرين الذي يتعاطاه سعيد في هذا المضمار منذ مجيئه على راس الدولة التونسية. لكن مجهوداته للتأليف بين عناصر متنافرة أو على الأقل غير منسجمة، لم تكلل بعد بالنجاح. فليس من السهل التوفيق في العلاقة بين مصر والجزائر والامارات والسعودية وقطر وإيران وتركيا على الصعيد الإقليمي كما أنه من العسير التوفيق في العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وامريكا وروسيا والصين في ذات الوقت. وقد اتضح بالقدر الكافي من الوضوح أن اللعب على كثير من الحبال واعتماد خطاب "السيدة الوطنية" الموجه للاستهلاك المحلي قد أدى إلى زرع الكثير من الريبة والشك لدى مختلف هذه الأطراف في صدقية العلاقة مع تونس قيس سعيد. ولنا في المصاعب التي تجدها تونس في الحصول على قروض أو في استجلاب استثمارات أكثر من دليل.
لكن ورغم كل هذه الضبابية فالثابت أن قيس سعيد لم يوفق بعد في تخليص تونس من موقعها كفضاء حيوي تابع للغرب الرأسمالي وكمستعمرة جديدة للامبريالية الامريكية والأوروبية. ولعل ما بلفت الانتباه في جديد الاصطفافات التي هي بصدد التشكل عودة الاطماع الإيطالية في تثبيت قدمها في تونس.

تونس 23 ماي 2024