مرة أخرى اللهث بحثا عن القروض في زمن -التعويل على الذات-


جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن - العدد: 7970 - 2024 / 5 / 7 - 04:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

مرة أخرى
اللهث بحثا عن القروض في زمن
"التعويل على الذات"

كان الرئيس قيس سعيد ردّد في أكثر من إطلالة تلفزية شعار "التعويل على الذات". وكان ذلك إما بعلاقة بإعداد الميزانية أو تعليقا على تصنيف تونس من قبل إحدى الوكالات الدولية المعروفة والمختصة في المجال.

الشعار في حد ذاته، صحيح بل يفترض أن يكون فعلا روح سياسة الدولة فيما يتعلق بكيفية تمويل الميزانية والعملية التنموية وتمويل الاقتصاد التونسي ككل. غير أن السياسة الرسمية للدولة في ظل حكم قيس سعيد تؤكد أكثر فأكثر أن لا علاقة لهذا الشعار بالواقع. ذلك أن تعويل الدولة على آلية الاقتراض الخارجي مسألة لا يرقى لها الشك. وما جاء في ميزانية السنة الجارية بخصوص كيفية تمويل الميزانية العامة للدولة يقدم دليلا ساطعا لا سبيل لرده بأي وجه من الوجوه. ففي باب الموارد تعول الدولة اقتراض ما قيمته حوالي 28 مليار دينار من جملة 77 مليار دينار كموارد للميزانية أي ما يعادل تقريبا 36 % من الموارد ستتأتى بواسطة الاقتراض الداخلي والخارجي. أما التفاصيل فهي كما جاءت في جداول الميزانية 12 مليار كقروض داخلية و16 مليار كقروض خارجية.

وكما سبق أن قلنا في مناسبات أخرى أن نسبة التداين في هذه السنة هي "سابقة في تاريخ تونس لم يسبق أن سجلتها الميزانية. هذا فيما يضع قيس سعيد اختياراته الاقتصادية والمالية تحت عنوان “التعويل على الذات” في الخطاب فيما يسجل الرقم القياسي في التداين خارجيا وداخليا" (1).

والحقيقة أن هذا التوجه ليس بجديد، فهو خيار من الخيارات الأساسية المعتمدة في السياسات الاقتصادية والمالية التونسية من ستينات القرن الماضي وقد جرى العمل به في عهد بورقيبة وبن علي وفي حكومات النهضة ونداء تونس ويجري العمل به الآن في عهد قيس سعيد بأنساق أكبر وأخطر.

هذا ما تؤكده عديد الدراسات والبحوث الاقتصادية المستقلة وكذلك التقارير الرسمية منها التقرير الذي أصدره المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية التابع لوزارة الاقتصاد والتخطيط بعنوان "استدامة الدين العمومي في تونس: التحديات والديناميكيات" (مارس 2024) (2) ويتضمن نض دراسة أعدها السيدان سامي بوعصيدة ووليد المانسي تحت إشراف السيدة منيرة بوعلي في إطار أنشطة الإدارة المركزية للدراسات الاقتصادية كما جاء في تنبيه الصفحة الأولى من هذا التقرير.
يتضمن التقرير ثلاثة فصول هي:
- تطور الدين العمومي في تونس
- تحليل استدامة الدين العمومي
- توصيات.
ويهمنا في هذا العرض التركيز على الفصلين الأولين لأهمية المعطيات الواردة بهما. أما بخصوص التوصيات والتي تعكس وجهة نظر المؤلفين لن نتناولها هنا لأننا لا نتفق بالضرورة معها.
1 - تطور الدين العمومي في تونس
بلغ حجم الديون التونسية المستحقة سنة 2023 ما مجموعه 127.2 مليار دينار أي ما يقابل 80.2 % من الناتج المحلي الإجمالي وهو ضعف ما كان عليه سنة 2010 حيث كان في حدود 43 % فقط. وقد عانت ميزانية الدولة خلال العشرية الماضية من ارتفاع نسبة العجز التي وصلت في بعض الحالات 9.7 % سنة 2020 مثلا وذلك بسبب الارتفاع المهول في حجم مصاريف التسيير وخاصة كتلة الأجور التي ارتفعت من 10.4 % سنة 2010 إلى 14 % من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2023 وكذلك بسبب ارتفاع حجم مصاريف التدخلات الأخرى من 4 % من الناتج المحلي الإجمالي الى أكثر من 10 % سنة 2023.
وكان بطبيعة الحال لا بد من توفير الموارد اللازمة لمواجهة هذه الزيادات الكبيرة، وفي ظل تعطّل عملية التنمية وتراجع مجهود خلق الثروة لم يبق أمام منظومة الحكم خلال العشرية الماضية غير اللجوء المكثّف للتداين أكثر فأكثر داخليا وخارجيا. لذلك انتقل حجم مديونية تونس من 25.6 مليار دينار سنة 2010 بنسبة 39 % من الناتج الإجمالي إلى 127.2 مليار دينار سنة 2023 ونسبة 80.2 % من الناتج المحلي الإجمالي. ونتيجة لذلك مرّت نسبة الدين لكل مواطن تونسي من 2430 دينار سنة 2010 إلى 10300 دينار سنة 2023 أي بنسبة زيادة 330 %.
وعلى امتداد سنوات العشرية الماضية ارتفعت نسبة التداين بدرجة أعلى بكثير من نسبة النمو السنوي.
وتمثل القروض الخارجية، على مستوى هيكلة المديونية التونسية، نسبة 64 % من مجموع القروض المستحقة رغم أنه ومنذ سنة 2021 تسارع اللّجوء إلى الاقتراض الدّاخلي وذلك بسبب انسداد إمكانيات الاقتراض من الخارج. فنتيجة تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أصبحت تونس تجد مصاعب جمّة في الحصول على قروض من الخارج.
وتتميز هيكلة المديونية التونسية أيضا في مستوى القروض المحلية باللّجوء أكثر فأكثر إلى القروض بالعملة الصعبة أمّا في مستوى القروض الخارجيّة بالاقتراض أكثر فأكثر بعنوان "دعم الميزانية".
من جهة أخرى فإن فوائد الدّيون قد تضاعفت ثلاث مرّات ما بين 2010 و2023. وقد تقلّص معدّل آجال تسديد الديون إلى أقلّ من ستّ سنوات ويفسّر ذلك بارتفاع حجم إصدارات سندات الخزينة لآجال قصيرة المدى. من جانب آخر فقد كان لارتفاع سعر الصّرف كلفة باهظة إذ أّدى إلى ارتفاع حجم الديون التونسية بما مقداره 902 مليون دينار إضافية سنة 2020 (حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي) وما مقداره 1032 مليون دينار سنة 2022.
2 – حول استدامة الدين العمومي التونسي
تعكس استدامة الدّين العمومي لبلد ما قدرته على الإيفاء بتعهداته على مدى طويل دون المساس بقدرته على تمويل سياساته العمومية. ويعتبر الدين العمومي مستداما إذا أمكن تغطية حجمه الجاري عن طريق فوائض الميزانية الحالية والمستقبلية. وقد ذهب علماء الاقتصاد مذاهب شتّى في ضبط طرق وأساليب قيس استدامة الديون العمومية وتحليلها وتقييمها.
وبصرف النظر عن تعدد المقاربات، يبقى الهدف من تحليل استدامة الدّين وتقييمه هو تحديد عتبة الدّين التي تحفز النمو الاقتصادي وتدعّمه والتي تضمن استمرار ميزانية الدولة وبالتالي استمرار النشاط الاقتصادي وعملية التنمية وخلق الثروة. فهنالك علاقة تأثير وتأثر قوية بين التداين والتنمية. ويعتبر الأدب الاقتصادي الكلاسيكي أنه كلّما ارتفع حجم الدّين إلاّ وكان أثره سلبيا على نسق النمو الاقتصادي باعتبار أن التداين يشكّل عاملا من عوامل اضطراب المنظومة المالية والنقدية التي تمثّل الرافعة الأساسية للاستثمار.
وبحسب بعض المقاربات في التّقييم فإنّ تأثير المديونية يُصبح سلبيّا في عمليّة التّنمية كلّما بلغ نسبة 55.9 % من الناتج المحلي الإجمالي ومع كل زيادة في هذه النسبة بنقطة (1 %) تخسر نسبة النمو 0.1 %.
لقد أخضع محررا التّقرير تقييم الدين العمومي التونسي للفترة الممتدة بين 1997 و2022 إلى مقاربتين مختلفتين (مقاربة تقييم استدامة الدين العمومي في تونس على الطريقة المحاسباتية Evaluation de la soutenabilité de la dette tunisienne par l’approche comptable ومقاربة التقييم بالأساليب الاقتصادية القياسية Evaluation de la soutenabilité de la dette tunisienne par l’approche économétrique) واستنتجا من ذلك أن المديونية التونسية شهدت مرحلتين مختلفتين الأولى ما بين 1997 وسنة 2010 والثانية من 2011 إلى 2022. وبينت نتائج التقييم بالطريقتين أن الفترة الثانية التي شهدت ارتفاعا سريعا في حجم المديونية تأثرت فيها عملية التنمية تأثّرا سلبيا.
ونتيجة لذلك اعتبرا أن "تجاوز عتبة الاستدامة" ينبغي أن يكون مدعاة لإطلاق تحذير بضرورة عقلنة خيار التداين الذي ما أن يتجاوز هذه العتبة يصبح مضرا بالتنمية لا في خدمتها (3).
3 – بعض الاستنتاجات الخاصة
إن المطّلع على حجْم القروض التي يتعيّن على الدولة التونسية البحث عنها في الداخل (حوالي 12 مليار دينار) وفي الخارج (حوالي 16 مليار دينار) لتوفير الموارد اللازمة لميزانية السّنة الجارية لا يأخذ في الاعتبار المعايير الاقتصادية والمالية الواجب التقيّد بها لضمان تحقيق نسبة نموّ مقبولة في الحد الأدنى. كما ان التعويل على التداين بهذا المستوى يؤكد أن الدولة لا تولي لتداعياتها على النتائج الميزانية المستقبلية excédents budgétaires futurs actualisés les. وبعبارة أخرى فإن الإمْعان في التّعويل على التّداين في وقت يبدو واضحا للعيان أن التداين بعنوان "دعم الميزانية" بصدد مفاقمة الأضرار والمخاطر على سيرورة التنمية الاقتصادية ومن أهمّها إثقال كاهل الميزانية بقروض ذات كلفة عالية وغير منتجة من ناحية ورهن مستقبل البلاد والاجيال القادمة على نحو خطير من ناحية ثانية.
ومما يلاحظ أيضا أن المنظومة الحالية، مثلها مثل سابقاتها، لا تنظر لعملية التداين إلا بشكل محاسباتي ومن زاوية الحاجيات الظرفية لسد الفجوات الظاهرة التي تبرزها صياغة الميزانية السنوية للدولة. وهذه النظرة الكمية والظرفية أدت بنمط التنمية في تونس إلى السقوط في مأزق يبدو الخروج منه، اليوم وعلى المدى المنظور، أمر على غاية من الصعوبة.
جيلاني الهمامي
تونس في 5 ماي 2024

هوامش
1 – أنظر المقالة بعنوان، ميزانية 2024: أعلى نسبة تداين تجسيما لشعار -التعويل على الذات – على الرابط التالي :
جيلاني الهمامي - ميزانية 2024: أعلى نسبة تداين تجسيما لشعار -التعويل على الذات (ahewar.org)

2 – أنظر التقرير على الرابط التالي :
soutenabilite-de-la-dette-publique-en-tunisie.pdf (itceq.tn)

3 – تقرير "استدامة الدين العمومي في تونس: التحديات والديناميكيات" (مارس 2024) ص 21